في روايته الأخيرة “سمٌّ في الهواء” (دار الساقي – بيروت 2021) يعود الروائي الراحل جبّور الدويهي إلى الحياة اللبنانيّة وبيئتها جرياً على عادته في كافّة أعماله الأدبيّة، لكنّه هذه المرّة يلجُ في عموميّات شاملة وواضحة حول الحقبة التاريخيّة للبنان الحديث، بحيث أنّ الرواية عبارة عن تسريد تاريخيّ لواقع الشعب اللبنانيّ ولبنان ما بعد استقلاله، أي تحديداً ذلك الواقع المتنقّل بين مختلف الحقبات الأليمة والمفجعة للبنان والتي طاولت مختلف شرائحه ومكوّناته.
يلجأ الدويهي بدايةً إلى عنوانٍ لمّاح “سمٌّ في الهواء”، والذي يقود بدوره إلى عالم لبنان خلال هذه الفترات، وهو العالم المشحون الذي عاشه اللبنانيّ طيلة عقود حياة الدولة اللبنانيّة، أي الأحداث المتفرّقة وخلفياتها المشحونة التي رافقت اللبنانيّ وطغت عليها العذابات والآلام، لكنّ صاحب “مطر حزيران” ركّز في النص على الخلفيات المشحونة أكثر من تركيزه على الأحداث الأليمة التي لم يوردها سوى على هيئة Foreground لهذه الخلفيات المشحونة، وهو ما يمكن تلخيصه بعبارة: لم يسقط قتلى لكن كان هناك سمٌّ في الهواء، وهي عبارة لا شكّ أنّها “لبّيسة”، أي أنها قابلة للانطباق على كافة الأزمنة اللبنانيّة المشحونة بالكراهية والعداءات بمختلف ألوانها.
شخصيّات مجهولة الهوية
تتمحور الرواية حول شخصيّة “الراوي” الذي شاء الدويهي أن يبقيه مجهول الإسم والهويّة، غير أنّه أعطاه كامل التفاصيل والملامح اللازمة لشخصيّته التي عايشت كافة أحداث لبنان الحديث بل وكانت مشاركة في بعضها (أحداث 58، عام النكسة، الحرب الأهلية، بناء ما بعد الحرب، اغتيال رئيس الوزراء، انهيار العملة الوطنية وأحداث 17 تشرين، انفجار 4 آب في مرفأ بيروت…)، وخلال هذه المراحل المختلفة تبرز التقلّبات الحياتيّة والمسار المشؤوم لحياته الشخصيّة التي تماهت بصورة نسبيةٍ معها دون أن تتقمّصها. لكن لم يشأ الروائي اللبناني أن يزجّ بطله هنا في خضمّ هذه الأحداث بقدر ما أراده بهيئة الهارب منها، إذ حاول معايشتها والهرب من أهوالها عبر تصرّفاته المختلفة (تخيّله لمعارك وهميّة في مسقط رأسه، علاقته بالفتاة صاحبة الشعر القصير، امتهانه التدريس وعلاقاته النسائية العابرة، انضمامه إلى منظّمة التروتسكيين العرب وتورّطه معهم، زواجه من زميلته معلّمة الفلسفة ودخوله السجن لمحاولة قتلها، عزلته الأبديّة في إحدى البلدات…) كلّ ذلك مسارٌ حكائيّ مرتبط مباشرةً بمسيرة التحوّلات التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال تلك الفترة، والتي أوصلت العديد من اللبنانيين لما يمكن تسميته بالإحباط الذي نال منهم عقب ذلك.
وكما هي حالة شخصيّة “الراوي” الرئيسيّة نجد حال باقي الشخصيّات الأخرى، جميعها مجهولة الأسماء والهويّات لكنّها واضحة التفاصيل والملامح، بحيث يستغرق الكاتب في تمرير حكاياتهم التي كان لها تأثيرها على مسار الرواية الطويل (عمّته التي قضت حياتها مرتحلة مع أزواجها ووريثة لهم، والده الذي يعيش مغامرات عاطفيّة تؤدّي إلى إحباط والدته قبل وفاتها، خالته التي تغادر رفقة عشيقها إلى أفريقيا وتعود بعد وفاته برفقة طفل، ابن خالته الزنجي الذي يشكك بأصله ويعيش حالة تمييز عنصري ويُخطف في ياموسوكرو، زوجته معلّمة الفلسفة التي لا يتّفق معها وتحطّم مجسّم بلدته، جاره في فندق “بيريت سور مير” الذي يورثه بندقيّة قنّاصة عقب انتحاره، صديقه المشار شهيد التروتسكيين العرب…) جميعها شخصيّاتٌ تعمّد جبور إخفاء هويّتها، ولربما يعود ذلك إلى محاولته التجريبيّة لإسقاط حالة الفرد اللبنانيّ على كلّ شخصيّةٍ من هؤلاء.
ما يلاحظ في سياق السرد الروائيّ هو الطغيان المطلق لشخصيّة الراوي على كافّة مفاصل الرواية، وهو ما يُقابَل ببهوت حضور باقي الشخصيّات، حتى أن أكثرها حضوراً وتواجداً لا تحتاج سوى إلى بضع حلقات، متواصلة أو متفرّقة، لتضع بصمتها على حياة الراوي وتختفي، وبالتالي فإنّ هذا الحضور الطاغي لشخصيّة الراوي يحيل النص إلى أسلوب الرواية السيرية، سيرة كلّ لبنانيّ في نظر الدويهي حسبما يمكن الاعتقاد.
وأزمنة وأمكنة مجهولة أيضاً
على الرغم من عدم إعطاء الرواية إشارة تاريخيّة زمانيّة محدّدة في سياق نصّها السردي، غير أنّ أحداث الرواية وتغيّراتها الزمنيّة توحي بأنّها بدأت مع تصاعد الأزمة السياسيّة في لبنان عام 1958، والتي كانت بمثابة “أوّل الرقص” لكافة الأزمات والنزاعات اللبنانيّة التي تلتها ولم تورث البلاد سوى الخراب، لتصل خاتمتها مع انفجار 4 آب الذي يعتبر واحداً وأسوأ كوارث الانفجارات في التاريخ. وبالتالي كانت هذه الحقبة من التاريخ اللبناني بمثابة بيئةٍ خصبةٍ لإبراز تحوّلات الشخصيّة اللبنانية وتغيّراتها من خلال شخصيّة الراوي أو من خلال كافة الشخصيّات الثانويّة.
هذا ولا بدّ للحيّز المكاني أن يلعب دوره في سياق الحكاية في أيّ روايةٍ كانت، وهو ما كان واضحاً للعيان في “سمٌّ في الهواء”، ففي هذه الرواية ذات الـ 207 صفحات من القطع الوسط ينقسم الحيّز المكاني قسمين: القسم الريفي المتمثّل في مسقط رأس الراوي والبلدة الجبليّة التي نزح إليها وكذلك البلدة التي عاش فيها أيّامه الأخيرة، والقسم المدني المتمثّل في بيروت وضواحيها وشوارعها والسجن الذي أمضى فيه بعض سنين. وباستثناء بيروت التي صورها بأسمائها، وعلى غرار الشخصيّات والأزمنة، أراد الكاتب إخفاء أسماء الأمكنة مكتفياً بإعطائها ملامحها، مستنداً إلى قاعدة الإسقاط الشامل التي دأب على توصيف الحالة اللبنانيّة من خلالها. لكن ما يُحسبُ للراحل هو عدم “طوباويّة” العالم الريفي بشكلٍ مطلق، وهو الذي جعله مسرحاً مصغّراً للحرب، وأيضاً لم يطلق العنان لنفسه من أجل “شيطنة” بيروت التي أنصفها بتصوير بعض أوجهها الجميلة التي ظلّت متمسّكة بها حتى خلال الحرب.
البورتريه الذاتي اللبناني
إزاء هذا الحضور المجهول نسبياً للشخصيّات والزمان والمكان، نجدُ تقنيّةً جديدةً وفريدةً على عالم جبور الدويهي الروائي، وهي تقنيّة تكامل هذه العناصر وتناغمها لتشكيل الثالوث السردي، فجبّور عوّدنا على أن نجد أحد أطراف هذا الثالوث طاغياً في كلّ عملٍ من أعماله، فعلى سبيل المثال يطغى المكان في “عين وردة” و “حي الأمريكان”، ويطغى الزمان في “مطر حزيران” و “اعتدال الخريف”، كما تطغى الشخصيّة في “ملك الهند” و “شريد المنازل”. غير أنّ “سمٌّ في الهواء” تتّخذ تشابكاً ثلاثيّاً بين هذه العناصر لدرجة أنّ أيّ خفوتٍ خفيفٍ في حضور أحدها أو طغيان حضور آخر سيؤدّي إلى تفكّك البنية الروائيّة وثيمتها، ولعلّ هذه التقنيّة المتّبعة مرّدها أيضاً اعتماد الروائي على الأسلوب السيري في الرواية.
أمّا على أسلوب السيرة الذي اعتمده جبّور، فنلحظ أنّ هذه السيريّة منكّهة بتقنيّة “البورتريه الذاتي” أو “الصورة الذاتية”، وهي إحدى التقنيّات التي اعتمدها وليم فوكنر في العديد من أعماله الأدبيّة (الصخب والعنف، الملاذ، البعوض…). هذه التقنيّة تتعرّف، وفقاً للناقد والباحث الفرنسي ميشيل غريسيه، بأنّها إسقاط للخصائص الذاتيّة للكاتب على شخصيّة واحدةٍ أو عدّة شخصيّات في الرواية، وليس بالضرورة أن تندرج ضمن السيرة الذاتيّة لأنّها تنساق مع الخيال أكثر من الواقع. بيد أنّ جبور لم يكتف بإسقاط بعض ملامح شخصيّته على شخصيّة الراوي، بل أضاف إليها إسقاطه لملامح وخصائص “الشخصيّة اللبنانيّة” على مختلف الشخصيّات الواردة في الرواية، لتصبح كلّ واحدةٍ منها تمثّل “البورتريه اللبناني” بمختلف حالاته.
فقاعاتٌ حكائيّة
إنّ اعتماد صاحب “الموت بين الأهل نعاس” في هذا العمل على الأسلوب السيّري الروائي كان سبباً في عدم وضوح الحبكة الأساسيّة للرواية، بل جاءت على شكلِ حلقاتٍ محكيّة، ولعلّ التسميّة الأدق بالنسبة لها هي “فقاعاتٌ حكائيّة”. هذه الفقاعات الحكائيّة أتت كما لو أنّ الدويهي يكتب نصوص حلقات الرواية مثلما ينفخ فقاعات الصابون، بحيث تتجلّى إحدى هذه الدوائر الحكائيّة وتتضح أمام القارئ لتقول ما تريد قوله قبل أن تختفي تاركة المساحة السرديّة لغيرها. هذه الفقاعات الحكائية تتجمّع مع بعضها مشكّلة الفصل الروائي، وبدورها تتجمّع فصول الرواية العشرة مشكّلة مسار النص، بيد أنّ الروائي لم يترك هذه الحلقات – الفقاعات وكأنّ كلّ واحدةٍ منها بمعزلٍ عن الأخرى، بل لجأ لتصوير تسلسل تجلّياتها بطريقةٍ سينمائيّة متجانسة، أي كلّ واحدة تكمل ما قبلها وتمهّد لما بعدها ولو ضمن حدودٍ ضيقة، وما ساعد على ذلك هو تمحور الرواية حول شخصيّة “الراوي” التي ترتبط بها كافّة حكايا النص.
لعل هذا السمّ في الهواء الذي تركه جبور قبل رحيله هو آخر فصول الحياة اللبنانية التي دأب على سردها طيلة ثلاثين عاماً، وهي هنا أشبه باختزالٍ لكافة تفاصيلها الموجودة بمختلف رواياته وبمثابة حالة احتضارٍ قاسية لوجودها، وبالتالي فإنّ رحيل الراوي في ختام الرواية (والتي توفّي جبور الدويهي بعد صدورها بنحو شهرين) بمثابة بدء اختفاء كافة خصائص هذه الحياة التي نخر السمّ جسدها وأجواءها وأمست اليوم تصارع على إبقاء هويّتها.