مقدمة:
في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن تفاصيل الشق السياسي لما سمي بـ “صفقة القرن”، بعدما تم الإعلان عن الشق الأول منها وهو الشق الاقتصادي في ورشة عمل عقدت في العاصمة البحرينية، المنامة، بعنوان “السلام من أجل الازدهار” وذلك في حزيران عام 2019. وفي الوقت الذي تستمر فيه الهيمنة الصهيونية والاستعمارية على فلسطين، وفي ظل تصاعد قوى اليمين المتطرفة في واشنطن بقيادة ترامب، يأتي كتاب الدكتور عزمي بشارة “”صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال وما العمل؟” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2020، ليجسد مساهمة فكرية واستثنائية، في تفكيك وتحليل هذا المنعطف التاريخي الخطير في حياة الفلسطينيين بل وفي الوطن العربي بأكمله.
يقدم الكتاب مقاربة نقدية جديدة لفهم حيثيات وتفاصيل صفقة القرن والتي سميت “صفقة ترامب – نتنياهو“، وفي محطات أخرى أطلق عليها المؤلف تسمية “الرؤية” لفهم أحداث القضية الفلسطينية بمجرياتها وتطوراتها والفاعلين فيها، مع تفصيل وتشريح لديناميكية الأحداث التي أدت إليها، وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟
يتكون هذا الكتاب من 159 صفحة، تتمحور حول أربعة أجزاء، جاء الأول بعنوان: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”، ويشمل خمسة أقسام، أما الثاني فقد ورد بعنوان: “كيف وصلنا إلى هنا”، بينما الثالث بعنوان: “ما العمل”، والرابع بعنوان: ” الرأي العام العربي والقضية الفلسطينية”. ونظرا لما يدرسه الكتاب من زوايا معرفية تتعلق بصفقة القرن والقضية الفلسطينية، ستقدم هذه المساهمة مراجعة نقدية للكتاب وستسعى إلى التعريف به وبأهم ما ورد في أجزائه، بالإضافة إلى الاشتباك معرفيا ونقديا مع أبرز ما ورد في طياته من أفكار وتصورات وتوجهات ناظمة له.
الجزء الأول: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”
في الجزء الأول وعنوانه: “نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني-ديني”، الشق الأكبر من الكتاب، ويتكون من خمسة أقسام، يوضح بشارة كيف أن صفقة القرن بدأت من الصفر، وشكلت لحظة قطع دون كل المبادرات الأميركية السابقة، على الرغم من انحياز تلك المبادرات مع إسرائيل. يصوب المؤلف هنا بوصلة اهتمامه نحو الدور الذي لعبته صفقة القرن في “تغيير الموقف الأميركي من الانحياز إلى إسرائيل والتحالف معها، إلى التماهي المعلن وغير المنضبط مع مواقف اليمين الصهيوني”، بجانب تخلي أميركا عن دورها كوسيط وراعي لعملية السلام وتحولها إلى آمرٍ يقوم بإملاء شروطه على الفلسطينيين والعرب بالضغط الفعلي من طرف واحد(ص17).
“القطع مع المبادرات الأميركية السابقة والبدء من جديد”
في هذا القسم الأول من الجزء الأول، يناقش المؤلف كيف أن صفقة القرن بدأت من الصفر، ويرد على فرية إسرائيلية نمطية موجودة في ذهن بعض السياسيين العرب والمطبعين مع إسرائيل، مفادها أن العرب هم من يرفضون السلام دائما، بينما الحقيقة التي يكشف عنها المؤلف الستار بالأدلة الدامغة أدهى من ذلك، وهي أن ما يروج عن الرفض العربي ما هو إلا وهم، فالرافض المثابر كان إسرائيل (ص17).
ويدعم ما يذهب إليه بأدلة قوية، من خلال تتبع مسار مبادرات السلام الأميركية في المنطقة والتي رفضتها إسرائيل تماما وأجهزت عليها. ويصب المؤلف تركيزه لإثبات ذلك على مبادرة وليام روجرز (1969-1973) في حزيران 1970 (ص19)، ومبادرة مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي (1977-1981) عام 1977(ص22)، ومشروع الرئيس رونالد ريغان (1981-1989) من عام 1982 (ص25)، ومبادرة “خارطة الطريق” التي طرحها الرئيس جورج بوش الابن (2001-2009) (ص29)، ومقترحات الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري(ص31).
في كل مرة كانت إسرائيل هي من تُجهز على عملية السلام وترفضها، وهذا يدلل بشكل قاطع على الهيمنة الاستعمارية الصهيونية ورفضها المثابر لمبادرات السلام الأميركية، ردا على الصلف والترويج والتنافر الإدراكي الذي يحمله البعض بأن العرب هم من كانوا يرفضون وبأن الفلسطينيين هم من “أضاعوا أرضهم”، بينما الحقيقة عكس ذلك تماماً.
وفي الحقيقة، على الرغم من هذه الأدلة الدامغة، إلا أن الدور الأميركي المنحاز سابقا لإسرائيل لا يقل ضراوة عن موقفها حاليا، فانحيازها التام لإسرائيل شكل دائما عقبة أمام قيام دولة فلسطينية، ولا أدل على ذلك من ما يذكره الكاتب حول مبادرة رونالد ريغان، الذي أكد بأن الولايات المتحدة لن تؤيد إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بل أن الحديث كان عن حكم ذاتي مرتبط بالأردن (ص25).
“تنفيذ أمريكي للصفقة قبل إعلانها”
في القسم الثاني من الجزء الأول يوجه الكاتب سهام النقد على الفريق الذي تولى رسم صفقة القرن وهم أربعة أشخاص: جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، وديفيد فريدمان، صهيوني يميني، وجيسون غرينبلات، وخلفه آفي بيركوفيتش (36-46). وفي سياق وضع خطة التنفيذ للصفقة تحت المجهر، عرض المؤلف الكيفية التي طبق بها الفريق السابق “صفقة القرن” قبل إعلانها، والتي مكنتهم من فحص ردود الفعل العربية والدولية حول الصفقة بعد كل خطوة. تمثلت هذه الخطوات الاستباقية وفقا للمؤلف في العمل على تصفية “الأونروا” بوقف التمويل الأميركي عنها، ثم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس مع الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وطرد بعثة منظمة التحرير الفلسطينية من واشنطن، واعتبار أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية شرعية ولا تعد خرقا للقانون الدولي(ص37-40).
وبالنسبة لمسألة الاستيطان فإنها بحاجة إلى وقفة هنا، حيث يرى المؤلف بأن اعتبار إدارة ترامب المستوطنات شرعية، يعد تحولا في موقف واشنطن تجاه الاستيطان الإسرائيلي على أرض فلسطين (ص40). في محطات عدة، امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) حينما تعلق الأمر بإدانة الاستيطان، وتحديدا قرار مجلس الأمن رقم 446 بتاريخ 22 مارس 1979، والقرار 2334 عام 2016، فضلا عن اعتبار إدارة ريغان التي عكست موقفها من الاستيطان وعدته غير قانوني في مذكرة “هانزل”، وإدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون (1993-2001) التي أيدت رسميا صيغة الأرض مقابل السلام واعتبرت الاستيطان عقبة حقيقية للسلام، ثم إدارة بوش الابن التي عبرت عن قلقها ازاء المستوطنات، ثم إدارة أوباما التي اعتبرت تجميد الاستيطان شرطا عمليا لتقدم عملية السلام، حتى أن في عهد أوباما امتنعت إدارته عن التصدي للقرار 2334 الذي أدين فيه الاستيطان (ص43).
توافق الأكاديمية نورا عريقات مع ما يجادل فيه بشارة معتبرة بأن موقف إدارة ترامب تجاه الاستيطان باعتباره قانونياً، يعد استثناء عن مواقف الإدارات الأميركية السابقة وتحديدا أوباما. وتجادل عريقات بأن هذا الموقف جاء نتيجة للعمل القانوني الذي روجته إسرائيل على مدار العقود الماضية، إذ يكمن جوهر العمل القانوني للاحتلال في ادعائه المستمر بأن الظروف الفريدة له ولفلسطين تشكل حالة استثنائية أو وضعًا خاصًا للتجاوزات، و بالادعاء بأنه لا يوجد إطار قانوني قائم بالكامل لعلاقاتها مع الفلسطينيين، ليضع الاحتلال تدريجيًا نماذجه القانونية الخاصة به باعتباره “دولة” ذات سيادة تتمتع بصلاحيات قانونية لإعلان مثل هذا الاستثناء مدعيًا بأن تصرفاته لا تتجاوز حدود القانون (١). هذا الرأي الذي كانت تخالفه الولايات المتحدة سابقا، تماهت معه إدارة ترامب ووافقت عليه، وهو ما أثار الحنق والغضب لدى الليبراليين، الذين يعدون أن “النقاش القائم حول ماهية الصواب والخطأ تحت القانون الدولي لن يحقق السلام مثلما لا يعزز الخوض في المسائل القانونية عملية السلام”.(٢)
“في متن النص: السطور تغني عما بينها”
يرتحل المؤلف في القسم الثالث من الفصل الأول في دروب القضايا المطروحة على بساط النقد إلى تحليل اللغة، ويستحضر هنا مجموعة من الإسقاطات المهمة والتي تشكل دروسا حول سلوك اليمين الشعبوي في العلاقات الدولية، مؤكدا بأن هذه الصفقة ما هي إلا بلورة لمنطق ولغة القوة، فضلاً عن الاعتناق الكامل للسردية الإسرائيلية التوراتية وكأنها قانون دولي أو اتفاقية سياسية معاصرة أو صك طابو، ناهيك عن العودة إلى النبرة الاستعمارية الوصائية المستفزة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر (ص 46-47). هنا، يؤكد المؤلف على عدم صلاحية التفسير السياسي للنصوص الدينية، فالدولة والسيادة والشرعية والاستعمار وحق تقرير المصير كلها مصطلحات حديثة غير توراتية، ومن المفترض أن ترفض دولة مثل أميركا يمنع دستورها الانحياز إلى دين بعينه تسخير النص الديني والتورط في الاستغلال الحزبي للدين. أما فيما يتعلق بالسردية العلمانية الإسرائيلية التي تتبناها الوثيقة وفي تفاعلها مع المنطقة ومنظورها لقضية الأمن، فينتقد بشارة ما تتضمنه من احتكار في لعب دور الضحية، وأنها دائما محاطة بالأعداء حتى حين تكون هي من يقترف الجرائم (ص53) (٣). يستفز المؤلف ما تحتويه ما أسماه ب “الرؤية” من لغة التطوير العقاري، فحينما تتجاوز الجزء الأول والثاني من الصفقة، اللغة تصبح لغة مطورين عقاريين، مما يدلل على العقلية الرأسمالية العقارية في قيادة دولة عظمى رامية وراء ظهرها الشرعية الدولية (٤).
“مغالطات”
هنا في القسم الرابع من الجزء الأول، ينتقل المؤلف من تحليل اللغة إلى ما تم دسه في الوثيقة من مغالطات فجة تستخف بعقول الناس، فندها في ستة بنود، محذرا مما حملته من مفاهيم خاطئة ومغلوطة، منها على سبيل المثال، لا الحصر، الادعاء بأن إسرائيل انسحبت من 80% الأراضي التي احتلتها عام 1967، واعتبار اليهود القادمين من الدول العربية “لاجئين” (ص56-68). وهنا في المثال الأول الحديث عن سيناء وليست كما تدعي الوثيقة الانسحاب من 88% من أرض فلسطين (ص56)، أما حقيقة اعتبار اللاجئين يهود، يرد المؤلف الى أن ذلك مخالف لجوهر الصهيونية التي لا تعدهم لاجئين وإنما قادمين جدد “عوليم حدشيم” وتعتبر قدومهم ممارسة للصهيونية(ص58).
ولعل ما دفع المؤلف إلى ذكر هذه المغالطات هو افتقار الوثيقة للقيم والأخلاقيات الإنسانية، واستنادها على ادعاءات غير صحيحة وفاسدة لا يؤخذ بها، تأسيسا على ما تضمنته من كذب وتلفيق وخداع، قائم على جهل واضح من ادارة ترامب لحقائق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتجاهل واضح للقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فضلا عن أن الصفقة لم تحمل شيئا جديدا وإنما عكست الواقع الموجود فقط.
“حول الدولة والسيادة”
من القضايا الكبرى التي جعلها بشارة في سلة المراجعات ما جاء في القسم الخامس من الجزء الأول حول مسألة الدولة والسيادة ونقد ما تضمنته صفقة القرن بشأنها. ووفقا لخطة ترامب-نتنياهو، فإن هناك شروط محددة لإقامة الدولة الفلسطينية، ومن يقرر استيفاء هذه الشروط من عدمه هما الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يعني إقامة الدولة الفلسطينية وفقا لما تراه الأخيرتان مناسبا فقط. أما السيادة، فهي أمر ملتبس ومفهوم مرن بالنسبة للفلسطينيين وحدهم، أما بالنسبة لإسرائيل فهي مطلقة ليست فقط على أراضيها وشؤونها الداخلية بل تتضمن أيضا جيرانها بحجة أمن إسرائيل. لا تتحدث الصفقة هنا عن سيادة منقوصة على الأرض فحسب، وإنما سيادة منقوصة على شؤونهم الداخلية أيضا ووفقا لما يراه الإقطاعي ترامب و “الحربجي” نتنياهو ملائما للفلسطينيين (70-71). يلفت المؤلف هنا إلى محاضرة كان قد ألقاها نتنياهو عام 2009 في جامعة بار إيلان “منظرا” بنفس المفهوم السابق(٥)، مما يعني بأن الشروط التي تتضمنها الصفقة هي رؤية نتنياهو حول السيادة كونها تتطابق مع ما قاله في تلك المحاضرة (ص 68-67).
الجزء الثاني: “كيف وصلنا إلى هنا”
وعلى هدى النص ينتقل بشارة في الفصل الثاني من الكتاب إلى الحديث عن التحولات الإقليمية الأساسية التي عصفت بالمنطقة وأدت إلى هذه الصفقة الكارثية، فالإجابة عن سؤال كيف وصلنا إلى هنا في سياق القضية الفلسطينية يمكن اعتباره معطى تاريخي ناتج عن الظروف السياسية السابقة وتفاعلها مع التطورات في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة، وارتباطها في العلاقة الجدلية بين الشعبوية والنيوليبرالية. كما لا يمكن فهم صفقة القرن بدون تشخيص الأزمة ومعرفة معطياتها، للتوصل إلى ما يمكن أن يساهم في الخروج بخطة عمل. وفي سياق مراجعته المستندة إلى التاريخ، تتبع المؤلف دلالات توقيع بعض الأنظمة العربية الصلح مع إسرائيل على القضية الفلسطينية. كما يناقش البيئة السياسية التي أفضت إلى اتفاقات أوسلو وفشل نتائج هذه الأخيرة، وصولاً إلى الانقسام الفلسطيني، وما أفضى ذلك من استغلال إسرائيل لهذه الصراعات في الوطن العربي وفلسطين بهدف التغول الاستيطاني في كل من الضفة الغربية والقدس، وبالتالي إجهاض أي تسوية سياسية (ص80-97).
الجزء الثالث: “ما هو العمل”
يسلط بشارة هنا الضوء على المشروع الوطني الفلسطيني الحالي وتداعيات فشله نتيجة لعدة عوامل منها: هبوط هذه الصفقة على واقع عربي مرير، وتصاعد اليمين المتطرف الصهيوني الأميركي، والتغيرات السياسية في المنطقة التي خلفتها ورائها ثورات الربيع العربي، والانقسام بين القوى السياسية الفلسطينية. ويدعو بشار إلى ضرورة العمل على رؤية استراتيجية جديدة لمواجهة نظام الفصل العنصري الاستعماري “الأبارتهايد” القائم حاليا في فلسطين، وخصوصا بعدما ثبت فشل المشروع الحالي بقيادة منظمة التحرير، بسبب أوسلو والرهان الخاسر على أميركا. يرى بشارة في فلسطين قضية تحرر من واقع الاحتلال والشتات والفصل العنصري المتزامن مع واقع الشرذمة السياسية في الوضع الفلسطيني، ولكي يكون بالإمكان مقاومة مشروع ترامب-نتنياهو يجب أن تسمى قضية فلسطين باسمها: “قضية استعمارية غير محلولة”، وأصبحت تتجلى على شكل نظام عنصري وبانتوستانات الفرق بينها وبين جنوب أفريقيا أن “بانتوستاناتنا” هذه لا تعترف بواقعها المرير (105-109).
وهنا لا بد الانتباه إلى أن دعوة المؤلف لوجود استراتيجية أو رؤية لمواجهة نظام الفصل العنصري تخلق عبئا على إسرائيل نفسها وتشكل تهديدا لقلب المشروع الصهيوني اليميني المتطرف العنصري. وهذا واضح من تصريح أحد القيادات الإسرائيلية، إيهود أولمرت عام 2009، خلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء، “أن الفشل في إنشاء دولة فلسطينية سيجبر إسرائيل على “مواجهة صراع على غرار جنوب إفريقيا من أجل حقوق متساوية في التصويت، وبمجرد حدوث ذلك، تنتهي دولة إسرائيل”(٦).
وهنا لا بد من القول إن هناك تقصير من جانب القيادة الفلسطينية في تبني نهج جديد لمواجهة نظام الأبارتهايد، حيث تشير نورا عريقات إلى أنه “على عكس الوضع في منتصف السبعينيات عندما دعمت منظمة التحرير الفلسطينية تطبيق القرار 3379، لم توافق القيادة الفلسطينية اليوم رسمياً على إطار مناهضة الفصل العنصري. ذلك أن الاعتراف بنظام قانوني فريد –أي وجود استراتيجية لمواجهة نظام الابارتهايد- من شأنه أن يتعارض مع طموحاته في إقامة دولة. وقد أشارت السلطة الفلسطينية الرسمية إلى نظام الفصل العنصري وإمكانية قيام دولة ديمقراطية واحدة فقط كتهديد لإجبار التسوية الإسرائيلية في المفاوضات (٧).
الجزء الرابع: ” الرأي العامّ العربي والقضية الفلسطينية”
يضع المؤلف هنا تفاعل الرأي العامّ العربي مع القضية الفلسطينية تحت المجهر، ويدحض ما تم الترويج له من قبل بعض المحللين السياسيين والمثقفين وغيرهم، بأن هناك تغير جذري في الرأي العام بخصوص القضية الفلسطينية باعتبارها ليست قضيتهم وتشكل عبئاً كبيراً على العرب. ولدحض ذلك، يستعين بشارة ببيانات المؤشر العربي، حيث يورد “تشير بيانات المؤشر العربي منذ استطلاعه الأول، وحتى عام 2020، إلى أن اتجاهات الرأي العام المختلفة تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربية، وليست قضية تخص الشعب الفلسطيني وحده؛ إذ أن هناك شبه إجماع بين مواطني المجتمعات المشمولة باستطلاعات المؤشر، وبنسب تزيد على ثلاثة أرباع المستجيبين، على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب أجمعين، لا قضية الفلسطينيين وحدهم” (ص126). بل أبعد من ذلك، يرفض جزء كبير ممن يعتبرون أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم اعتراف حكوماتهم بإسرائيل أو التطبيع معها. وهذا يعطي خلاصة وفقا للمؤلف إلى أن الرأي العام العربي يرفض منح الشرعية لإسرائيل في المنطقة، ولا يقبل تطبيع العلاقات معها، كما أن ثلث المستجيبين عللوا رفضهم الاعتراف بإسرائيل كونهم يرونها دولة احتلال واستعمار استيطاني (ص131).
خاتمة وتعليق:
كان ما سبق هو عرض موجز، وقراءة مختصرة لأهم ما ورد في الكتاب من نقاط رئيسية، على الرغم من صعوبة الإلمام بكافة القضايا التي وضعها المؤلف على بساط المراجعة؛ وذلك لتشابك القضايا المعرفية التي يدرسها، وتوزعها بين السياسة والعلاقات الدولية والتاريخ والاجتماع. وجماع القول إن كتاب “صفقة ترامب – نتنياهو”: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال وما العمل؟، يعد مساهمة كبيرة في دراسات القضية الفلسطينية، ذلك أنه يوثق لحظة تاريخية حساسة ودقيقة لا زلنا نعيش آثارها ومآلاتها في الوقت الحاضر، فضلا عن دراسة أطوار تشكلها وجريانها بمقارنتها بأحداث سياسية تاريخية سابقة وصولا إلى تفكيك الواقع وكيفية الخروج منه من خلال تعزيز الصمود ومقاومة نظام الفصل العنصري الصهيوني على الرغم من المشهد السوداوي الذي يحيط بالمنطقة.
يسعنا هنا، أن نتحدث عن نقطة مهمة ربما من الواجب أن يتم دراستها في المستقبل، وتناولها الكتاب بشكل جزئي، وهي ترتبط بالتغير الكبير في الوضعين العربي والإقليمي بسبب ثورات الربيع العربي عام 2011 وحتى اللحظة، إذ يقر المؤلف بأنها تستحق الدراسة بتعمق فيما بعد كونها تشكل تحولا كبيرا، وخصوصا أن المؤلف له إنجازات عديدة في هذا المجال نذكر هنا مثالا واحدا وهو كتاب “سورية ودرب الآلام نحو الحرية”. وقد أشار المؤلف إلى أثر هذه الثورات من منظور جزئي معللا أننا لا زلنا نعيش هذه المرحلة. فهناك حاجة ملحة إلى دراسة الوضع العربي الحالي وإسقاطاته على القضية الفلسطينية، إذ يلاحظ بأن هناك توجه لدى بعض الأنظمة في الوقت الحالي للتطبيع مع إسرائيل، وأبعد من ذلك إلى التحالف معها، وبالتالي تجريد هذه الأنظمة للقضية الفلسطينية من مركزيتها. وهذا حقيقة حذر منها المؤلف في تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر تقول “وقد دأب المتمسكون بعدم تطبيع العلاقات مع الاحتلال على النقد المحق للأفراد الذين تعاونوا مع إسرائيليين أو زاروا إسرائيل.. إلخ. لكن ما يجري بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل حاليا يتجاوز التطبيع إلى التحالف وحتى تشكيل محور. من السخف اعتباره مجرد تطبيع”.
وأخيرا، لا يمكن إغفال الصورة الفريدة التي قدمها الكتاب لقراءة الأحداث التاريخية السياسية وتداعياتها على الوضع الفلسطيني وعلى المنطقة العربية، ومثل هذا النوع من الدراسات التي تتناول الحدث من أبعاده وزواياه المختلفة داخليا وخارجيا مثل ما فعله بشارة، وصولا إلى “ما هو العمل”، والرد على هذا الكم من المغالطات الواردة في الوثيقة وفي تصور بعض الكتاب والمثقفين وحتى الأنظمة، هو عمل فكري ونقدي جريء، وقيمة مضافة إلى الفكر السياسي المعاصر، واستنهاضا لقضية عادلة. والمطلوب حاليا وفقا للمؤلف” هو صياغة استراتيجية التحرر وأهدافه، وليس اقتراحات حلول. والخصم هو نظام الأبارتهايد في فلسطين، ويجب أن يكون خطاب هذا النضال ديمقراطيا، فلا يمكن في هذا العصر، حين تدور من حولك نضالات عربية ضد الاستبداد، أن تخوض نضالا من أجل العدالة بخطاب غير ديمقراطي، فلن يقتنع أحد بصدقيتك”(ص 110).
قائمة المراجع: