مقالة لأهداف سويف، نشرتها ذا غارديان في ٢٠ إبريل/نيسان ٢٠٢١.
“بعد سنوات على وفاته، عام ٢٠٠٣، يبقى إدوارد وديع سعيد شريكاً في العديد من الحوارات المتخيلة”، بهذا السطر المحقّ يبدأ تيم برينان سيرة إدوارد سعيد، فمن الصعب العثور على مفكر آخر تمكن من البقاء حاضراً في غيابه. كُتبَ عن سعيد أكثر من خمسين كتاباً، وقد دُرّست كتاباته في الجامعات عبر العالم. إذا نظرتَ إلى وسائل التواصل الاجتماعي فستجدُ أن اسمه يُذكر باستمرار في حوارات مألوفة وبسيطة من قِبل شباب العالم، كما أن صورته مُعلقة على جدران أقدم مدن فلسطين إلى جانب صور الشهداء. شكّلت أحداث السنين الماضية لاسيما الانتفاضات العربية وانتصار الثورات المضادة التي تلتها مناسبات أعادت بالكثير منا لأفكاره وللاقتداء به.
لم يتخطّ سعيد عالماً واحداً فحسب، بل عوالم عدة. فإذا كان نيويوركياً في وقت هو فيه فلسطينيٌّ نشأ في مصر، فهو ناقد أدبي ومنظّر وناشط سياسي وموسيقيّ وغير ذلك. قد يكون هذا السبب في عدم وصوله إلى “النتيجة الصحيحة تماماً” في عالم بعينه، إلا أن عبقريته تمثّلت في تحويله لحالته تلك إلى محرّك للأفكار الذي تمحور حوله جزء لا بأس به من الحياة الفكرية والسياسية في كل من هذه العوالم.
كان برينان تلميذ سعيد وصديقه المطلع على أفكاره والمرتاح في صحبته. عمل برينان عن قرب مع عائلة سعيد أثناء كتابة “أمكنة العقل”، فأجرى المقابلات مع عدد كبير من أصدقائه وزملائه، ولا بد من أنه تفحّص عن قرب أرشيف سعيد في جامعة كولومبيا التي درّس فيها طوال مسيرته العملية. (في لحظة مُبهجة من الكتاب، يعثر برينان على ملاحظات سعيد الخاصة بالمحاضرات بين سنوات 1964 و1984 وفيها ما يثبت أن بعض أفضل أفكار معلمه السابق كانت نتيجة عمله في التعليم.)
أصرّ سعيد على أنه لا يمكن حصر أي شخص في أمر واحد فقط. يتمثل إنجاز برينان في إنصاف كل من الأدوار التي لعبها سعيد، وللتعبير عن التشابكات العصبية التي ربطت عوالمه المختلفة، لنرَ كيف كان لفكرة وُلدت في عالمٍ أن تدرك مغزاها في آخر. لقد قدم لنا برينان ما هو أشبه بالكتاب الإرشادي لعالم إدوارد سعيد، فكتابه خريطة لأفكاره ومواقعه التي على الرغم من تغيرها فلا صعوبة في تتبعها والوصول أخيراً لمجموعة أساسية من الأفكار والدوافع. لقد قام برينان بذلك دون المساس بذكاء وتمكّن سعيد ودون تلطيخ وضوح أفكاره.
فقد وضّح لنا كيف جذب سعيد أنظار العالم وأربك أعداءه في وقت نجح فيه بكسر القالب الأكاديمي الذي لطالما ارتبط بالعلوم الإنسانية، وكيف جعل النقد الأدبي أمراً رائجاً ونجح في تغيير الصورة الفلسطينية. كذلك أوضح أن ما من سبيل لفهم الطريقة التي نتناول بها أحداث التاريخ دون إدراك عدد من الخصال الشخصية التي قدّمها لنا.
يقدم برينان للقرّاء فرصة لتذوق دعابات سعيد المرحة، حسّ السخرية اللاذع لديه، والتعرف على ولائه وقربه وحميميته وصموده، وهي كلها سمات طبعت شخصية الصديق الذي يعتز به. كان المرور بهذه السطورممتعاً.
أثار ذكرُ برينان للمناظرة التاريخية التي قام بها سعيد من خلال جمعية دراسات الشرق الأوسط مع برنارد لويس عام 1986 فضولي فبحثتُ عنها على يوتيوب وشاهدتها بأكملها وأنا أقاوم مجدداً إعجابي بما مثّله حضور سعيد على المنصة: فطنة وتألق وشعبية لم يتمتع بها سوى النجوم.
في الفقرة الأخيرة من مذكراته “خارج المكان” (التي كتبها أثناء صراعه مع اللوكيميا الذي نجح أخيراً في التغلب عليه بعد تسع سنوات)، يقدم سعيد تلخيصاً لنفسه: “بين وقت وآخر، أرى نفسي كتلةً من التيارات المتدفقة، وأنا أفضّل هذه الفكرة على كوني كائناً صلباً، وهي الهوية التي يلصق بها الكثيرون أهمية كبرى. لا تتطلب هذه التيارات في أحسن أحوالها لا تصالحاً ولا تناغماً، فهي خارج المكان، لكنها على الأقل في حركة دائمة، في شكل من أشكال الحرية. على هذا النحو أحب أن أتخيلها، حتى ولو كنتُ بعيداً كلّ البعد عن الاقتناع بذلك.”
إن كتاب “خارج المكان” هو لا شك الرقاقة اللازمة لقراءة وفهم الصفحات المائة الأولى من “أمكنة العقل”. فمذكرات سعيد تشبه أعمال الطب الشرعي، إذ نقّب من خلالها على ذاته في طفولته والظروف التي أوصلته إلى حالة “الغريب” التي لازمته بقية حياته. كان شديد الصرامة مع سعيد الطفل حتى أن أي إضافة على ذلك تُضفي شعوراً بأنه غير مرغوب به. لكنني أتساءل عما إذا نبعَت صرامة برينان حيال سعيد الطفل من تشوقه للاستمتاع بصحبة سعيد الذي عرف وأحبّ مرة أخرى.
يكتب برينان: “بعد ثلاثة عقود غير مبشرة، نجح سعيد في الحفاظ على روح النقد حيّة، ومنحها شكلاً هو الأطيب والأصدق والأكثر غضباً والأكثر حميمية”. يعتقد برينان أن هذا جزء مما سيُبقي النقد الأدبي والاجتماعي مستمراً وذا أهمية. ستكون هذه السيرة الصادقة والكريمة حليفاً جاداً في المشروع الأدبي، وستستمر الحوارات.