شذرات تطفو مع أشباهها من “شذرات سطحية جداً“.
(1)
الشذرات، بذاتها ولذاتها، سطحية جداً بالضرورة.
هناك استثناء وحيد، هو كتاب “الأورجانون الجديد” للفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون. الكتاب عبارة عن شذرات متصلة، يدعو إلى التخلص من الإرث الإغريقي، وبالتالي من الماضي بأكمله. بيكون، وبضربة قلم، يريد أن يقلب التاريخ، ليضع المستقبل أمامنا بدلاً من الماضي؛ وقد نجح نجاحاً ساحقاً في تأصيل الثورة العلمية.
استثناء وحيد، وفريد، ومصيري، عن أهمية الشذرات.
كل الشذرات الأخرى، سطحية تماماً.
(2)
في تاريخ الإسلام، قدّم المعتزلة واحداً من أقسى تجليات العقل. فالمؤمن، بحسب هؤلاء العقلانيين، بدون عقل عظيم صائب ليس مؤمناً بحق؛ ولذلك افترضوا أن عدد الداخلين إلى الجنة صغير جداً، يقتصر على المعتزلة وأتباعهم. أيضاً، آمنوا بأن أرواح المجانين والأطفال تصير تراباً بعد الموت، وأضاف بعض المعتزلة أرواح اليهود والنصارى لذلك الهباء.
حجة الإسلام الإمام الغزالي، على العكس، أكّد أن رحمة الله أكبر من عدله، وأن عدد الداخلين الجنة أكبر بكثير مما نتوقع: فهي تشمل المؤمنين والمترددين والكثير من الخطأة، وكل الأطفال؛ ثم من يشفع لهم الرسول، ومن يشفع لهم آل البيت، ومن يرحمهم الله بعد فترات قصيرة أو طويلة من عذاب النار.
لاحقاً، وبمفاجأة ما زالت تحيّر فقهاء السنة، سيضيف شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، أرواح غير المسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين، إلى قائمة من سيدخلون الجنة في النهاية.
جوهر الله الرحمة؛ الرحمة التي لم تسكن قلوب المعتزلة، ولا وسّعها خصومهم لتشمل الحياة الدنيا.
…
الكون يتألف من 4 بالمائة فقط من المادة العادية، التي منها تتشكل الأرض وما عليها من كائنات حية، بالإضافة إلى كل ما هو مرئي، كالكواكب والنجوم والمجرات.
الباقي مادة مظلمة وطاقة مظلمة. لا نعرف شيئاً اليوم عنهما.
جهل الإنسان، في الحقيقة، هو ما نعرفه عن هذا الكون الواسع المتمدد.
…
ألم غير مبرر، يفصح عن نفسه كل مرة يغير المرء بيته. عشرات الأغراض المنسية في صناديق قديمة يعلوها الغبار. تقلّب فيها، والألم يتزايد، كزائدة دودية ستنفجر فجأة: زائدة عضوية طبيعية، لا عمل لها إلا التسبب بالألم.
ترمي في سلة المهملات أشياء حميمة منسية: ثياب قديمة لابنك، صحون ومعالق وسكاكين وأكواب بلاستيكية صغيرة، وأحذية وجوارب وقبعات صوفية، ومعها كل الارتباك الغريزي للعناية بكائن لا يستطيع أن يفصح عن نفسه بعد؛ كتب كثيرة: عن سوريا، نظرية العدالة لجون راولز، أغاتا كريستي، معاجم، مجلات ثقافية وغير ثقافية، وهدايا لم تعجبني من الأصدقاء؛ ثياب جديدة تماماً اشتريتها ولم ترتديها لأنها لا تناسبك، ثياب لشخص آخر كان أنت قبل سنوات قليلة، وثياب مستهلكة قديمة ترفض أن ترميها لولا إصرار زوجتك الحاسم الصارم؛ بوسترات ولوحات لم ترض زوجتك أو لم ترضك أنت: طبيعة صامتة لفان جوخ وشيء تجريدي قبيح لبول كلي وابتسامة بالأبيض والأسود لسيدة من تدمر؛ طعام متنوع: ملح صخري وملوّنات للكيك وطحين وحمص ولازانيا مجمدة ومعلبات منتهية الصلاحية وسردين رخيص وبسكويت للريجيم؛ أنواع عجيبة من طلاء الأظافر الذي لم تستخدمه زوجتك وكنت دوماً تخافه ولا تفهمه؛ أقراص ال سي دي التي لم تعد تستخدمها، بل ولا يستخدمها أحد: الحواسيب الجديدة بدون مشغلات لهذه الأقراص: عمارة يعقوبيان والعراب بأجزائه الثلاث ومجموعة غالية الثمن لعباس كيروستامي وهاملت بالروسية وبعض الرومانسيات السخيفة لجوليا ربوبرتس؛ رفوف للمطبخ وعدتَ أن تركّبها قبل سنتين، ولم تفعل بالطبع؛ والمقشة البلاستيك المكسورة.
تعود إلى البيت، لتنظفه قبل تسليمه للساكنة الجديدة. صبية في مطلع العشرينات، متفائلة، تذكرك بأنك في الأربعين، وعاطل عن العمل، وفاشل: تأخذ مكانك أنت وعائلتك، وتتذمر من صغر حجم البيت ومن المطبخ القديم المتهالك ومن غياب نظام تهوية فعال في الحمام.
البيت فارغ، وأنت تنظفه وحدك: كتخريب أخير برقصة الرب شيفا، لعالم كامل قائم بذاته، قبل إعادة خلقه من جديد مع استيقاظ الرب فيشنو، ليبدأ كل شيء من جديد، في دورات زمنية متكررة لا نهائية.
…
كتب أوسكار وايلد، في مقاله الساخر “نصائح للشباب”: وحدهم السطحيون يعرفون أنفسهم.
بعد عشر سنين، سيدخل السجن، بتهمة المثلية الجنسية، ويكتب من هناك: وحدهم الحمقى لا يعرفون أنفسهم.
كلا الأمرين، المتناقضين كلياً، يبدو صحيحاً تماماً!
…
خلعتْ س الحجاب قبل ثلاث سنوات. لم تخبر أحداً على الفيس بوك. التقيتُ بها مؤخراً. ارتبكتُ قليلاً، لم أعرف إن كان علي تجاوز الأمر وعدم التعليق.
قطعت حيرتي فوراً، بعد مجاملات السلام والأخبار التمام.
“كنت خايفة منك. خايفة شوفك بالصدفة وتسألني. أنا طول عمري بحب الحجاب. أهلي ما جبروني اتحجب. وقت قلتلهم شجعوني. كنت سنة تانية جامعة. بعد ما حطيت الحجاب صرت أسمن. صرت سمينة كتير. بعدين نحفت شوي، بس ضليت…شو الكلمة هون؟ معباية…”
تضحك بصفاء.
“المهم. أنا هلق مو محجبة، بس لساتني مؤمنة وبصلي وبصوم.
أنا ما بعرف شو صار. يمكن أنا تغيرت. يمكن صرت كتير كرهانة كيف الناس بيتعاملوا مع المحجبات بأوروبا. يمكن صرت كتير كرهانة كيف الرجال العرب كلهم بيتعاملوا مع المحجبات. يمكن الحجاب فرض ويمكن لأ. ما بعرف يا عدي…
ما بدي ياك تقول شي.
ولا شي.”
تعرّفت عليها عندما كانت طالبة دراسات عليا في لندن، وكانت لقاءاتنا قليلة جداً. جمعتنا الثورة في البدايات، ثم فرّقتنا الهزيمة.
حلّ صمتٌ ذو معنى، وأنا أراقب شعرها القصير، يتطاير في ريح الشمال البارد، شارداً مشعثاً بريّاً، كغيمة في بنطلون.
…
الأنبياء لم يسجلوا شيئا: موسى، ويسوع، ومحمّد. بل يقال إن أتباع بوذا اعتبروا الأمر إهانة له بعد وفاته. وكونفوشيوس لم يكتب شيئاً، أيضاً.
عاش هؤلاء ليومهم، لناسهم، للحاضر.
الكتابة كانت موجودة، لم يعيشوا في مجتمعات بدون هذا الاختراع العجيب. ولكنهم لم يجدوا حاجةً لتسجيل ما يوحى لهم، أو ما يقومون به.
الكتب المقدسة، لم تكن كتباً في الأصل!
…
بيزن جلالي شاعر فارسي معاصر، يكتب عن الموت كثيراً، بجمال وأصالة وفهم لما بعد الموت وللرغبة به:
أريد أن أموت،
لكن ليس أن يتوقف قلبي،
ويصبح جسدي بارداً،
وأسوّى بالأرض؛
أريد أن أموت
لكن ليس ألا أسمع الأصوات،
وألا تشرق الشمس علي،
وألا أرى
القمر والنجوم.
أريد أن أموت موتاً استثنائياً،
كتبخّر الماء،
كإزهار البذرة،
كغروب الشمس،
كسماء مليئة بالغيم.
أريد أن أفنى،
لأولد ثانيةً في عالم آخر،
عالم لم أسمّه بعد،
عالم لم أجربه سابقاً،
عالم يشبه عالم الخيال
حيث كل شيء عادي،
ما عدا الخوف من الفناء،
ما عدا البؤس،
ما عدا الوحدة.
جلالي هذا ابن أخت صادق هدايت، القاص الفارسي الفاشي المتفرد، الذي انتحر في منفاه الباريسي، ولم يكتب كثيراً عن الموت.
يبدو لي أن التأمل في الحياة ومحبتها هو ما دفع هدايت إلى الموت؛ وليس التأمل في الموت نفسه، على طريقة جلالي.
على العموم، ينتحر من يهوى الحياة، لا من يتوق إلى الموت.
…
كلما شعر المرء بالتوتر والإحباط من رفاق الدرب، عليه أن يتذكر أنهم أشبه بزملاء عمل. سيتيح لنا ذلك متابعة السعي بدون الرغبة الغريبة ببناء صداقات مع من يشبهوننا فكرياً.
في رواية مملة قليلاً، وغير شهيرة، يصف أونوريه دي بلزاك العلاقة الوثيقة بين شخصين مختلفين سياسياً، شارحاً أن الصداقة تنمو بين الطباع المتشابهة، وليس من توافق الأفكار.
….
في “ملطشة القلوب”، يستخدم الأستاذ مصطفى شوقي كلمات لطيفة جداً، وحساسة، وصادقة، ومبتكرة تماماً: “جالك منين سرسوب الهوى؟”، يتبعه التساؤل المتشائم:” هي القلوب كييفة أذى؟”، ليعود إلى المصطلح الساحر:”يا ملطشة القلوب يا جلّاب المصايب”!
كان أحمد عدوية، بالطبع، سباقاً في استخدام التشابيه العادية اليومية الشعبية، كما في جملته الشهيرة “ياللي جمالك فاكهه وكلامك فيتامين”.
تصل هذه الكلمات بسهولة إلى الناس العاديين، أولئك الذين كان نزار قباني يعتبرهم نقاده الوحيدين. ففي واحدة من تعليقاته القاسية، غير الحكيمة وغير المقنعة، يقول إنه لا يلتفت للنقد المتثاقف، وإنه يريد أن يصل إلى أولئك الذين يحبون دريد لحام وعادل إمام. كان الرجل يكتب في مرحلة متأخرة، بعد أن تحجّر قلمه وكرر نفسه كثيراً: كان يهاجم الشعراء الحداثيين، الذين، بحسب قباني، يكتبون ما لا يُفهم.
بعد أن شاب محمود درويش، عاد إلى نزار، وكتب فيه قصيدة جميلة جداً: حملت العودة تغييراً رئيساً في عمل درويش، وكان الناقد فيه واعياً تماماً إلى معنى هذه العودة وضرورتها.
لا اعرف وجهة نظر درويش في الأغاني الشعبية، ولكنني أعرف أنه كان يحب عبد الحليم حافظ كثيراً. أما بالنسبة لنزار، فلقد ألهم أولئك الذين أراد الوصول إليهم، أولئك الذين يستمعون إلى “ملطشة القلوب”، ويبتسمون وهم يتبعون سرسوب الهوى…
…
خارجةً من الظلمة
عائدةً إلى الظلمة
شؤون القطة
إيسا. هايكو
….
أحب اللوحات التي تشبه قصص موباسان: لوحات عن ناس عاديين في حياتهم اليومية؛ حياة يكاد لا يجري فيها شيء، أو يجري كل شيء بعيداً عن الضوضاء.
في أعمال إدغار ديغا، أكثر من الانطباعيين الآخرين، يتجلى العادي اليومي البشري هذا. اشتُهر الرجل بلوحاته الباريسية، لا بالمشاهد الطبيعية. يظهر رجال ونساء متعبون، أو غافلون عما يحدث حولهم تقريباً. تتكثف الحياة في تلك اللوحات، لتقول كل ما يمكن أن يقال، من خلال واقعية شفيفة صريحة.
في بعض لوحاته، يطغى الفراغ على الناس، فراغ يمثله حائط أو أرضية، تجعل مركز اللوحة غامضاً، ومركز الحياة ومعناها كذلك. أفكر في لوحة “الانتظار”، أو “شاربا الإبسين”، أو “تدريب على الباليه” أو “إدوارد مانيه وزوجته”، وغيرها. فراغ يكاد يلتهم اللوحة، فراغ كأنه رمز.
فقد ديغا نظره مع تقدمه في السن، وأصبح ناقماً على الحياة وعلى الناس. لم يتقبّل أن يفقد هو، أعظم رسامي القرن التاسع عشر، نظره ومهنته وجوهره.
وبالتدريج، أصبحت ذكوريته جارحة منتقمة، وكراهيته لليهود وعنصريته جعلته يفقد معظم أصدقائه: في حين قاد صديقه الحميم إميل زولا حملة الدفاع عن دريفوس، اشتهر ديغا بنذالة لا حدود لها في القضية نفسها.
ختم إدغار ديغا حياته وحيداً مهجوراً أعمى، بعد أن ملأها بحيوات الناس العاديين، وبجمالهم الحساس الصافي.
…
في المخيال الشعبي، تحتل ليلة القدر مكانة خاصة عزيزة على قلوب المستضعفين وصغار الكسبة. يؤمن المصلّون بأن أبواب السماء تُفتح على مصراعيها، لتصل تضرعاتهم إلى العليّ القدير مباشرة. يوحي ذلك بأن أبواب السماء مغلقة طيلة العام، ويذكّر بأساطير سكن الله في الأعالي، وحيداً، خلف كرة النجوم الثابتة: في مكان غير محدود ولا محدد، يقع خلف الكون كله. كأننا في ليلة القدر نفتح ثقوباً في كرات الأفلاك التي آمن بها فلاسفة المسلمين بجدية، لتشرف على عالمنا، بعقول الملائكة التي تملكها، كي يحفظوا لله خاصية لطالما نسبها الفقهاء له: الثبات، عدم التغير.
تمتلئ مساجد الشام بالمصلين، ليلة 27 رمضان، ليتحول ليل المدينة إلى نهار هادئ يفيض بسكينة دينية صادقة لا مثيل لها: يصلي الناس آملين، ولو مرة، بأن تصل صلواتهم إلى الله: يصلون كلهم: من أغنى الأغنياء إلى أفقر الفقراء. يطلبون الصحة، اولاً، والأمن، ثانياً. ثم يطلبون كل شيء: مساعدات مادية وأوراق يانصيب رابحة وتوفيق في امتحانات الدراسة ورضا الحبيب و الحبيبة والزوج والزوجة، وزحمة أقل ومطر أكثر وصيف أرحم وشتاء أنعم ونسيم دائم، يتضرعون أن يشفى مرضاهم ويعود مغتربوهم. يبكي وينوح كثيرون منهم. لا يعرفون لماذا. طالما أبواب السماء مشرعة لهم، يلمسون العناية الإلهية بشكل حسي، كأنهم يتكلمون مع الله وجهاً لوجه. بعدها، يخرجون من مساجدهم، تملؤهم طيبة لا تدوم طويلاً.
ولا يعرف أحد بالضبط متى تكون ليلة القدر هذه. لا يعرفون، ولكنهم يخمنون. يتركهم الشك مرتاحين: قد تكون ليلة أخرى، لم يسمعنا الله هذه المرة. ولكن، ربما غداً، أو بعد غد. ربما رمضان القادم، أو الذي يليه، أو بعد عشرين سنة. يبقى الأمل. لا يعرفون بالضبط، أيضاً، كيف تُفتح أبواب الجنة في الليل، أو من يفتحها، أو لماذا. لا يهتمون بهذه الأمور العملية. يكادون يدركون أن الأمر كله أسطورة، كما يؤكد بعض فقهاء السنة المتشددون الذين يكرهون البدع، ويحافظون على إسلام متقشف بسيط، ممل جداّ وغير شعبي. يهرب الناس من البساطة، ويفتحون قلوبهم ليلة القدر، لكل ما يختبئ فيها: أساطير وخرافات وخزعبلات، ونور ينبع من الداخل، من الروح التي لا تفنى ولا تموت، ومن محبة لا يحدّها شيء، كالكون الواسع اللانهائي نفسه.
في ليلة القدر، يقول الناس لأنفسهم كلّ ما لا يقال في العلن؛ علّ قلوبهم تتخفف قليلاً من أسى لا يُحتمل، ولا تشفيه حتى الابتهالات الصادقة!