رغم تأخر عرضه بسبب جائحة كورونا التي تسببت بتعطيل وتأجيل العديد من المهرجانات السينمائية، إلا أن فيلم المخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل الجديد والذي بدأ عرضه مؤخراً بالعديد من المهرجانات السينمائية حول العالم، «ثلاثة مخارج منطقية»، (١٤ دقيقة. مهرجان روتردام السينمائي ٢٠٢٠) والذي يعتبر، للمتابع لتجربة مهدي، امتداداً للحكاية التي روى أطرافها في أفلامه السابقة، ابتداءً من «عالم ليس لنا»، «الغريب»، «عودة رجل»، «رجل يغرق»، ليس فقط لأن شخصية الفيلم الجديد هي رضا، الشاب الفلسطيني الذي يعيش في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، قد رأيناه وأصدقاءه، ومهدي أحدهم، في بعضٍ من أفلام مهدي مثل «الغريب» و«عودة رجل»، بل لأن مهدي التزم بثيمة متعلقة بالمنفى واللجوء، باللاجئين الفلسطينيين تحديداً، والذي عبّر عن كونه جزءاً منهم، أي أنه يقدم أفلاماً من بيئته التي يعرفها جيداً، ويعرف بحسب ما ناله من تقدير وجوائز على أفلامه، كيف يحسن التعبير عنها.
ما ميز أفلام مهدي وهذا الفيلم امتداد لها، هي أسلوبه الذي شكل من خلاله لغتة السينمائية الخاصة، التي يعيش فيها مع شخصياته. يكون هو جزءاً أساسياً من حكايته التي يرويها، لا يحاكمها، ويقدمها بصدق وواقعية ضمن رؤيته، وغالباً بواقعية قاسية، قسوة تنتج عن انحيازه لتلك الفئة الأضعف والتي هو ينتمي إليها، ويتحدث عنها بصيغة الجمع، وإن كان قد أشار في مقدمة «عالم ليس لنا»، بأن حياته الشخصية ربما أكثر رفاهية منهم، أي أصدقاءه في عين الحلوة ورضا أحدهم، والذين كان يتركهم خلفه محتجزين في مخيم عين الحلوة حين يأتي من دبي أو الدنمارك ليقضي إجازته الصيفية معهم.
تلك السمة التي رافقته في معظم أفلامه منذ فيلمه التسجيلي الطويل الأشهر الذي عُرف من خلاله، «عالم ليس لنا»، والذي اقتبس عنوانه من إحدى مؤلفات الأديب الراحل غسان كنفاني، عكس في ذلك الاختيار للعنوان رؤية لذلك الفيلم، تلك الرؤية التي عكسها أيضاً في أفلامه اللاحقة، فقد اختار عنوانا يتحدث بصيغة عالم ليس “لنا”، وكان عنوانا موفقاً ومعبراً عن فيلم ينتمي لسينما السيرة الذاتية، وعبّر الفيلم بشكل واقعي عن الـ”لنا” ليكون هو إحدى شخصيات فيلمه التسجيلي، ليس فقط مخرجاً، وإنما شخصية متدخلة مؤثرة. ظلت “لنا” في حضوره الفعلي، مرةً من خلال صوته كراوٍ أي صوته الخارجي في الفيلم، وأحياناً في حديثه من داخل الفيلم المسموع من خلف الكاميرا مع الشخصية، أو من خلال حضوره من خلال المكالمة الهاتفية.
هذا التكنيك، أي المكالمة الهاتفية، قدمه مهدي بشكل جميل وممتع في فيلمه السابق «لقد وقعت على عريضة»، والذي كان كله عبارة عن مكالمة هاتفية أجراها من برلين مع صديقه في لندن، رافقتها مشهدية مكالمة رمزية ساحرة رغم بساطتها، لكنها أيضاً حملت بصمة كاميرته، ويعيد استخدام تلك التقنية لكن بنسبة أقل في فيلمه «ثلاثة مخارج منطقية»، والذي حمل لغة تجريدية واقعية، تزيل الهالات عن رؤوس شخصياتها، وتعرض منها اليومي الخاص من حياة اللاجئ الفلسطيني، الكائن البشري العادي، بأزماته وتناقضاته الشخصية والعامة.
لا يتوقف مهدي عن التجريب، ففي هذا الفيلم يظهر بصورة جديدة، ظلّ فيها محافظاً على أساسيات لغته وروحها، ففي كل فيلم تقنيات جديدة قابلة للتجريب، وتغيرات حتى في حركة الكاميرا التي بدت أكثر هدوءاً وثباتاً منذ بداية الفيلم، مقارنة بالأفلام السابقة، وأيضاً التحولات اللونية، من الأبيض والأسود إلى اللقطات بالألوان، وما تحمله من معاني ودلالات، في تسليط الضوء على الشخصية وتحولاتها النفسية. هو ذكي في رصد التفاصيل، التي تقول الكثير بالصورة أكثر مما يروى، وحتى في الرواية سواء عبر الهاتف، أو بالصوت الخارجي المباشر، أو بصوته الداخلي في الفيلم، يستطيع أن يعبّر وبإيجاز شديد، باختصار مذهل عن قضية إشكالية معقدة في وقتٍ قصير.
في هذا الفيلم يطرح قضية عمرها من عمر النكبة الفلسطينية، اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، هؤلاء المجموعة من المهجّرين “منفيون” من بلدهم المحتل إلى دولة الجوار، التي تعاملت مؤسستها السياسية والأمنية معهم كقضية أمنية وليست إنسانية، فخلقت لهم وبهم أزمة للبلد المستضيف بدلاً أن تتعامل معهم كقضية إنسانية تجعلهم أكثر مساهمة في استقرار البلد ونموه، كما فعلت دول أخرى.
فأزمة الشاب رضا، تختصر مشكلة وأزمة معظم الشباب الفلسطيني الذي ولد لأسرٍ لاجئة في لبنان، وأزمة مجتمع كامل هو جزء من الشعب الفلسطيني الذي لجأ من فلسطين إلى لبنان بعد النكبة عام 1948، ويبلغ عدد غير المجنّسين منهم قرابة 174 ألفاً حسب إحصائيات عام 2017، لا يحملون أي جنسيّة، بل يحملون وثائق سفر خاصة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، مروا بتحولات كبيرة ومصيرية ومعقدة في حياتهم في لبنان عبر تلك السنوات. وكانوا جزءاً اساسياً في حرب لبنان التي اشتعلت منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية التسعينيات، ولا يزال من تبقى منهم يشكل أزمة، لأن الحكومات اللبنانية المتعاقبة ظلت تتعامل معهم حتى اليوم، كملف أمني، ومنذ البداية سلمتهم للمكتب الثاني ليدير شؤون المخيمات، وهو جهاز أمني، اعتبره اللاجئون الفلسطينيون سبباً أساسياً في صراعاتهم السابقة مع الدولة والأحزاب اللبنانية.
www.youtube.com/watch?v=GyEqkUaPUkY