كنت ضيفا في فعالية أدبية في رام الله. أبدت إحدى القارئات من الحضور ملاحظة على تفصيل ما في إحدى رواياتي. ورد في الرواية أن المختار رافق دورية الاحتلال لاعتقال فلسطيني في إحدى القرى. قالت القارئة إن منصب “المختار” لم يعد موجودا، وقد ألغي قبل الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية ببضع سنوات. ابتسمت للملاحظة، وقلت: لا مشكلة، فقلب القارئ كبير، وسيسامحني ببضع سنوات، سيغفر لي هذا “الخطأ”.
القارئة أجابت بعصبية فاجأتني: القارئ لا يغفر ولا يفترض أن يغفر أخطاء الكاتب.
ابتسمت مرة أخرى وقلت: بتموني …
بعيدا عن “الطرفة” أعلاه، هل من حق الكاتب أن ينتظر “طيبة قلب القارئ الذي يغفر الهفوات البسيطة”؟ في الواقع نظرية الأدب لا تنظر للموضوع على أنه “هفوة” أو “زلة”، والقارئ أو المشاهد (في حال الأفلام) يغفر فعلا، لكن بشروط.
أتذكر فيلم “صوت الموسيقى” الذي شاهدته أكثر من مرة، لأنه فيلم جميل بأكثرمن مقياس. من منكم فكر في المشهد التالي؟ الرجل (كريستوفر بلامر) يقاطع خطيبته (شارمن كار) خلال حديثها معه عن أنسب هدية للزواج تقدمها له، يقاطعها فجأة ليخبرها بأنه لن يكون هناك زواج لأنه يحب المربية (جولي أندروز)… يضع المشاهد، أوروبي وأمريكي ومن نابلس، يده على قلبه ويتوقع عاصفة مدمرة . أن تنهض الخطيبة غاضبة وتذهب لتنتف شعر الحبيبة. لكنها تبتسم بتفهم وتقول له: أحسست بذلك. أتمنى لكما السعادة.
هل هذا رد فعل مقنع؟ هل تتخلى عن خطيبها بهذا البرود وهذه البساطة؟ لا بالتأكيد، لكن المخرج لم يرد أن يستثمر في هذه اللحظة الدرامية بالذات في نزاع جانبي، بل يريد السير قدما في الخط الدرامي المركزي.. ونحن كمشاهدين غفرنا ذلك بطيبة خاطر، من أجل خاطر بقية الفيلم الجميل. ومن منكم شاهد فيلم “دكتور جيفاغو”، بطولة عمر الشريف؟ هل تذكرون المشهد الذي ينزل فيه البطل (عمر الشريف) من القطار أثناء سفره وعائلة زوجته
(جيرالدين شابلن) ليتبول؟ هنا يلاحظه أفراد من البوليس السري فيلقون القبض عليه وينفصل عن عائلته. حين يتحرر ويلتحق بهم في القرية البعيدة التي رحلوا إليها من موسكو يجدهم قد غادروا إلى مكان مجهول. يمكث هناك ويزور المكتبة في قرية مجاورة ليفاجأ أن عشيقته (جولي كريستي) تعمل في تلك المكتبة! يا سبحان الله على هذه الصدفة الجميلة! في الظروف الطبيعية قد يستبعد المشاهد (والقارئ) صدفة كهذه، لكن دراما الفيلم المحكمة والجميلة كانت بحاجة لهذه الصدفة، فهل تفهمنا كقراء ومشاهدين؟ بالتأكيد! من أجل خاطر بقية الفيلم الرائع (والرواية الرائعة).
لماذا أروي هذا ؟ لأن بعض القراء والنقاد يغفلون أن “التواطؤ” مع المبدع جزء من اللعبة في حال كان الشيء المطلوب قراءته أو مشاهدته بجرعة زائدة من التفهم “تفصيلا غير ذي بال” ولا يتكرر كثيرا وفي حال كانت بقية الفيلم أو الرواية محكمة وتبرر هذا التفهم. يقول الناقد الماركسي البريطاني كريستوفر كودويل في كتابه “الواقع والوهم” وهو من المؤلفات المهمة في نظرية الأدب الماركسية “لأن الأدب هو ما هو عليه فإنه يصور واقعا أبعد من الواقع وأكثر تعقيدا فالأدب لا يصور القمح بماهيته المادية المحددة ولا الحصاد بجوهره الواقعي بل الماهية المعقدة والثرية، الجوانب العاطفية والاجتماعية لعلاقة القبيلة بتجربة الحصاد”.
هنا يتحدث كودويل عن جانب آخر ومستوى آخر من عدم جواز استخدام الواقع المادي مرجعا لمحاكمة الواقع الإبداعي. المبدع ليس معنيا بتقديم صورة يستطيع القارئ أو الناقد مقاربتها بكل تفاصيلها الدقيقة بمكونات الواقع ومنظومته المادية والمنطقية. طبعا الخيار هو للكاتب، وهو رهن بالملامح المحددة لمشروعه الروائي الراهن، فكما هو معروف نجيب محفوظ حريص جدا على تقديم صورة مادية دقيقة لجغرافية المشهد الذي يقدمه في رواياته. هذا مدهش، لكنه لا يلزم روائيا آخر ينظر للمشهد من زاوية أخرى ويوظفه بطريقة مختلفة.
أليست هناك إذن “ثغرات لا تغتفر” في السرد؟ بالتأكيد، فالأصل أن يكون العمل الروائي بنيانا متماسكا بدون ثغرات، ويفضل أن يخلو حتى من “الهنات” كالتي أشرنا إليها سابقا، لكن المقصود هنا قضيتان أساسيتان. الأولى أن الناقد (والقارئ) يحاكم العمل بكليته ومجمله، يبحث عن مدى تماسكه كبنيان درامي، كمشروع متكامل، ومع أن من حقه بل من الضروري الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة، لكن تفصيلا هنا وآخر هناك ليس كافيا للانتقاص من قيمة العمل. الناحية الأخرى أن علاقة العمل الدرامي التخيلي بما يسمى “الواقع” ليست بالمباشرة التي يفترضها البعض، قراء ونقاداً.
أما سيغموند فرويد فيرى، حسب تأويل رينيه ويليك وأوستن وارن في كتابهما “نظرية الأدب”، أن الفنان يهرب من واقع لا يستطيع التماهي معه إلى واقع يخلقه في خياله ويخلق قوانينه الداخلية كما يشتهيها لا كما فرضت عليه في الواقع، وفي هذا الواقع الموازي،يطلق لخياله العنان”، أي يبتدع قوانين تحكم سير الأشياء لا علاقة لها بالقوانين المادية التي نعرفها. هل من حق القارئ أو الناقد أن يطلق أحكاما على تلك القوانين التي يبتدعها الكاتب؟ نعم ولا. من حقه محاكمة الصورة الكلية لا القوانين التي تحكمها. من حقه أن يفحص ما إذا كان “النموذج البديل” الذي حاول المؤلف خلقه في عمله الأدبي متسق، وفقا لقوانينه الداخلية. هل يقدم لنا “نظاما متماسكا” بمنظومة قوانين واضحة ومفهومة ومترابطة تشكل بنيانا قادرا على الوقوف على قدميه؟ مرة أخرى، الوضوح و”الفهم” هنا ليس وفقا للمعايير العامة، بل لمعايير العمل ذاته، فليس من المعقول أن نحاكم ملامح “الواقع” في مسرح العبث مثلا أو في الفن السريالي بناء على مرجع من خارجها.
ما أريد قوله هو أن من حق الناقد والقارئ أن يحاكم العمل الإبداعي، أن يقبله أو يرفضه، أن يعجب به أو يلفظه، لكن دون أن يفرض عليه قوانين من خارجه. طبعا في الواقع العربي الشائع، حتى على مستوى الكثير من النقاد، هو الحكم على العمل ومبدعه بناء على الموقف السياسي، الأخلاقي من قضايا معينة. هم يخلقون تمثال شمع للمبدع بناء على موقفهم منه خارج نطاق الاعتبارات الإبداعية.
هل تذكرون الضجة التي قامت حين ذكر سليم بركات أن لمحمود درويش ابنة من عشيقة سرية متزوجة؟ هبّ مريدو الشاعر وحواريوه للدفاع عن أيقونتهم ضمن اعتباراتهم الأخلاقية. محمود درويش شاعرنا المحبوب، أيقونتنا، بطلنا، فهو إذن لا يمكن أن يأتي بفعل لا يلائم التمثال الشمعي الناصع البياض الذي صنعناه له. لا يقيم علاقة مع امرأة متزوجة، وبالتأكيد لا ينجب منها طفلة خارج الزواج، لا “يسكر”، لا يدخن الحشيش. بالنسبة للسجائر لست واثقا إن كانت صورته في الوعي الجمعي تسمح له بها، أما القهوة فقد أصبحت ملازمة لصورته الرومانسية.
القارئ والناقد صارم في حكمه، ليس فقط على النص، بل على الحياة الشخصية لمبدع النص. أي خروج عن “الإجماع الأخلاقي” أو الأيديولوجي سوف ينسف العلاقة بين الاثنين ويقوضها من أساسها. المبدع بالنسبة لقارئه العربي لا يمكن أن يكون “ميتا” كما يفترض رولان بارت، بل هو حي يرزق حتى بعد موته، ويطاردونه مع نصوصه باعتباراتهم الأخلاقية والأيديولوجية بعد موته. كما يطاردونه بالنموذج الأخلاقي/السياسي الذي خلقوه له ويدافعون بشراسة عنه في وجه من “يحاول خدشه”. العلاقة بالأدب في مجتمعنا علاقة شخصية بالمبدع، والموقف الأدبي من نتاجه الإبداعي مبني على الموقف الأخلاقي/السياسي منه. يتجاوز ذلك أحيانا كل الحدود، يصل حد الشتائم وانتهاك القيمة الإنسانية للشخص.
هذا يحدث على مستوى النخبة أيضا. قبل ثورات الربيع العربي كان الفنان زياد الرحباني يحظى بشعبية واسعة بين أوساط الشباب والمثقفين. زياد الفنان لم يتغير، روحه الإبداعية ما زالت على حالها، لكن حصل استقطاب حاد في أوساط جمهوره بسبب موقفه من الأحداث في سوريا. موقفه السياسي، أيا كان، لم يؤثر على موسيقاه، على روحه الساخرة، على أي شيء له علاقة بفنه، لكن جمهوره يعامله كما كل المبدعين، كرزمة كاملة، لا يفصل فنه عن موقفه السياسي، ولا حتى عن حياته الشخصية. عليه أن يكون “أيقونة” و “قدوة” في كل شيء.
هذه واحدة من الوسائل المضمونة لقتل المبدع وإبداعه.