في إحدى حارات بيت لحم القديمة ما بين البيوت المتلاصقة، ولد مؤلف وناقد وتشكيلي فلسطيني من طائفة السريان الأرثوذكس اسمه جبرا إبراهيم جبرا، الذي نشأ على بعد عشرات الأمتار من كنيسة المهد.
ما بين الحاضر والماضي والماضي الأكثر غرقا في التاريخ تشكلت مدينة بيت لحم من عائلات سكنت فيها وأخرى جاءت إليها كجزء من القوافل المسيحية للحج وظلت هنا. فهي مدينة أقرب إلى طابع البلدة بشوارعها الصغيرة وبيوتها المتلاصقة، تشعر فيها بدفء وترحاب أهلها، فلطالما سمعت من عائلتي المسلمة اللاجئة الى بيت لحم في نكبة ١٩٤٨ عن كرم الكنائس التلحمية التي آوت اللاجئين المهجرين في الشتاء القارص.
ولد جبرا في شهر آب في العام ١٩٢٠ في بيت لحم، في عهد الانتداب البريطاني. ودرس في القدس وانكلترا وأمريكا ثم انتقل للعمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزي وكان له شأن لتنوع كتاباته وترجماته. فقد أنتج نحو سبعين من الروايات والكتب المؤلفة والمترجمه، كما وتُرجمت أعماله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.
وبرغم كل تلك التجربة العميقة في بقاع مختلفة، يتحدث جبرا كثيرا في مؤلفاته وتحديدا كتابه «البئر الأولى» عن بيت لحم، لأن هذه المدينة ارتبطت بشكل وثيق بطفولته ونشأته فيستذكر قول الشاعر وردزويرث: “إن الطفل هو والد الرجل” ويقول جبرا: “إن الطفولة تبقى مبعث سحر يستديم فعله الغامض ومصدر وهج يعجز عنه التفسير”.
وكتب في رواية «البحث عن وليد مسعود»: “في الشباب نخجل من الاستغراق في الذكريات، لأن الحاضر والمستقبل أهم وأضخم. ولكننا مع تقدم السنين يقل فينا الخجل من الانزلاق نحو الذكريات” ولذلك كتب كثيرا عن نشأته وذكرياته الأولى وهو في سن متأخر.
سكنت عائلة جبرا في سبع بيوت، جميعها في شارع النجمة أو بالقرب منه وهو الشارع الذي كان يسلكه الحجاج للوصول لكنيسة المهد. وسمي بشارع النجمة نسبة إلى النجمة التي ذكرت في إنجيل متى، حيثُ يروي الإنجيل أنها كشفت مكان ولادة المسيح للمجوس الثلاثة. ويتمتع الشارع بقيمة دينية تعود إلى الميلاد عندما مرت العائلة المقدسة فيه وصولا إلى مغارة المهد.
أول بيت سكنه جبرا في مدينة مهد المسيح كان يسمى بالخان، سكنت العائلة في الطابق الأرضي ويصفه جبرا بأنه طابق بدون شبابيك تدخله الشمس فقط من خلال البيت الرئيسي وهو يقع خلف الجامع الكبير أو جامع عمر بن الخطاب وهو أقدم مسجد في بيت لحم، وقد خصص هذا المسجد لذكرى الخليفة عمر بن الخطاب الذي زار مدينة بيت لحم عام 637، بعد أن كان قد أصدر مرسوما تعهد السلامة لجميع المسيحيين ورجال الدين واحترام مقدساتهم. وعودة للبيت الأول وهو الخان، فلا يزال قائما حتى الآن ويصفه جبرا في كتابه «البئر الأولى» بأنه بناء قديم! في الطابق الثاني يسكن الراهب يوسف شاهين أما في الطابق الثالث عليّة وكانت تستخدم ككنيسة للطائفة السريانية. فقد قدمت طائفة السريان من بلاد ما بين النهرين وتركيا إلى فلسطين وبعضهم سكن في بيت لحم ومنهم من فر قبيل الحرب العالمية الأولى والمذابح العثمانية لهم. وقد قدِم جد جبرا إلى بيت لحم كحاج وبقي فيها.
وتنقلت عائلة جبرا واستأجرت سبعة منازل نتيجة الفقر وسوء الحال. حيث يصف نفسه بين أترابه في المدرسة “حافي القدمين، وأكثرنا حفاة” متحدثا عن نفسه. ويقول جبرا في كتابه «البئر الأولى»: “كلما أردنا التحول إلى دار جديدة نسكنها كان أول ما نسأل عنه هو البئر، هل توجد بئر في حوش الدار؟ إلا أن الدور التي كنا نسكنها كانت من النوع البدائي. والبئر الأولى هي بئر الطفولة. لأنها تلك البئر التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان” وكل هذا كان بيت لحم بالنسبة للأديب الفلسطيني جبرا.
يقول جورج الأعمى وهو مدير “مركز دار الصباغ للثقافة ودراسات وأبحاث المغتربين”، وهو باحث في مجال الفنون: “في البحث الذي أعددته مع الباحثة ندى الأطرش وجدت لوحات قديمة لجبرا مع ابنة أخيه السيدة سوزان ومن هنا بدأ ارتباطي بجبرا وأعماله ونشأته” حيث عمل الأعمى على اكتشاف اللوحات القديمة وترميمها وهي تركز بشكل رئيس على المرأة ويظهر فيها تأثره بالفنانين الفرنسيين مثل هنري ماتيس وجورج رو.
في عمر الخامسة أصرت أم جبرا أن يذهب للمدرسة مع أخيه يوسف، فقال المدير عليه أن يأتي في اليوم التالي قبل الساعة الثامنة ولكن العائلة انتقلت في ذلك اليوم إلى بيت آخر وهو بيت الخشاشي.
يقول جورج الأعمى: “بعد البيت الثاني انتقلت العائلة إلى حوش عائلة الدبدوب، تقطنه اليوم الخياطات السريانيات”. سرت كثيراً من أمام بيت تلك النساء وهو ليس بيتا واحدا، فبيوت بيت لحم القديمة بنيت بنظام الأحواش والحوش عبارة عن تكوينات غير منتظمة من الغرف المتراصة وكل غرفة هي متعددة الاستخدامات تسكنها عائلة، وتحتوي هذه الأحواش على فراغات متوسطة شبه خاصة، ويتجمع سكان الحوش في هذه الساحة للحديث وشرب القهوة والشاي ومشاركة النشاطات، فهندسة البناء العربي قامت على أساس الجماعة وليس الفرد وترجم ذلك في شكل المباني.
تغير نظام البناء مع دخول سكة الحديد إلى فلسطين فأصبح الحديد متوفرا، وبدأت العائلات تبني الطوابق حيث تم استخدام الحديد في البناء. ثم انتقلوا إلى حوش خاطر حيث كانت هذه البيوت تطل على وادٍ بديع، كما ذكر في كتاباته وهو وادي الجمل: وادٍ ممتد من شارع النجمة إلى ما يعرف بالكركفة الآن، وقد كان في وقتها وقبل اشتعال نيران الاسمنت في المدينة التي أكلت كل ما هو أخضر، وادٍ مليء بالزراعة وأشجار الزيتون ومصاطب الحجر للحفاظ على التربة من الانهيار، وهذا الوادي الأخضر الفردوسي ألهم الأديب والفنان في بعض لوحاته لما له من جمال يسر الناظرين.
ثم سكنوا في منطقة دوار العمل الكاثوليك وراء مخبز “أبو فؤاد” الآن حيث يٌخبز أفضل كعك بالسمسم مع الفلافل في المدينة. ثم بيت سمعان، عمارة طويلة مقارنة باقي مباني بيت لحم القديمة، كتب عليها تاريخ البناء، عام ١٩٠٨، سكنت فيها العائلة حتى قبل عامين. خرجت عائلة جبرا من هذا المبنى وسلموه لأصحابه، بعد سنوات وسنوات تغير فيها نظام الحكم من الانتداب البريطاني للحكم الأردني للاحتلال الإسرائيلي وحتى مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية والانتفاضتَين وأوسلو.
في بحثي عن البيوت التي سكنها جبرا سافرت عبر الزمن، كم تغيرت فيها الدنيا والأحداث ولكن البيوت نفسها ما زالت قائمة، أحجار فلسطين قوية صلبة تتحمل عوامل الزمن. لا يغيب عن ناظري مشهد دخول الدبابات الى شوارع بيت لحم القديمة في حصار كنيسة المهد في ٢٠٠٢، فقد تحملت هذه الأحواش كثيرا من القصف والحروب والويلات.
شارع النجمة والذي وُضع على قائمة التراث العالمي، وأغلبه تم بناؤه في القرن التاسع عشر يشكل جوهر مدينة بيت لحم وأكثر شوارع المدينة جمالا، تحديدا عندما تقترب أعياد الميلاد المجيدة، فيتزين بالأضواء وبألوانها. والسائر في الشارع يلحظ ما كتب على أبواب البيوت والمصاطب والأقواس من صلوات وأدعية مسيحية دونت قبل ما يقارب مئتي عام وأكثر فيستشعر جذور المسيحيين العرب التي تضرب عميقا في أرض فلسطين، ويحزن على الهجرة المسيحية والتغير الديموغرافي لفلسطين التاريخية، ففي عصور مضت كانت العائلات المسيحية تأتي هنا لشعورها بالأمان في هذه الأراضي المقدسة، أما الأن فنسبة المسيحين الفلسطينيين لا تتعدى ٢٪ من مجمل السكان. ويمكن القول إن الهجرة الأساسية بدأت تتخذ طابعا سياسيا منذ منتصف القرن الماضي، وكان هدفها محاولة لتفريغ فلسطين من مكوناتها الحضارية وتنوعها كجزء من السياسة الإسرائيلية التي تسعى لتخريب ثقافة الشعب الفلسطيني عن طريق اقتلاعه من موطنه الأصلي وبعثرته في العالم ليتسنى لها استعمار فلسطين، وفصلها عن محيطها العربي. حيث يروي لي الأستاذ جورج الأعمى ما قالته له سوزان ابنة يوسف، الأخ الأكبر لجبرا، بأن جبرا كان يزورهم بسيارته الفولفو من بغداد لفلسطين، وكان يعود لبغداد محملا بغلات الأراضي المقدسة. أما الأن فلا يمكننا السير من بيت لحم إلى القدس والتي هي على مرمى حجر.
حملت روايات جبرا الوجع الفلسطيني من قتل واقتلاع وتغريب ومعاناة، إضافة إلى هموم المثقفين العرب كما وأن الزمان والمكان، شكّلا حضورا لافتا في أدب جبرا إبراهيم جبرا، وقد كشفت إبداعاته عن استمرارية التأرجح بين الماضي بهناءاته وبين الحاضر بمرارته، واستطاعت المخيلة الإبداعية أن تعيد صياغة الذاكرة في حلم لغوي يثري القارئ. استذكر من رواية «البحث عن وليد مسعود»: “نحن ألعوبة ذكرياتنا، مهما قاومنا، خلاصاتُها، وضحاياها معاً. تسيطر علينا، تحلّي المرارة، تراوغنا، تذهب أنفسنا حسرات، عن حق أو غير حق. كيف نمسك بهذه الأحلام المعكوسة، هذه الأحلام التي تجمد الماضي وتطلقه معاً، هذه الصور المتناثرة أحياناً فوق سهوب الذهن، والمضغوطة أحياناً كالماسات الثمينة في تلافيف النفس”.