“يا شعبي… يا عود الندِّ يا أغلى من روحي عندي” هذا ما يردده اليوم كل فلسطيني في فلسطين المحتلة؛ قدسًا وضفة وغزة وأراضي 48، وفي الشتات والمنافي البعيدة، وقد أكدتها أحداث حي الشيخ جراح وهبة الأقصى المبارك المتدحرجة والتي امتدت إلى مدينة اللد وشقيقاتها حيفا ويافا وعكا والرملة وغيرها من مدن وقرى الداخل المحتل، والتي لم تنته بحملة عسكرية وحشية على غزة.
أكاديميون وكتّاب ومبدعون فلسطينيون تحدثت معهم “رمان” لتنقل نبض أرواحهم عبر هذه الاستطلاع، حول ما جرى ويجري في وطننا المحتل.
المصوّرة حنان عواد (الولايات المتحدة الأمريكية): لا صوت يعلو فوق صوت الشعب
ما تزال النكبة منذ عام 1948 مستمرة إلى يومنا هذا، لكن هناك 73 عاماً من المقاومة والصمود والتضحية الفلسطينية التي تقف باسلة في وجه الاستعمار الصهيوني. يتخذ الصمود والمقاومة الفردية أو الجماعية أو كليهما لرفض قبول الهزيمة والاستسلام للاحتلال صوراً وأشكالاً عدة، وما نراه اليوم من المقدسيين في حي الشيخ جراح وفي غزة وفي اللد ومدن فلسطينية أخرى هو أحد هذه الأشكال.
ما يحدث اليوم في القدس الشريف وفي غزة وكل مدن فلسطين هو إرهاصات للنكبة المستمرة منذ الـ 48، حيث يستمر المستعمر الصهيوني في محاولاته المستميتة في التهجير القسري للفلسطينيين في مدن عدة، مع محاولة تهويد القدس، وقضية حي الشيخ جراح ما هي إلا صورة مصغرة لقضية فلسطين ككل.
شكل آخر من أشكال الصمود والمقاومة هو ما يقدمه فلسطينيو الخارج، بصور وأشكال عدة، وعبر نشاطات وفعاليات ثقافية وسياسة وتضامنية مادية ومعنوية تقدم رسالة واضحة ومحددة وهي رفض الاستعمار. ومن المهم الإشارة إلى أنّ الصمود والتضامن مع القضية الفلسطينية من خارج فلسطين لا يتوقف على الفلسطينيين، بل إنه يمتد إلى غير الفلسطينيين الذين يؤمنون بالحق الفلسطيني والوقوف في وجه الممارسات الصهيونية. وإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أنها مثال مميز لصوت المقاومة الفلسطينية، الذي يضم الجالية الفلسطينية وغير الفلسطينية التي تهتف بالحق والحرية لفلسطين.
في مدينة باترسون في ولاية نيوجيرسي، يمكن رؤية الصمود من خلال ما تقوم به الجالية الفلسطينية هناك من تنظيم مسيرات ومظاهرات واحتجاجات في كل المناسبات ضد العنف الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والممتد منذ 73 عاماً. الناشط الفلسطيني الأمريكي عوني محمود أبو هدبة ابن قرية دير بان المهجّرة، يقول: “لا صوت يعلو فوق صوت الشعب…لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة”. أبو هدبة يقدم نموذجاً مهماً للمقاومة من الخارج، فهو يحتفظ بأوراق وسندات ملكية أرض والده في فلسطين، كما يحتفظ بمفتاح بيت جده، وذلك على الرغم من أنّ قريته هُجّرت ودمّرت. ومنذ هجرته إلى الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين يعمل عوني أبو هدبة مع الجالية الفلسطينية في ولاية نيوجيرسي على دعم صمود الشعب الفلسطيني سواء مادياً أو معنوياً، ومن خلال عضويته في “الجمعية الخيرية للأراضي المقدسة”. وقد تمكن مع الجمعية من التكفل بنفقات تعليم مئات الطلبة في الجامعات الفلسطينية، كذلك كفالة ما يزيد على 600 طفل يتيم في فلسطين وتأمين احتياجاتهم من غذاء وكساء ومسكن وتعليم. يقول أبو هدبة: “ما يحدث اليوم في القدس والشيخ جراح ومدن فلسطينية أخرى يثبت للعالم أنّ هذا الشعب يريد الحرية وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.. نحن جزء لا يتجزأ من هذا الشعب ونحن معهم بكل ما آتانا الله من قوة”.
من جانب آخر يعمل أبو هدبة من خلال مركز الجالية الفلسطينية في كليفتون على توعية أبناء الجالية وربطهم بالوطن وتدريس خارطة فلسطين من البحر إلى النهر والتأكيد على أن فلسطين أرض عربية محتلة، من يافا إلى حيفا إلى عكا وإلى القدس، وسوف تعود إلينا عما قريب.
شكل آخر من أشكال الصمود؛ تنظيم أبناء الجالية الفلسطينية في هيوستن مسيرة إحياءً لذكرى النكبة في 15 أيار/ مايو تتضمن رفع الأعلام الفلسطينية والشعارات الرافضة للاحتلال الصهيوني. وبذلك تحاول الجالية الفلسطينية في هيوستن التي تبعد عن أرض فلسطين آلاف الكيلومترات أن تثبت أنّ بُعد المسافة لا يعني أبداً البعد عن الهدف، وتحاول الجالية تقديم صورة من الصمود والمقاومة حتى من خارج الأرض. علينا أن نتذكر دوماً أنّ اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، في سوريا ولبنان وشتى بقاع الأرض، صامدون ومتمسكون بحق العودة ولا تراجع مطلقاً عن هذا الحق.
نموذج آخر من الولايات المتحدة أيضاً، هو تنظيم اتحاد “طلبة من أجل العدالة في فلسطين” SJP، في جامعة “إلينوي” وقفة احتجاجية طارئة من أجل نشر الوعي حول الأحداث في الشيخ جراح. هذه الوقفة ضمت فلسطينيين وجنسيات عربية وأجنبية، وقفوا معاً من أجل الدفاع عن الحق الفلسطيني، وهتفوا معاً ضد المستعمر الصهيوني.
الصمود على أرض فلسطين من أسمى الأفعال، وإخواننا هناك في الأرض المحتلة يقدمون أنصع الأمثلة على المقاومة ضد الاحتلال وبطشه ويده الغاشمة، ونحن هنا على بعد أميال منهم نحاول بكل طاقتنا كفلسطينيين تقديم صورة أخرى للصمود والمقاومة، التي تدعم إخواننا هناك، في قضيتنا جميعاً. صوت فلسطين في الداخل والخارج هو صوت واحد ضد الاحتلال الإسرائيلي… صوت واحد يقول إن فلسطين عربية والقدس عربية.
الأكاديمي إبراهيم أبو هشهش (رام الله/ الضفة الغربية): فلسطين ليست قضية أهلها فقط
ما يميز هبّة القدس الأخيرة أنها أثبتت أنّ الشعب الفلسطيني قادر في كل وقت على اجتراح أساليب نضالية تصل حد الإبداع في فاعليتها وفي تجددها، ما يعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام بما هي قضية شعب يسعى إلى تقرير المصير والتحرر من استعمار عنصري بغيض، تمارسه عصابة للسطو المسلح تمتلك أجهزة دولة، ومحاكم عليا لشرعنة السرقة، ومعاهدات سلام مع دول عربية.
أثبتت هذه الهبة أنّ الشعب الفلسطيني موحد من البحر إلى النهر ومن الشمال إلى الجنوب، وقادر دائماً على إثبات ذاته أمام هذا العدو العنصري، رغم كل ما يحيطه من خذلان ومعاهدات تطبيع واستثمار بالمليارات في سرقة مقدراته وثرواته الطبيعية بالشراكة مع دولة الاحتلال.
وإذا استمرت هذه الهبة وتوسعت، فإنها لن تلقي إلى النسيان فقط بهذه المعاهدات المتخاذلة، بل ستعيد أيضاً الروح لحركة التحرر والنهوض العربية التي تعرضت لانتكاسة قبل عشر سنوات، ولكنها لم تمت أبداً. وستكون فلسطين كما كانت دائماً نقطة الإجماع العربي، حولها يتوحد الوجدان، ونهوضها يعني نهوض العرب، وتغييبها يعني حالة الضعف والشرذمة والتمزق التي أصابت الجسد العربي.
لقد آن لنا أن ندرك أنّ كل ما أصاب المركز الحضاري العربي في سوريا والعراق، وما يمكن أن يلحق بدول عربية أخرى من استهداف، إنما كان ليرسخ وجود هذا الكيان الاستعماري المصطنع، ويسهل عليه ابتلاع فلسطين أولاً، تمهيداً لابتلاع المنطقة العربية بأسرها والسيطرة عليها، ونهب مقدراتها وخيراتها، سواء بالهيمنة العسكرية المباشرة، أو بمعاهدات تطبيع وهمية، أو بالعمل الدؤوب على إبقاء المنطقة في حالة من التمزق والتأخر والتبعية.
ولا شك أنّ أي مثقف عربي أصيل يدرك أبعاد هذه المعادلة الواضحة، ويتصدى لها بما يمكنه من أساليب؛ سواء بنشر الوعي، أو الانخراط المباشر في الشأن العام، أو التصدي لأي شكل من أشكال التطبيع مع كيان غير طبيعي، مفروض على الجسد العربي بالقوة والهيمنة، لأنّ فلسطين ليست قضية أهلها فقط ، بل قضية كل الأحرار في العالم، والدفاع عنها يعني الدفاع عن قيم الخير والحرية والعدالة، أي الدفاع عن إنسانية البشر وكرامتهم ، وهو في الوقت نفسه دفاع عن حقنا في الحياة والوجود أساساً، وليس مجرد عمل خيري تطوعي نمارسه حين نشاء.
الفنان محمد بكري (البعنة/ الجليل): تورط نتنياهو وورط إسرائيل في انتفاضة ثالثة
لم يبقَ لبيبي نتنياهو تحت طاقيته أي لعبة سحرية جديدة فقد استنفد كل الأرانب كما يقولون، لم يستطع أن يؤلف حكومة للمرة الرابعة والآن يلعب بالنار تحت شعار مخفي “عليّ وعلى أعدائي يا رب”. وفي هذه اللعبة الحقيرة التي يلعبها في المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جراح مراده واحد، هو منع الأحزاب المناهضة له من تأليف حكومة من ناحية، وأن يوجه الأنظار إلى القدس (بقرة إسرائيل المقدسة)، لكي يلهي الرأي العام ويبعد عنه أو بالأحرى يرجئ ولو قليلاً النظر القضائي في ملفات فساده المعلقة، وقد نجح بذلك لأن العالم الآن مشغول بما يدور في القدس. وجاءت صواريخ حماس لتقلب المعادلة عالمياً (إعلامياً) وتجعل أمريكا ودول أخرى تشجب عمليات إطلاق الصواريخ من غزة إلى مدن الجنوب وإلى القدس أيضاً، ولكنه أخطأ في حساباته ولم يتخيّل اتساع المواجهات ووصولها إلى كل المناطق في الداخل والضفة وغزة. والآن وأنا أكتب هذه الكلمات وصلني خبر استشهاد أحد الشباب في مدينة اللد على يدي مستوطن أطلق عليه النار. لقد تورط نتنياهو وورط إسرائيل في انتفاضة ثالثة لم يكن يحسب لها حساباً ربما، ولكن كما قلت ليس لديه ما يخسره بعد فشله للمرة الرابعة بتأليف حكومة وتورطه بقضايا وملفات فساد.
الأمر الوحيد الذي لا أراه شخصياً يصب في صالح أبناء شعبنا في القدس والشيخ جراح والضفة عموماً، وغزة طبعاً، هو إطلاق الصواريخ بشكل عشوائي مما يفيد إسرائيل إعلامياً في العالم. وكل ما أتمناه أن تحقق هذه الهبة الوحدة الوطنية بين شتى التيارات والأحزاب الفلسطينية في الداخل والخارج والشتات، وأن “تعفط” كما نقول بالعامية على رأس نتنياهو واليمين الإسرائيلي والاحتلال البشع الذي آن الأوان أن يزول إلى الأبد، وأن ينال أبناء شعبي ما نتمناه جميعاً وهو دولة مستقلة حرة وديمقراطية.
التشكيلي رائد القطناني (الأردن): لا بد لريشتنا أن تحمل همّ الوطن
بالنسبة لي كفلسطيني أولاً، وكفنان ثانياً، أرى أنّ القدس لا تحتاج لنا لكي نحميها بل نحن من يحتمي بها ونحن من يلوذ بحماها. من كرم الله عزّ وجلّ علينا بأن جعل القدس منارةً للشرفاء وقبلةً للأحرار، فمن يبحث عن الحرية يرى دربه يصل للقدس، ومن يبحث عن الوطنية وحتى عن الإنسانية فلا بد أن تتقاطع طريقه مع أهل المدينة المقدسة، ومن يبحث عن الله فله دروبٌ كثيرةٌ ومن أجلِّها طريق القدس.
في وقتنا وزماننا لا نعيش حالة الترف الفكري والثقافي لنرسم الجمال (وهو بحد ذاته غاية نبيلة)، لأننا مثقلون بهمِّ وطنٍ محتلٍ وأرضٍ سليبة.
نحن كفلسطينيين وحتى كعرب وكمثقفين ومبدعين نجد أنّ في أعناقنا دينٌ لا بد من أدائه لأهلنا في فلسطين، فلولا صمودهم ولولا ثباتهم ولولا تمسكهم بالأرض لما كان من معنى لكل نقول ونفعل. صدق القول فينا وفي أهلنا في فلسطين كوصف الحديث الشريف “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، أو بلسانه، أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان”، فهم أهل اليد وهم من يصنعون التاريخ. ونحن أهل اللسان والقول فلا ينبغي علينا أن نصمت، ولا بأس فيمن يتعاطف ولو بقلبه وهو أضعف الإيمان.
من رسائل الفن السامية أن ينطق ويوثق ويؤرخ الأحداث بصدقٍ لأنّ رسالتنا البصرية في هذا العصر غدت مؤثرةً أكثر بكثيرٍ من آلاف الخطب الرنانة، فلا بد لريشتنا أن تحمل همّ الوطن.
الكاتب خليل الصمادي (سوريا): ثورة الأقصى كشفت عورة الإعلام العربي.
من تقرير اتحاد الإذاعات العربية هناك أكثر ١١٠٠ قناة منها ١٣٣ قناة إخبارية، وليس سراً أنّ كل قناة إخبارية تنفذ أجندة ما. المراقب لهذه القنوات في ثورة الأقصى لا يجد إلّا ثلاث قنوات أو أربع تواكب الحدث بشكل جيد بينما الأكثر تتناول الخبر على استحياء، بل يكتفي بعضها بشريط إخباري فقط، في حين يغطون أخباراً في مجاهل إفريقيا.
لا شك أنّ الإعلام وخاصة المرئي غدا من أقوى الأسلحة لا سيما في وقتنا الحاضر ولا شك أنّ الصهاينة الذين سيطروا على الإعلام في القرن الماضي ساءهم انفلات الإعلام من أيديهم فغدا متاحاً لأي شخص وبأبسط الأدوات، كما في مواقع التواصل الاجتماعي لذا لجأت أجهزتهم مؤخراً إلى قطع الأنترنت حول الأقصى والتضييق على الإعلاميين. كما أنّ نفوذهم أجبر كثيراً من المحطات العربية إلى تجاهل الأقصى والهبة، بل وصل الأمر ببعض المحطات العربية وللأسف للترويج أنّ المسجد الأقصى الحقيقي هو قرب مكة في الجعرانة!
كيف نساهم في دعم أهلنا في القدس؟ يستطيع كل إنسان حر أن ينصر الأقصى حتى لو كان بأبعد مكان من خلال “السوشيال ميديا”، فالإعلام أقوى من الرصاص وكل مثقف أصبح إعلامياً ولو بمقالة أو تغريدة أو ترجمة أو بنشر “الهاشتاغات” على نطاق واسع، وهذا ما نراه اليوم فلا شك أنّ هذه الثورة ستجتاح العالم بالرغم من تواطؤ الإعلام العربي الرسمي والمسيطر عليه.