“لا بدّ من تذوق الكلمات، على المرء أن يتركها تذوب في فمه”
سكارميتا، من رواية «ساعي بريد نيرودا»
تقدّم “رمان الثقافية” بالتعاون مع “دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع” هذه الأيّام صورة شاملة عن مجمل أعمال الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا التي تعكس تنوّعه، والذي كان المترجم الفلسطيني السوري صالح علماني (1949 ــ 2019) -صاحب أهم وأكثر الترجمات عن اللغة الإسبانية- أوّل من تعاونت معه الدار السورية لنقل بعضٍ من روائع سكارميتا إلى لغة الضاد، فتعرف القارئ العربي إلى روائي فذّ ومترجم قدير من الطراز الرفيع، فرغم وجود العديد ممن ترجموا أعمالاً لمبدعي أمريكا اللاتينية، إلّا أنّ علماني ظلّ محتفظاً بنبرة متميزة، حتّى صار اسمه دالاً على ترجمات أعمال عظيمة أدخلتنا في عوالمهم الساحرة الغريبة، وتركت أثراً كبيراً من الإدهاش.
ترجم علماني على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، ما يزيد عن مئة عمل عن اللغة الإسبانية، لكتّاب كبار أمثال: غابرييل غارسيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسا، وإدواردو غاليانو، وإيزابيل اليندي، وخوزيه سارماغو، وأنطونيو سكارميتا، الذي عرفنا من أثره الأدبي -بفضل علماني– روايات «ساعي بريد نيرودا»، و«عرس الشاعر»، و«فتاة الترومبون»، و«أيام قوس قزح»، والتي ستعيد “ممدوح عدوان” طباعتها احتفاءً بسكارميتا، في وقت تعمل فيه دار النشر السورية على طباعة المزيد من أعمال الكاتب التشيلي، التي عمل ويعمل على ترجمتها حالياً، المترجمان السوري عمار أتاسي والمصري عبد السلام باشا، اللذان تواصلت معهما “رمان” ومع الناشر مروان عدوان مدير “دار ممدوح عدوان للنشر” للحديث عن ترجمة سكارميتا…
عدوان: علماني كان بوابتنا إلى عوالمه
بداية حديثنا كانت مع الناشر مروان عدوان مدير الدار، وقد بدأ كلامه معنا بالقول: “إنّ بعض الكتب يبقى مذاقها طويلاً. قرأت «ساعي بريد نيرودا» منذ سنوات عديدة وبقي سحرها عالقاً معي إلى الآن. لدي اعتقاد أنّ جزءاً كبيراً من الاستمتاع بعمل فني هو مشاركته مع الآخرين، ومن متع العمل في عالم النشر هي القدرة الأوسع على المشاركة؛ أن تشارك القراء كتاباً أحببته أو كاتباً أعجبك. لهذا كان مشروع العمل على ترجمة سكارميتا من المشاريع الأولى التي بدأنا التخطيط لها منذ بدء العمل في الدار”.
يتابع: للأسف لم يترجم لسكارميتا سوى أعمال قليلة، ذلك على الرغم من غزارة إنتاجه وتنوعه في الرواية والمسرح والمقالة. كان الراحل صالح علماني هو بوابتنا إلى اكتشاف سحر سكارميتا عبر ترجمة «ساعي بريد نيرودا»، ومن ثمّ تلاها بـ«عرس الشاعر» و«فتاة الترومبون» و«أيام قوس قزح». وعلى الرغم من اتّجاه أغلب دور النشر إلى نشر الأعمال المترجمة، إلّا أنّنا ما نزال نعاني من مشكلة المحدودية والتكرار، فنرى عشرات الترجمات والطبعات لنفس الكتاب بدلاً من العمل على ترجمة مشاريع جديدة”. مبيّناً عدوان أنّه “يصدر مئات آلاف الكتب كلّ عام حول العالم، لكنّنا في العالم العربي ما زلنا نعاني من قلّة مشاريع الترجمة الجديدة نسبة إلى الأعمال التي تصدر”.
وأشار الناشر السوري، المقيم في مدينة دبي، إلى أنّ “المئات من الكتّاب المهمّين حول العالم مازالوا للآسف مجهولين بالنسبة لنا في العالم العربي، وحتّى الكتّاب الذين تُرجمت بعض أعمالهم ظلّوا “مجهولين” لاقتصار هذه الترجمات على عدد محدود من الكتب التي حقّقت نجاحاً مسبقاً عند القارئ العربي. ففي كثير من الأحيان لا يُترجم للكاتب سوى عمل أو اثنين ويعاد نشره بعدّة طبعات بدلاً من الاطّلاع على أعماله الأخرى للتعرف عليه بشكل أوسع، أو حتّى الاطّلاع على منتج كاتب جديد لم تسبق ترجمته. لهذا كان جزء من عملنا في الدار هو التوجّه لطباعة الأعمال الكاملة أو قسم كبير من أعمال الكتّاب اللذين نرغب بمشاركتهم مع القراء”.
يضيف مروان عدوان: “أطلقنا مشروع سكارميتا في العام 2018 بإعادة نشر رواية «ساعي بريد نيرودا»، من ترجمة الراحل صالح علماني، ورواية «أب سينمائي» من ترجمة عمار أتاسي (تصدر للمرّة الأولى). خطتنا في المشروع هي تقديم عمل سبق نشره باللغة العربية، وعمل جديد. فأصدرنا بعدها رواية «رقصة النصر» بترجمة عبد السلام باشا (تصدر أيضاً للمرّة الأولى)، وأعدنا نشر رواية «عرس الشاعر» بترجمة الراحل صالح علماني، ويصدر قريباً روايتا «لم يحدث أيّ شيء» و«التمرد» بترجمة عبد السلام باشا، و«حلمت أن الثلج يشتعل» بترجمة عمار أتاسي، وسيليها «فتاة الترومبون» و«أيام قوس قزح» بترجمة الراحل صالح علماني. وسنعمل على نشر بقية أعماله تباعاً. وبهذا نسعى إلى أن نقدّم صورة شاملة عن مجمل أعمال سكارميتا تعكس تنوّعه”.
ويختم مُحدّثنا بالقول: “لسكارميتا أسلوب ساحر وقدرة مذهلة على استخدام الاستعارات، فيمزج الرواية بطعم الشعر. وتتميز أعماله بالغوص في التفاصيل الساحرة للعلاقات الإنسانية البسيطة التي تُشعر القارئ أنّه جزء من العمل الذي يقرأه فيصبح فرداً من ذلك المجتمع، سواء كان جزيرة صغيرة أو قرية نائية في تشيلي أو حي مهاجرين من أصل تشيلي في ألمانيا. وعلى الرغم من تركيزه في مجمل أعماله على المجتمع التشيلي، فإنّ رواياته تحمل أبعاداً عميقة تعكس أسئلة ومواضيع حساسة ومهمة للقارئ في كلّ مكان: عن القمع والديكتاتورية واللجوء والغفران والبحث الدائم عن الحرّية”.
أتاسي: أحببت فيه مهارة الراوي
بدوره يخبرنا المترجم السوري عمار أتاسي، المقيم في إسبانيا، أنّه ترجم رواية «أب سينمائي» التي كتبها التشيلي سكارميتا عام 2010 ونشرت بالعربية من قبل “دار ممدوح عدوان للنشر” في دمشق عام 2018. ويقول: أنهيت ترجمة رواية أخرى للكاتب كانت هي الأولى في مسيرته الروائية بعد مجموعتين قصصيّتين، تحت عنوان «حلمت أن الثلج يشتعل» والتي كتبها بمساعدة منحة تلقّاها في ألمانيا للتبادل الطلابي، وستصدر نهاية العام عن الدار ذاتها”.
أتاسي كشف لـ “رمان” أنّ له علاقة خاصّة مع تشيلي، “أحبّ كلّ ما فيها منذ أن بدأت بتعلم اللغة الإسبانية ولهجاتها المختلفة. عرضتُ على الدار ترجمة أدب من هذا البلد اللاتيني واتّفقنا بعد نقاشات على ترجمة رواية «أب سينمائي»، وهي رواية خفيفة -إن صح التعبير- طابعها ريفيّ وحكايتها بسيطة تجذب محبّي الرواية. وبعدها اتفقنا على ترجمة «حلمت أن الثلج يشتعل» وهي لا تشبه الأولى، فهي رواية سياسيّة ذات أبعاد اجتماعية، يمكن أن نرى فيها انعكاس واقع الحال في بلادنا العربية بسبب أنّ سكارميتا كتبها عام 1975 أي بعد سنتين من خروجه من تشيلي. تغوص في وصف أجواء الشارع التشيلي قبيل انقلاب “أوغستو بينوتشيه” بأيام، والذي جرى في 11 أيلول (سبتمبر) من عام 1973، تنقل الرواية عبر أبطالها غليان الشباب في الشوارع والنقابات، والإحباط الذي اجتاحهم فأصابهم في مقتل بعد سيطرة دبابات “بينوتشيه” على “لا مونيدا” أو القصر الرئاسي في البلاد”.
وتابع حديثه قائلاً: “عرفت سكارميتا منذ عام 2008 مع مجموعة من الأصدقاء التشيليّين في إسبانيا، فهو كثير الظهور على الإعلام الوطني في تشيلي، وكان يقدم برامج حوارية ثقافية وأدبية. ثمّ عرفته قارئاً لترجمات الراحل الأستاذ صالح علماني كما تعرّفنا على معظم كتّاب هذه القارة، وأخيراً عرفته مترجماً لعملين روائيّين. رغم ذلك لا أدّعي معرفةً عميقةً به كشخص، يبدو لي كسائر الكتّاب صريحاً مع ماضيه وحاضره، وفياً لمجتمعه ولنضاله السياسي، لعلّه محظوظ لشدّة ما حصّل علمياً سواءً في تشيلي متتلمذاً على أيادٍ مخضرمة وفي جامعات مرموقة مثل جامعة كولومبيا”.
يكشف المترجم السوري: أنّه أحبّ في سكارميتا مهارة الراوي، “سيّما حين يحكي قصة هجرة عائلته من كرواتيا إلى تشيلي هاربين من العسكر”. ويعترف أتاسي أنّه حين يترجم رواية ما، فإنّه يحاول التماهي فيها، “أكلّم نفسي بلهجة الكاتب، أكلّم الناس في الشارع بتلك اللهجة. أبحث في تفاصيل الحياة اليومية لسياقها التاريخي والاجتماعي. أحاول فهم الكاتب لكي أبسط ذات الجسر لمن سيقرأ النسخة العربية”.
أتاسي لا يخفي أنّه واجهته -على سبيل المثال- في ترجمة «حلمت أن الثلج يشتعل» معضلات جمّة، موضحاً: أنّ “سكارميتا كان قد خرج من تشيلي إلى الأرجنتين ثمّ ألمانيا في أقل من سنتين، ذاكرته طازجة، يتكلّم عن الحدث الكبير وهو الانقلاب في تشيلي، يتوجّه إلى التشيليّين دون أن يفكّر بالمترجم الذي سينقل النصّ إلى شعوبٍ أخرى. يحدّثك بنبرة ومصطلحات تشيليّة، عن مرطّبات تشيليّة، عن مطاعم وأزقّة، غير أنّ اللهجة هي من أصعب اللهجات الإسبانية في العالم كلّه، من ناحية عدم لفظ وأحياناً عدم كتابة الحروف أيضاً. ناهيك عن اكتظاظ الرواية بالألفاظ النابية التي لم تجرِ العادة في العالم العربي بأن نترجمها كما هي. هو يركّز على الشارع التشيلي في أحياء “سانتياغو” الفقيرة، وبالتالي كأيّ حي شعبي في العالم، الناس غاضبة وخائفة، تسب وتشتم، فكان عليّ البحث عن مخارج على الدوام. راعني حال المترجمين الذين عاشوا قبل ظهور الإنترنت، وحتّى مع الإنترنت كنت دائم البحث في التراكيب وسؤال الأصدقاء التشيليّين عن معنى هذه العبارة أو تلك، وحتّى هم كان الأمر يلتبس عليهم.
لكنّني استمتعت بالعمل أيّما متعة وأتطلع شوقاً لإصداره ومعرفة رأي القرّاء فيه”.
باشا: الغوص في عالم المؤلف لنقل إيقاعه
من جهته قال المترجم المصري عبد السلام باشا، المقيم في إسبانيا أيضاً، إنّ “هناك أعمالاً أدبية وفنية يتماهى معها المُترجم، ويجد أنّها تُعبِّر عن أفكاره وقناعاته، بل ورغباته أيضاً، وليست مجرد نصوص يعمل عليها لأنّ عمله هو الترجمة”.
وأردف: “أعمال أنطونيو سكارميتا بشكل عامّ، والأعمال التي ترجمتها له بشكل خاصّ، هي من فئة هذه النصوص التي أعيشها، أجد نفسي داخلها، مرافقاً لشخوصها، أتشبّع بكلماتهم وأفعالهم، أتعاطف معهم وينقبض قلبي خشية عليهم عندما يمرّون بلحظات هزيمة أو ضعف”.
وهو يرى أنّ اشتباك سكارميتا في نصوصه الروائية، منذ أوّل أعماله، مع الديكتاتورية والحكم القمعي في بلده تشيلي وفي أمريكا اللاتينية، جعله ينضم لصفه في التعبير الفني عن فكرة الانتصار على الديكتاتورية ولأشواق التغيير في قالب روائي. موضحاً لنا: غير أنّ “نصوص سكارميتا ليست أعمالاً دعائية سياسية، وإنّما روايات مشوقة تجذب القارئ، بالإضافة لكونها أدب رفيع”.
المترجم المصري بيّن في حديثه لـ “رمان” أنّه “عندما اقترحت عليّ “دار ممدوح عدوان للنشر” ومديرها الصديق مروان ترجمة رواية «رقصة النصر»، تحمست لها على الفور. فضلاً عن فوزها بجائزة “بلانيتا” الشهيرة في إسبانيا عام 2002، إلّا أنّها عمل مُمتع، وترصد الانقضاض على التغيير السياسي بعد انتهاء الديكتاتورية في تشيلي واعتماد نظام سياسي قائم على الانتخابات. الانتصار في هذا العمل قائم، لكنه انتصار منقوص، غير مُكتمل”.
ويضيف: “بعد ذلك وضعت فراغات في جدول أعمالي لترجمة روايتين أخريين لسكارميتا، وهما «لم يحدثْ أيّ شيء» و«التمرد». وكما حدث في العمل السابق، انغمست كليّةً في النصّين، كنت استمتع بالترجمة كأنّني قارئ له ميزة القراءة على مهل وفرصة لتحليل النصّ وسبر أغواره. والآن بينما أقوم بمراجعة وتحرير رواية «حلمت أن الجليد يشتعل» التي قام بترجمتها مُترجم آخر، أجد نفسي وسط مغامرة أدبية مُضفرة بدقة وعناية صائغ، لها جمال مُحير، ونبرات متعدّدة، على حسب الشخوص وأشواقهم وخلفياتهم”.
ويؤكد عبد السلام باشا في سياق حديثه أنّ “سكارميتا نجح في كلّ هذه الأعمال، بالإضافة لأعماله الأخرى بالطبع، في خلق حالة من المحاكاة والترميز التي تمثلها الشخوص وأسماؤها، ويمكن الانتباه إليها بسهولة. لكنها على الرغم من هذا، تتميز بالعمق”.
ورأى أنّ مقولة “التاريخ يُكرر نفسه” تنطبق تماماً على أعمال سكارميتا. “إن قام القارئ بتغيير أسماء الشخوص والأماكن، يمكن أن يُمَوْضِع هذه الروايات في أيّ بلد عالمثالثي محكوم بالديكتاتورية ترغب شعوبه في التغيير وفي الحياة الكريمة. يصعب الجزم إن كان المؤلف واعياً بهذا أثناء كتابة أعماله. ربما كانت التفاصيل وبعض الأحداث واقعية تماماً في أعماله، وربما تنطبق على السياقات اللاتينية في السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين، لكنّ المسارات التي انتهت بها أشواق التغيير تشبه أيضاً ما حدث بعد الربيع العربي”.
لهذا -بحسب مُحدّثنا- “يكون الغوص في عالم المؤلف بشكل عامّ، وعلى الأخصّ في حالة سكارميتا، إحدى أولى المهام لفهم السياق التاريخي والأدبي قبل البدء في الترجمة. مثلما يقوم المؤلفون بالإعداد والتحضير قبل كتابة أعمالهم، أقوم كمترجم بمحاولة الاطّلاع على الأحداث التاريخية التي يشير لها العمل، والفترة التي كُتب ونُشر فيها. والأهم من كلّ هذا، أقوم بتحليل النصّ ورصد الأساليب الروائية التي استخدمها المؤلف، ومستويات اللغة المختلفة المُعبِّرة عن كلّ شخصية. وبقدر الإمكان، أحاول نقل الإيقاع الذي يستخدمه المؤلف، ومستوى اللغة أيضاً، خصوصاً عندما يكون العمل تاريخياً ومكتوباً بلغة عتيقة”.
وفي ختام تحقيقنا يؤكد باشا أنّه “على الرغم من عالمية الموضوعات التي يتناولها سكارميتا في رواياته، إلّا أنّ الأحداث والوقائع مستندة على التاريخ الحقيقي لبلده تشيلي، ولبلدان لاتينية أخرى أو لفترة المنفى عندما كان يعيش في ألمانيا. وهو مولع باستخدام اللغة المحلية بنطقها وكتابتها، كأنّ المرء يشاهد فيلماً تتحدّث فيه الشخوص بالتلقائية اليومية. هذا هو أحد التحدّيات الكُبرى لدى ترجمة هذه الروايات، لوجود الكثير من المسميات والمفردات والتعبيرات التي ربّما لن أجدها في كتاب أو رواية أخرى”.