تقوم الجريمة الجنائية، عموماً، على اعتداء فرد ما على حياة الآخر محاولاً إلغائها، وهذا النمط الجرائمي حاضر بصورة واضحة في مختلف المجتمعات، إلا أنّه يتحول إلى نمط استثنائي عندما تتبناه مجموعة بشرية ما وتحاول تطبيقه على مجموعة بشرية أخرى، فينتقل من المستوى الفردي النمطي إلى المستوى الجمعي الشامل.
وهذا ما حدث في السياق الفلسطيني؛ إذ تعتدي، باستمرار، مجموعة بشرية احتلالية على مجموعة بشرية أخرى، تنتمي بصورة طبيعية للسياق المكاني، محاولة تغييبها وإلغاء وجودها التاريخي.
وقد ظهر هذا الاعتداء بأشكال عدة ابتداء من القتل العشوائي للمدنيين وانتهاء بالقتل المنظّم للصحفيين، وقد تمكن الفلسطيني من توثيق هذه الانتهاكات المنظّمة بحقه، ليغدو لديه سجلاً مادياً طويلاً، يحفظ فيه مجمل الجرائم التي تعرّض لها، ويُضاف إلى السجل الذهني الحاضر في لا وعي كل فلسطيني شهد هذه الجرائم الممتدة.
وقد حفظ الفلسطيني، مؤخراً، في هذا السجل المزدوج، المادي والذهني، جريمة اغتيال الصحفية “شيرين أبو عاقلة”، فهذا الاغتيال لم يُحفظ في الأرشيف الرسمي للمحرقة الفلسطينية الباردة والممتدة فحسب، بل هو، أيضاً، محفوظ ذهنياً في لا وعي كل فرد شاهد هذا الجزء الأرشيفي المتمحور حول اغتيال شيرين.
وقد حضرت شيرين، خلال سنوات عدّة، بوصفها صحفية ميدانية، تنقل مجمل الأحداث الحاصلة على الأرض، وقد رسخت هذه الصورة في ذهن المتابع وغدت جزءاً من ذاكرته المتعلقة بالقضية الفلسطينية، هذا الحضور لشيرين بوصفها ناقلة للأحداث الميدانية سيصيبه تحول جوهري عندما تغدو هي الذات المتعرّضة بشكل مباشر للفعل الإجرامي، إذ تحول ناقل إجرام الاحتلال إلى مادة خبرية يتمحور حولها الفعل الإجرامي الاحتلالي.
وهذا الصورة التحولية التي خبرناها أكدت الطبيعة التعويمية لإجرام الاحتلال، وغياب أي استثناء ممكن من هذا الفعل، فالمجرم النمطي يتعمد، غالباً، اختيار ضحية ما تكون محط فعله الإجرامي، إلا أنّ المحتل، هنا، اختار مجموعة بشرية حاضرة على الأرض، ليكون أي فرد ينتمي إليها محوراً لفعله الإجرامي، فالإسرائيلي يعتبر الفلسطيني، مهما كانت صفته أو وظيفته أو انتماءاته، ضحية محتملة، إذ لا حدود له أو استثناءات ممكنة.
وقد خبر الفلسطيني تاريخياً تعويمية إجرام الاحتلال من خلال الجرائم المستمرة التي تتعرض لها مختلف فئات الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه التعويمية مازالت تتجاوز نفسها باستمرار من خلال الاعتداءات المباشرة والمستفزة على أفراد عُزّل، مما يدخل هذا المحتل في سياقات انتهاكية وقحة.
وتجدر الإشارة إلى أنّه في السياق الطبيعي يبتعد المجرم عن مسرح جريمته ويترك لذويه حرية نقل الجثمان وتشييعه، إلا أن ما حدث في سياق اغتيال شيرين مخالف تماماً، فالمحتل عمل على فرض سيطرته على السياق الجنائزي لضحيته، محاولاً التحكم به وفرض رؤيته لنمط التشييع المفترض، فهو يرغب بسياق جنائزي غير محرِّض، هامشي، متطابق مع هامشية حياة الفلسطيني بالنسبة له، وذلك بعكس الفلسطيني الذي يرغب بسياق جنائزي استثنائي، يوازي استثنائية الإجرام الذي تعرضت له “شيرين أبو عاقلة” والمشكل جزءاً من الإجرام الذي يتعرض له الفلسطيني بصورة مستمرة.
هذا التقاطع الرؤيوي على صعيد السياق الجنائزي أدى لمواجهات بين الفلسطيني والإسرائيلي أثناء موكب تشييع “شيرين أبو عاقلة”، انتهت بفرض الفلسطيني رؤيته لنمط التشييع المتطلع إليه، فالفلسطيني الذي تُسلب حياته بفعل إجرام احتلالي ممتد يرفض أن تُسلب منه أيضاً سياقاته الجنائزية التي يرغب بها. فشيرين لم تذكر الفلسطيني بكونه ضحية عمومية لكيان محتل بل نبهته أيضاً على محاولاته للسيطرة على سياقات ما بعد موته لجعلها سياقات هامشية نمطية.