كتبتها ماري غوديه ونشرتها مجلة Textyles في العدد ٥٢، ٢٠١٨.
يحتلّ مارسيل لوكونت مكانة خاصة ومتعبة في تاريخ السرياليّة في بلجيكا، فهو حاضرٌ منذ بروز خطّ فكريّ في بروكسل سيوصف بأنّه “سريالي”، وبسبب مغامرته “الرسائل” فقد نُبذ بعض الشيء من هذا المشروع؛ غير أنّ ذلك لم يمنعه من الظهور باستمرار في مسار سرياليي بروكسل.
في هذا المقال سيُدرسُ بشكلٍ رئيسيّ تطوّر موقفه وفقاً للتحدّيات التي واجهتها مجموعة بروكسل والظروف التي مرّت بها، لا سيّما الحرب العالميّة الثانية التي ألقت بثقلها على المكانة الخاصة للوكونت داخل وخارج المجموعة.
1940، ساعة لمّ الشمل
على البطاقة الكرتونية الشهيرة كُتب: “«الرسائل» تأخذ إجازةً من مارسيل لوكونت”، وأُرّخت بتاريخ 21 يوليو 1925 وهو التاريخ الذي يمثّل نهاية العضويّة الكاملة للوكونت في سرياليي بروكسل، وهي القصّة الأكثر إيجازاً لأنّها انتهت حتّى قبل تشكيل مجموعة السرياليّين. في الواقع، فإنّ كتيّبات المراسلات التي كتبها بول نوجيه وكاميل غومانس ومارسيل لوكونت خريف عام 1924 قد دشّنت حالة ذهنيّة سرياليّة في العاصمة البلجيكية وكانت معاصرة، في حين تمّ تشكيل المجموعة الفعالة فقط من “الدادائيين” إدوارد ليون ميسينس ورينيه ماغريت في الخليّة التي يقودها نوجيه عام 1926. ولاحقاً غيّر لوكونت مواقفه حيث عُثِر على اسمه لأوّل مرّةٍ بجانب ميسينس وماغريت (بالإضافة إلى غومانس) في نشرة الإعلان عن مجلّة Période أكتوبر عام 1924، وردّة الفعل التي أطلقها نوجيه بعد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ قد دفعت لوكونت وغومانس للانضمام إلى الرجل الذي تولّى قيادة السرياليّة في بروكسل حتى نهاية فترة ما بين الحربين. ومع ذلك، وحتى بعد طرده من “الرسائل” فقد وُجِد اسمه في العدد الأول من مجلّة Marie، وهي مجلّة حرّرها ميسينس وساهم ماغريت فيها في يونيو عام 1926، وبذلك عاد إلى حلقته الأولى، وبعد أن التقت العصبتان خريف عام 1926 لم يعد اسمه إلى الظهور.
يمكن تفسير هذا الابتعاد عن لوكونت بعدّة عوامل: قبل كلّ شيءٍ تعارض مفهوم الكتابة الذي دعا إليه نوجيه مع مفهوم لوكونت، إذ دعا الأول إلى رفض العمل الذي لا يتوافق مع تطلعات شريكه السابق الأدبية. بعد ذلك بدا أنّ موقف الأخير يتذبذب فيما يتعلّق بمجموعة بروكسل، فكتيّب Le Domestique zélé الذي يشير إلى استبعاده لأندريه سوريس يشهد على غموض مكانة لوكونت. وفي كانون الثاني عام 1936، وبشكلٍ استثنائي، تحالف السرياليون في بروكسل واينّويير وتحدّثوا باسم “مجموعة السرياليّة في بلجيكا” وانضمّ إليهم لوكونت دون أن يظهر اسمه في التوقيعات السريالية، وهو من الذين “أعربوا عن رغبتهم بالانضمامِ إلى توقيعنا” وهذا امتيازٌ مهمٌ للغاية. غير أنّ كلّ شيءٍ تغيّر عشية الحرب العالمية الثانية إذ حدثت ظاهرتان متناقضتان: لقد تمّ دمج لوكونت بشكلٍ أكبر في مجموعة بروكسل فيما نُظرَ إليه على أنّه نموذجُ الشباب الذين اشتركوا طواعيةً في هوامش السرياليّة.
ظهر العدد الثاني من مجلّة L’Invention Collective في أبريل عام 1940، وعمل ماغريت بالشراكة مع راؤول أوباك على تحرير مجلّة السرياليين هذه التي صدر عددها الأول في فبراير من نفس العام، هذه المجلّة المكرّسة بوضوحٍ لمعارضة الظروف قدر الإمكان، خاصةً إزاء الصمت الذي لجأ إليه سرياليو باريس، قد أظهرت رغبةً في توحيد الصفوف، ووجود بول ديلفو الذي ارتبط بسرياليو بروكسل لأوّل مرّة خير دليلٍ على ذلك. وبنفس الطريقة نجد لوكونت في ملخّص العددين، وقد يُعتقدُ أن الأمر متعلّقٌ قبل كلّ شيءٍ بالاتحاد في الأوقات الصعبة، فإصدارُ مجلّةٍ يعدّ عملاً لمجموعةٍ لم تكوّن بعد طريقتها المتميّزة للتجمّع خصوصاً وأنّ هذا النوع من الشراكات يغدو مستحيلاً في ظلّ الاحتلال، إذ أن شروط الرقابة تدعو للنشر الفردي في شكلِ كتيّباتٍ بدلاً من ذلك. لهذا تشكّل هذه المجلّة علامة بارزة في تاريخ السرياليّة في بلجيكا وتمثّل تحوّلاً داخل مجموعة بروكسل، إذ لم يعد نوجيه من يديرها بل أصبح الآن ماغريت بشكلٍ ضمني إلى حدٍّ ما. أخيراً أدّى إصدار L’Invention Collective إلى فتح سلسلةٍ من النقاشات حول الحاجة إلى تجديد السرياليّة التي ستكون في قلب نشاط الحركة في السنوات التالية، وبهذا المعنى فإنّ لوكونت حاضرٌ في لحظةٍ حاسمةٍ من تاريخ المجموعة.
صدر العدد الوحيد من مجلّة La Nouvelle Revue Belgique في أبريل 1940 أيضاً، ويُشاهد حضور الشقيقين التوأمين مارسيل وغابرييل بيكيراي بقصصهما الشعريّة الخمس المهداة للوكونت أو لماغريت أو لكليهما، ولا شكّ أنّهما يدينان بمعرفتهما بماغريت إلى لوكونت الذي التقى بغابرييل عام 1937 ومارسيل عام 1939، ومع ذلك فإنّ هذه الحيلة لأكثر سرياليي بروكسل شهرةً تأتي من أطراف الحركة. وقد تمّ نشر La Nouvelle Revue Belgique من قبل المبادرين في حركة اللاواقعيّة التي ولدت عام 1939 وعرّفت بوضوحٍ فيما يتعلّق بالسرياليّة التي لم تعد “ترضي” مروّجيها، وقد جرى تنظيمها من قبل الشاعر غي دو فارني (المولود عام 1918) وأصبحت موضعاً لاستقطاب جيل الشباب الذي وجد نفسه في حالةٍ من الابتعاد الطوعي عن السرياليّة. وفي حين أنّ مجموعة سرياليو بروكسل مُنحت ولاء مارسيل مارين (1920-1993) التام منذ عام 1937، فإنّ شخصيات مثل كريستيان دوتريمون (1922-1979) ومن ثمّ التوأمين بيكيراي (مواليد 1920) تنشر مع اللاواقعيين، هذه المجموعة التي يحملها “شبابٌ قويّ” في وضعٍ نسبيّ من القوّة، فبين فبراير ونوفمبر 1939 صدرت أربعة أعدادٍ من La Revue irréaliste في وقت لم يكن ثمّة دوريّةٍ لسرياليي بروكسل، وإذا كان الغزو الألماني قد مثّل نهاية مجلّةLa Nouvelle Revue Belgique وكذلك مجلّة L’Invention Collective، ولو أنّ الأولى نجحت بتحويل نفسها إلى دار نشرٍ والاستمرار في الإصدار تحت الاحتلال، فقد صدر العدد الخامس من La Revue irréaliste في نوفمبر عام 1940، ومرّةً أخرى وضع التوأمان بيكيراي إشارةٍ إلى ارتباطهم المتفاني بلوكونت.
وهكذا، وقت وجد لوكونت نفسه مرتبطاً بارتباطٍ مباشرٍ بمجموعة بروكسل، يؤكد أتباعه على هامشيتهم فيما يتعلق بالسريالية، وهذا الوضع الزائف لا يؤجج المناقشات بين المؤرخين فحسب بل يبدو أنّه تسبب في صراعٍ مع الزعيم الجديد لسرياليو بروكسل، ففي رسالةٍ بتاريخ فبراير 1941 استحضر التوأمان بيكيراي التالي: “الغامض؟ قضيّة ماغريت-بيكيراي. مؤسف”. ولا تزال هذه القضيّة غامضةً نوعاً ما لكن من الواضح أنّها لا تتعلّق بانتماءاتهم بحيث أنّ الأخوين بيكيراي قد تمّ استدعائهم لتبرير موقفهما، فيقول مارسيل: “أنا وغابرييل من اللاواقعيين “بالصدفة” (…) ولم نرد ادعاء اللاواقعية على وجه التحديد أكثر من السرياليّة في أيّ مكانٍ آخر، فالكتابة بالنسبة لنا هي التحرر من الهوس والتسامي وكلّ ارتعاش مقدّس، والباقي هو الأدب”. وخلافاً لمؤسسي حركة اللاواقعية لم يميّز الأخوان نفسيهما عن السرياليّة بقدر ما رفضا أيّ انضواء، غير أنّ مرونة الحدود هذه لم تناسب ماغريت، ولعلّ طموحات اللاواقعيّة قد أسهمت في هذا العداء، ففي الرسالة نفسها (المؤرخة في فبراير 1941) عُلِم أنّ العدد السادس من La Revue irréaliste والذي كان قيد الإعداد قد اقترح إدراج مجموعةٍ من المساهمين “التاريخيين” في المشاريع السريالية فذُكِر فيه: “سيتم قريباً إطلاق العدد السادس من La Revue irréaliste، وسيضمّ العديد من المساهمين منهم العم مارسيل (لوكونت)، دومون، شافيه، أوباك إلخ…”.
كانت فترة أوائل الأربعينيات من القرن الماضي مضنيةٌ للسرياليين الأوائل، إذ وجب عليهم إيجاد نفسٍ جديدٍ لحركتهم والتعامل مع قدوم شعراء شباب متحمّسين أو المنافسين وذلك في سياق الحرب، هذا الوضع دفعهم إلى تناسي الخلافات السابقة بين “الكبار” إذ يؤثّر معيار الأجيال في هذا التوقيت على تحديد المعسكرات. هذا الاتجاه استمرّ تحت نير الاحتلال ومن ثمّ لوحظ تقارباً مع سوريس المستبعد منذ عام 1936، وبالمثل يذكر دوتريمون في رسالةٍ بتاريخ مارس 1942 “جلسة تاريخية للمجموعة السريالية” التي جمعت مؤخراً نوجيه، ماغريت، أوباك، لوكونت وآخرين، وبدا أن الغاية من هذه الجلسة تحديد الاتجاه المتوجّب اعطاءه للسرياليّة في ظل الاحتلال، ومن ثمّ منح الوضع العظيم للوكونت أهميّة راسخة.
انسحابٌ طوعي
وفقاً لرسالة دوتريمون فقد قرر المشاركون في هذه الجلسة التاريخية المضيّ قدماً في “تأويل السرياليّة”، وخلال هذه الفترة يمكن رؤية نشاط ماغريت من هذه الزاوية جزئياً على الأقل، إذ انخرط الرسام في بعض المهام السرّيّة نسبيّاً وحاول جعل رسوماته أقلّ سخطاً على الفور وإبعادها عن الواقع. أمّا بالنسبة للوكونت فقد بدأ عام 1942 مشروعاً بالتعاون مع أوباك وأصدقائه الشباب جان بفيفير (1913-1985) وجورج لامبريس (1917-1992) بحيث نوت هذه المجموعة الصغيرة إنشاء مجلّة مخطوطاتٍ محدّدة بأربع نسخٍ، هذه المجلة التي لم يكتب لها الصدور في النهاية، وقد كرر هذا المشروع أصداء الأعداد الثلاثة من مجلة Chemins privés المكتوبة بخطّ اليد والصادرة في نسخةٍ واحدةٍ عام 1941 بتحرير نوجيه، روجر غوسنس، دينيس ماريون وروبير ماتي. ويكتب لامبريس: “ستتطلّب هرمسيّتنا أن نكون صارمين ومتطلّبين لأنّنا نتحدّى العامّة من حيث المبدأ”. هذه الدوريات غير الموزّعة أمكنت تجاوز أساليب الرقابة وأيضاً جعل الخيارات الشعريّة أقلّ وضوحاً أو تمييزاً على الفور خلال ذلك الوقت. لكن وفيما يتعلّق بلوكونت وأصدقائه الشباب فينبغي أيضاً أن تفهم الهرمسية بمعناها الباطني.
احتجّ دوتريمون على استراتيجيّة الكبار قائلاً: “لا أتفق تماماً مع تأويل السرياليّة، (…) فليس عندما ترمى القنابل بل عندما يُشرَعُ برميها (وهذا سيتضاعف فقط) ينبغي على السرياليين أن يصبحوا إمّا متوحّدين بعادتهم السريّة أو ممارسين للحبّ مع بعضهم البعض”. وقد تأكد التناقض الذي نشأ بين الأجيال قبل الحرب، وفضل دوتريمون المنضم في تلك الأثناء إلى السرياليّة تبنّي استراتيجية “يد الريش”، وهي مجموعة سرياليّة باريسيّة شابّة شارك فيها بنشاط، فبالإضافة إلى منشوراتها التي جاءت بشكل “كتيّبات المجلّات”، شاركت يد الريش في نشاطٍ عام تضمّن منشورات واستجواباتٌ صحافيّة مستخدمةً لمفرداتٍ فاحشةٍ ومثيرةٍ للسخط بشكلٍ متعمّد. وهذه المجموعة المتداخلة في بدايتها بين الأجيال قد هدفت قبل كلّ شيءٍ إلى الارتباط بالشباب، فشارك أوباك الذي يكبر القائدان جان فرانسوا شابرون ونويل أرنو بعشرِ سنواتٍ في مخاضات هذه المغامرة وساهم أيضاً في مجلّة Messages de Jean Lescure منذ عددها الأول الذي صدر تحت الاحتلال خلال مارس 1942. وعبر لامبريس كان لوكونت حاضراً في عددٍ من الرسائل المنشورة في بروكسل خلال ديسمبر 1942.
ولعددٍ كبيرٍ من الأسباب أخذت يد الريش مجلّة Messages بحالةٍ من الكره، فهي تنتقدها بصراحةٍ بسبب تصوّفها ولكونها منافستها الرئيسيّة بصراحةٍ أقل. هذا وكانت مجلّة Messages هي ضحيّة نشرة Nom de Dieu! التي أطلقتها يد الريش في مايو 1943، واتهمت مجلّة Lescure برغبة الاستفادة من الظروف لتحلّ محلّ السرياليّة، “وبالطبع مع حفاظ السرياليّة على ما لديها من قيمة وإلخ…..”. لكن وبالنسبة للتعاقب السريالي، فإن Messages غير قادرةٍ على القيام بذلك، فالمجلّة مضطربةٌ وغارقة في المثاليّة، وتقارن “يد الريش” عداءها لمجلة Messages بالتناقض بين بريتون وباتاي. وقد تمّ استهداف لوكونت وأوباك بشكلٍ صريحٍ بواسطة النشرة، فبعد البحث عن سببٍ لتعاونهم أكدت المجموعة “أن Messages تلبّي في الواقع رغبات لوكونت وأوباك دائماً”. وبعد الحرب سيمنح لوكونت للشباب حقّ تغيير مجلّتهم.
أصبح الولاء للسرياليّة فضيلة أساسيّة في قلب الاحتلال، وتاريخ “يد الريش” يوضح ذلك: يأتي أعضاؤها الأكثر نشاطاً من مجموعة “مصابيح الشوارع” التي نشأت عام 1938 ورفضت السرياليّة مفضّلة الدادائيّة، غير أنّ قدوم الحرب العالميّة الثانية أدى لتغيّر قواعد اللعبة، إذ تطلّبت موقفاً مقابلاً للواقع بين الأخلاق والسياسة، وهو مالا يمكن إيجاده إلا في السرياليّة. لم يكن المقصود من تأسيس “يد الريش” هو السير على خطى الكبار الذين ذهبوا إلى المنفى إذ سرعان ما أصبح من الواضح أن على السريالية التطوّر استجابةً لحالةِ الاحتلال، ومع ذلك فقد اعتبر هذا الانشقاق ضعيفاً، وفي المقابل اعتقد أوباك أن انتقائية Messages هي الخيار الوحيد القابل للتطبيق في ظلّ الظروف هذه. هذا الخيار الذي قام به لوكونت وأوباك لم يجد إدانةً من الشباب فقط، فماغريت الذي شارك بشكلٍ محدودٍ في يد الريش قد أرفق توقيعه بنشرة Nom de Dieu! . وهكذا لم ينقلب فقط على لوكونت بل على صديقه المقرّب أيضاً منذ عام 1940. وبالتالي فإن التناغم بين الكبار تصدّع باسم الولاء للحركة.
تطهير السريالية
تميّزت صحيفة Libération بازدهار المنشورات السرياليّة وشبه السرياليّة، فشكل المجلّة الذي أصبح متاحاً مرّة أخرى قد تمّت إعادة استثماره بنشاط. وببداية عام 1945 ساهم لوكونت في مجلّة Le Ciel Bleu التي حرّرها بول كولينيه، دوتريمون وماريَن، ومُثّلت الجهات الهامشيّة الفاعلية في السديم السريالي بشكلٍ جيّدٍ في هذه الدوريّة ومن بينهم التوأمين بيكيراي، ففي كتابه الشهير “النشاط السريالي في بلجيكا” أكّد ماريَن أن هذه المجلّة “غير متعلّقةٍ بالسرياليّة بشكلٍ تام”، ومن ناحيةٍ أخرى فإن لوكونت غير موجودٍ في نشرة La Terre n’est pas une vallée de larmes والتي هي عبارة عن تجمّعٍ سريالي صنّفه ماريَن وصدر في فبراير من عام 1945. ورفقة سوريس ولامبريس وآخرين نشر لوكونت خلال ربيع 1945 الكراس الشعري Réponse والذي هدف إلى التعبير عن “تجربةٍ سحريّة”، وحضر فيه جان ليسكيور محرّر Messages وظهر أيضاً دوتريمون وماغريت في الملخّص بين آخرين.
أظهر داميان غراويز أن لوكونت قد شرع خلال هذا الوقت لفكّ الارتباط بالشعر، وهو مشروعٌ تعارض مع اتجاهات العصر بشكلٍ تام لا سيّما مع تحوّل نشاط بروكسل. فيما انطلق السرياليّون المتجمّعون حول ماغريت بالفعل بعد التحرير في إطار التعاون مع الحزب الشيوعي البلجيكي واحتفل ال PCB بانضمام ماغريت إلى صفوفه في سبتمبر من عام 1945، وبعد ذلك شارك الرسام في جمعيّة الفنون التشكيلية لاتحاد بروكسل الحزبي وقدّم مع صديقه الرسام بيير ساندرس عملاً للحزب من أجل جمع الأموال لإنشاء مكتبة، ونشر في أكتوبر 1945 مقالاً في صحيفة Le Drapeau Rouge. أما بالنسبة للسرياليين الآخرين فقد تواجدوا أيضاً في الصحافة الشيوعيّة، واعتبر المعرض الذي نظمه ماغريت بين ديسمبر 1945 ويناير 1946 في صالة منشورات Boétie فرصة إضافيّة لإثبات قناعات المجموعة.
يقول ساندرس بصراحة: العضوية في ال PCB تحدد العضوية في مجموعة السريالية، وبسبب نقص المعلومات غالبًا ما يضيف الفرنسيون إلى المجموعة السريالية في بلجيكا أسماء معينة من الشعراء والرسامين (على سبيل المثال بول ديلفو في الرسم) الذين كانوا غريبين عنها تمامًا بسبب موقفهم الأخلاقي وافتقارهم إلى الموقف السياسي، فالسرياليون البلجيكيون انضمّوا إلى حزب المادية الديالكتيكية: الحزب الشيوعي.
إذا أُخِذ ديلفو كمثال، فالأمر نفسه ينطبق على لوكونت، فهذين المساهمين في L’Invention collective قد جرى انتقادهما من قبل ماريَن في كتابه Les Corrections naturelles الذي يعود جزؤه الأول المنشور عام 1947 إلى فبراير 1946 وهو نصّ يتابع المعرض السريالي في صالة منشورات Boétie. وقد انتقد ماريَن لوكونت جرّاء افتقاره للجرأة على المستوى السياسي، ومع ذلك ففي ثلاثينيات القرن الماضي بات ملحوظاً في المنشورات ذات الطبيعة السياسيّة أن يتواجد لوكونت في صحبة السرياليين.
لاقى معرض منشورات Boétie بين ديسمبر 1945 ويناير 1946 استقبالاً سيّئاً من الصحافة وال PCB على حدّ سواء، وعشيّة انتخابات فبراير 1946 بدا أن التعاون مع الشيوعيين محكومٌ عليه بالفشل، بل وزد على ذلك بأن الحركة السرياليّة نفسها، والتي حكم عليها العديد من النقاد بأنّها ميّتة أو عفا عليها الزمن، تبحث عن التجديد، فردّ ماغريت وماريان على هذه الصعوبات بزيادة الاستفزاز والضراوة فتجاوزت الانتقادات الموجهة إلى ديلفو ولوكونت – والتي تابع ماغريت صياغتها – الإطار السياسي.
وهنا نصّ من هذه الانتقادات الموجهة إلى لوكونت:
“لا زال هناك… لا زال هناك جيفة مارسيل لوكونت الذي لا يمكن أن يزيده ماضيه، رغم اخضراره، سوى من عبء جرائمه، فهذا المؤلف الودود للشعاع الثاني الذي يقسم الآن وقته بين العرق الذي يكلّفه لإعداد أدبه المميّز ووهم القوّة الذي يستمدّه، عن طريق أوراق التارو، من خلال استغلال السذاجة البشريّة وذكائه للاتجار بالنساء العواجيز الفاسقات اللائي متى سمعن صوته يتذمّر أغمي عليهن، وقد اعتقد ذات مرة في نفسه أنّ عليه اتخاذ إجراء ما”.
ويستمرّ التقريع على طول ثلاثين سطراً، وتمرّ محاولة إحياء السرياليّة بالنسبة لماريَن عبر التطهير، فأولئك الذين ارتبطوا عن طريق الخطأ بالحركة (على حدّ قوله) ستتمّ تنحيتهم جانباً دون رحمة، حتى أنّ شارل براي الذي حاول الجمع بين السرياليّة والرسامين البلجيكيين الشباب أضحى أحد ضحاياه. وفي مثل هذا السياق لم يعد ثمّة مكانٍ للوكونت.
وتخلّلت الفترة ماغريت وماريَن “المطلقة” هذه منشوراتٌ عدوانيّة ووقحة أعدّها الشريكان، ففي مايو من عام 1946 عرضوا بسلسلةٍ من الجلسات برنامجاً خياليّاً حول الممارسة الجنسيّة زُعِم أنّها منظّمة من قبل ندوة الفنون، ووفقاً لماريَن فقد هرعت الجماهير إلى قصر الفنون الجميلة لحجز مقاعدهم. وكان من المقرر للمحاضرات التي ألقاها الأستاذ “البلغاري” المدعو فالوني إيوفيسكو أن “يتمّ إيضاحها من خلال مشاهد تفسيريّة يقدّمها المثقفون الشباب من الجنسين”. وقد ذُكر لوكونت في هذه النشرة من بين كبار المنظرين في الجنسانيّة إلى جانب فرويد وكيركغارد، ومن الواضح أنّ هذا لم يكن الهدف الرئيسي للمؤامرة لكن تبيّن أنّه كان مستاءً للغاية ومن المحتمل أنّه كتب حيال هذا الموضوع إلى الرسامة سوزان فان دام ما يلي: “يواصل ماغريت لعبته المشينة غير أنّ هدف أفعاله هذه المرّة هو أنا، إنّه حثالةٌ بشريّة لا تصدّق وقد تأمّلت في هذا قليلاً. سأجري مقابلةً حول هذا الأمر مع نوجيه”.
من أوراق التارو إلى بريتون
ومع ذلك فإنّ استياء لوكونت من ماغريت لا يجعل منه عضواً منعزلاً، فنجده في ذلك الوقت ضمن حاشية الثنائي المكوّن من الرسامة سوزان فان دام (1901-1986) وبرونو كاباتشي (1906-1996) واللذان كانا في الوقت نفسه صديقان لكولينيه والتوأمين بيكيراي وسكوتينير. وكلا الزوجان كانا موضوع دراسةٍ في نهاية عام 1946، فبالنسبة لبرونو هو محض عملٍ جماعيّ صغير ساهم فيه لوكونت فيما رأته سوزان تنسيقٌ كبيرٌ قام به لوكونت وحده. وقد تمّ نشر هذه الدراسات ضمن منشورات Boétie التي كانت لاعباً رئيسياً في النشاط السريالي فترة ما بعد الحرب، فالعديد من الأعمال السريالية قد نشرت ضمن منشوراتها وكذلك المعرض الذي نظمه ماغريت في ديسمبر 1945 قد احتضنته الصالة التي افتتحتها دار النشر هذه. وقد رحّب هذا المعقل السريالي الجديد بمريدي الحركة فقد منح كلّ من ديلفو، دي شيريكو ولابيس دراسة، وكذلك من الممكن ربط فان دام وكاباتشي بهذه العائلة الممتدّة.
وقد أشار التعليق الذي خصصه لوكونت لكاباتشي في العمل الذي نشرته منشورات Boétie إلى التارو، وهو شغف الشاعر الذي شجبه ماريَن في كتابه Les Corrections naturelles. وفي مارس 1947 أرسل كاباتشي دراسته إلى بريتون الذي دعاه للمشاركة في المعرض السريالي الذي كان يعدّ له، وخلال هذا العرض سيتمّ استدعاء التارو. وفي 15 يونيو من العام نفسه صدر عملين رقيقين متوائمين عملياً عن منشورات Fontaine الباريسية من تحقيق الزوجين بالتعاون مع كولينيه بحيث صاحبت عبارات الأخير رسومات الفنانين، وقد حمل الشريط المحيط بهذين الكتابين الجملة نفسها: “حتّى يومنا هذا لم أعرف تعاوناً نموذجياً بين شاعرٍ وفنان… أندريه بريتون”. وقد تضمّن فهرس المعرض السريالي في صالة مايخت، والذي افتتح في 7 يوليو 1947، أسماء كلّ من فان دام، كاباتشي وكولينيه.
أكّد هذا المعرض الانقسام بين بريتون وأصدقائه القدامى في بروكسل، فقد أعرب بمجرّد عودته من المنفى عن رفضه لكل ما يتعلّق بسرياليّة ضوء الشمس لماغريت وكذلك الالتزام السياسي لمجموعة بروكسل، وفي المقابل فإنّ السرياليّة كما أعيد تشكيلها آنذاك قد جوبهت بالرفض من قبل ماغريت وكذلك الأجيال الشابة البلجيكية والفرنسية وانضوى هؤلاء تحت مسمّى السريالية الثورية. وهنا يفترض بلوكونت أن يميل تفضيله لمعسكر بريتون، ففي مقالٍ نشره في يناير 1948 عن التيارات السرياليّة في باريس أعطى الصدارة لباطنيات بريتون من خلال تصفية حسابه ببضع جملٍ مع المجموعة السريالية الثوريّة لنويل آرنو:
” يتمتع بريتون وجماعته اليوم بإحساس كامل بالمسافة التي تفصلهم عن الثوريين الاشتراكيين البروليتاريين (…) على أي حال يبدو واضحًا أن مجموعة بريتون تتابع بمفردها عملًا إبداعيًا وحاسمًا من منظور سريالي، لكنّ ذلك كان فاجعةً من جانب أولئك الذين أتوا إلى السرياليّة بين عامي 1939 و1940 فقط، أي أنّهم لم يعيشوا التجربة بكاملها. نقول إنه كان قاتلاً لأنهم دخلوا في نوع من الجمود الشعري والسياسي الذي تشهد عليه اليوم معظم نصوصهم وبياناتهم”.
وبذلك اعتبر لوكونت أن الالتزام الشيوعي خطأ شبابٍ ومع ذلك حُكِم عليه بشدّة.
وأخيراً، وبدءاً من التقرّب من نواة سرياليّة بروكسل وصولاً إلى التمسّك بالسرياليّة البروتونيّة العاكسة لتطلعاتها الباطنيّة بعد الحرب، فإنّ مسار لوكونت هو أحد أعراض الاضطرابات التي مرّت بها الحركة السريالية خلال أربعينيات القرن الماضي، فالاتحاد الذي سعت إليه عشيّة الاحتلال الألماني لم يقاوم لأجل التحرر. وفي نهاية العقد شهدت السريالية انفجاراً حقيقيّاً وكان لوكونت فاعلاً فيه.