العزلة التي تفرضها الكتابة لم تكن يومًا في مركز الحياة، إنما هي عزلة تنمو على مبعدة من هكذا مركز، على هامش الحياة، بجانب الطريق، أقرب ما تكون إلى عشبة برية. إلا أن عامين على الجائحة حوّلتا العزلة إلى أسلوب حياة للكثير، ممتدة تمامًا كالأعشاب البريّة إلى ما كان يومًا مركزًا للحياة، إلى منتصف طريق لم يعد يسلكها أحد.
لذا، من غير المفاجئ أن نعثر على هذه العزلة في قلب مهرجان برلين السينمائي لهذا العام، برلينالي 2022، في غالبية الأفلام التي تمّ صنعها خلال العامين الماضيين. هنا لم تتجلّ عزلة الجائحة في الأقنعة التي يرتديها الممثّلين والممثّلات، والتي يرقى بها أن تلعب دور الروزنامة، إنما وربما في الأساس في شكل ومضمون هذه الأفلام. شخصيّات معزولة داخل الكادر، في غرف وبيوت وشوارع مهجورة، تجعل المَشاهد في اختزاليتها شبيهة بالفن المسرحي، عدا أن عددًا ليس قليلاً من هذه الأفلام منشغل بشكل مباشر بسؤال الكتابة، بدءًا بشخصية الكاتبة أو الكاتب، كما يأتي في فيلم المخرج الكوري هونغ سانغ-سو، والذي حاز على جائزة الدب الفضي عن فيلمه “فيلم الكاتبة”، وتدور أحداثه حول محاولة كاتبة عكفت عن الكتابة خلال العامين المنصرمين، عمل فيلم سينمائي، ما ينتهي به إلى يكون فيلمًا أدبيًا مصدر أسئلته وأدواته وعزلته الكتابة، ما يؤدي إلى فشل هذا الفيلم بشكل كامل.
فيلم المخرجة الإيرانية ميترا فرَهاني، وعنوانه “حتى الجمعة، روبنسون”، يوثّق بدوره مراسلات الشاعر الإيراني إبراهيم غولستان مع المخرج الفرنسي جان-لوك غودار. إنه حوار بين الأدب والسينما، أو الكلمة والصورة، اللتين لا تلتقيان البتّة إلا عبر جمعهما بالقوة. الفيلم على هذا المنوال يلاحق استحالة هذا اللقاء وهذا الحوار، لتبقى الصورة منغلقة على ألوانها والكلمة محصورة بصدى صوتها، ولا يهم كم من محاولة هناك لجمع الطرفين، تبقى الهوة سحيقة بينهما.
وهناك من الأفلام أيضًا ما انشغل بالكتاب نفسه، مثل فيلم ” موتزينباخر” للمخرجة النمساوية روث بيكيرمان والذي حاز على جائزة أفضل فيلم عن فئة الأفلام المعروضة في قسم “اللقاءات”. محور الفيلم هو كتاب “يوزيفين موتزنباخر، أو قصة حياة مومس من فيينا كما تأتي على لسانها” وهو عبارة عن رواية إباحية لكاتب نمساوي مجهول، يرجّح بأنه فيليكس سالتين (كاتب رواية “بامبي”)، نُشِرت في العام 1906، وتم منعها في العديد من الدول، بما فيها ألمانيا حتى وقت قريب. الفيلم يقدّم قراءة لفقرات من الرواية من قبل ممثلين يجري اختبارهم للعب دور ما محتمل في الفيلم. خلال هذه الاختبارات تقوم المخرجة بمحاورتهم في محاولة لاستكشاف آرائهم في النص والتي توضّح إشكاليته في منطقه الذكوري الذي يتعامل مع الجسم الأنثوي كمصدر لمتعته، متعة الرجل بالأساس. الفيلم بالتالي يتساءل حول دور الأدب والفن والصورة في التأسيس لعادية هذا المنطق.
غير أن هنالك من الأفلام ما جمع بين كل هذه الانشغالات وأخرى، بأسئلة العزلة، والكاتب والكاتبة وعزلتهما، بل وعزلة الكتاب وموت اللغة، مثل فيلم “شاعر” للمخرج الكازاخي دارِجان عمرباييف. يتابع الفيلم ديدار الذي يكتب الشعر قبل توجهه إلى مكتب عمله في وزارة الثقافة، محاطًا بموظّفين آخرين يشغلهم الخوف من موت وشيك للعديد من اللغات المتداولة اليوم. وفق حسابات هؤلاء الموظفين، بعد مائتي عام ستكون اللغة الكازاخية من بين اللغات الميّتة، لينتهي الأمر بهيمنة لغة واحدة، في الغالب الإنجليزية، على عالمنا، في ظل شرطنا الوجودي الحالي الذي يحكمه نظام العولمة. مع ذلك، يواصل ديدار كتابة الشعر في عزلته وفي مخيّلته، حيث يستحضر دور الشاعر قبل مائتي عام حين كان قائدًا لثورات، ليس بعيدًا عن الدور الذي وجده الشعر لنفسه في سياق الثورات العربية قبل عقد، والتي حوّر المحتجّون خلالها المقطع الأول من بيت شعر كتبه أبو قاسم الشابي في القرن الماضي. في ذلك الوقت إذن، كانت تنمو عزلة الشاعر جرّاء نفيه ومحاولة إقصائه سياسيًا، في حين هي اليوم جرّاء انشغال المجتمع بطقوس استهلاكه غير الشعرية. مع ذلك، ينتهي فيلم “شاعر” بالتأكيد على أن هنالك دائمًا قارئ أو قارئة واحدة، ينقذها الشعر من صمت أبدي وعزلة محكمة. وما دام هنالك قارئ ولو واحد، سيبقى للأدب منفذًا للتنفس والحياة.
بلا شك، نسخة برلينالي لهذا العام، بوضعها فن الكتابة في مركزها، أعادت كذلك هذا الفن إلى مركز القلق اليومي، مانحة إياه منفذًا ليتنفس ويحيى.