فلسفة الهروب: الأنساق المعمارية المتضادة في سجن جلبوع

نور عبّاس

كاتبة من سورية

في السياقات الطبيعية يكون الفضاء الخارجي المحيط بالسجن مضاداً لفضاء السجن معمارياً ووظيفياً ونفسياً، لذلك يغدو انتقال الأفراد من فضاء السجن إلى الفضاء المحيط به لحظة تحول معماري، ووجودي، ونفسي. ولكن ما حدث في السياق الفلسطيني مختلف تماماً، فالمحتل أعاد نمذجة الفضاء الخارجي المضاد بآلية تجعله مشابهاً لفضاء السجن.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
خمس ممثلات إيطاليات أيقونيّات (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

09/02/2022

تصوير: اسماء الغول

نور عبّاس

كاتبة من سورية

نور عبّاس

ماجستير في النقد الأدبي الحديث، جامعة حلب.

خلق الفضاء الهروبي

إنّ السجن فضاء معماري، قمعي، يحتضن أفراداً خارجين عن النسق السلطوي القائم، فيغيّب حريتهم المكانية الفطرية، ويسلبهم، بالتالي، نسقاً من الحريات الأخرى المتعالقة معها تعالقاً عضوياً، إذ تشكّل الحرية نسقاً متماسكاً، وأي مساس بجزء من هذا النسق سينعكس، مباشرة، على بقية الأجزاء المشكلة له، فتتحطم الصورة الكلية، المثالية، المُمكِنة للحرية. 

فالسجين ذات تعيش أزمة حرية مكانية تؤثر في مختلف حرياتها الأخرى الفطرية، لذلك كان من الطبيعي أن تحاول هذه الذات المسجونة تجاوز المكان السلطوي القمعي المنافي لفطرتها من خلال قيامها بمحاولات هروبية. 

وقد دفع هذا الفعل الهروبي الفطري الممكن الذات السلطوية إلى تدعيم السجن تدعيماً معمارياً يمنع محاولة الفعل الهروبي من النجاح، ولم تتوقف الذات السلطوية عند هذا التدعيم فحسب، بل تسللت أيضاً إلى الفضاء الداخلي للسجن، وفرضت رقابة على الأدوات التي من الممكن أن تُوظَّف في محاولة الهروب، فغدا السجين مقموع الحرية المكانية ومسلوب الأدوات التي قد تمكنه من  الهروب. 

وعلى الرغم من الحالة القمعية الرقابية التي تعيشها السجون فقد تمكن البعض من خلق ثغرة في هذا الفضاء المعماري تمكّنه من القيام بالفعل الهروبي المكاني، فانتصرت، بطريقة ما، الحالة الفطرية الإنسانية على السياقات السلطوية القمعية المنافية لها.

ومن أبرز سياقات السجن الإشكالية في التاريخ المعاصر سياق الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، فالمستوطن يحتل أرض الآخر بالقوة احتلالاً إحلالياً، ويفرض على الأفراد نسقاً من القوانين القمعية، غير المُعترَف بها شعبياً، لامتصاص زخم الفعل المقاوم الصادر عن أصحاب الأرض، موظّفاً السجن بوصفه أداة معمارية سلطوية تحتضن أكبر عدد من الأفراد المشكلين خطراً على المقولات الاستعمارية.

لذلك كان هذا السجن الحاضر في سياق إشكالي، استيطاني، متوتر، غير قانوني عرضة للمحاولات الهروبية المستمرة ذات التصنيف البطولي المُقاوِم. ومن أبرز هذه النماذج الهروبية المعاصرة نموذج الهروب من سجن جلبوع.

يشكّل برج المراقبة عنصراً معمارياً مركزياً في سجن جلبوع؛ إذ يتموضع هذا البرج في مكان وسطي، مركزي، فاقع، لتبصره كل ذات موجودة ضمن الفراغ الداخلي للسجن، مما يذكر هذه الذوات بأنّها مراقبة باستمرار، فالمحتل لم يكتف بمراقبة السجين داخل الفراغ الذي يتحرك فيه بل أشعره، أيضاً، باستمرارية هذه المراقبة وديمومتها للسيطرة عليه نفسياً ومنعه من التفكير في المحاولة الهروبية. 

وعلى الرغم من هذا القمع النفسي للمحاولة الهروبية الممكنة فقد تمكن بضعة أشخاص، باستخدام أدوات بدائية بسيطة، من خلق فضاء معماري نفقي هامشي مضاد للفضاء المعماري المركزي السلطوي ومتجاوز له للقيام بمحاولة هروبية، فكان الهروب، في جوهره، اختراقاً للبنية المعمارية السلطوية التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي وتأكيداً على هشاشتها أمام إرادة أصحاب الأرض المتطلعين لتجاوز السياق القمعي القائم.

خلق النسق الهروبي كأداة لنفي الكلاسيكية 

قد تتعرض المظلومية الممتدة فترة تاريخية طويلة لخطر الوقوع في الكلاسيكية؛ إذ يألف الجمهور المتفاعل معها إشكالياتها، ونسق المقاومة الذي يتبعه أصحابها. ومن هنا كان من الضروري أن يبتكر الأفراد المتعرضون، بشكل مباشر، لهذه المظلومية وسائل لنفي الكلاسيكية عن مظلوميتهم وإحيائها في الذوات الأخرى المتفاعلة معها. 

هذا ما حدث في هروب سجن جلبوع، فالهدف الأساسي للهروب هو نيل أفراد محددين، خضعوا لقوانين احتلالية ذات طبيعة إشكالية، حرّيتهم، إلا أن هذا الهروب كان، أيضاً، أداة لتذكير الجمهورين العربي والعالمي بقضية المغيبين في سجون الاحتلال، ووسيلة لتجديد القضية الفلسطينية، والتأكيد على قدرة الذوات الواقعة تحت سلطة الاستعمار الإحلالي على ابتكار وسائل جديدة لإعادة قضيتهم إلى الواجهة ونفي كلاسيكيتها. فالمقاومة الفلسطينية، وفق هذا النموذج، لم تكن مقاومة جماعية نمطية مسلحة، بل كانت مقاومة ابتكارية مُلهِمة، قائمة على نفي النسق المعماري السلطوي الاحتلالي من خلال نسق آخر مضاد له شكلاً ووظيفة. 

نمذجة السجن

في السياقات الطبيعية يكون الفضاء الخارجي المحيط بالسجن مضاداً لفضاء السجن معمارياً ووظيفياً ونفسياً، لذلك يغدو انتقال الأفراد من فضاء السجن إلى الفضاء المحيط به لحظة تحول معماري، ووجودي، ونفسي. ولكن ما حدث في السياق الفلسطيني مختلف تماماً، فالمحتل أعاد نمذجة الفضاء الخارجي المضاد بآلية تجعله مشابهاً لفضاء السجن.

فهو، على الصعيد الشكلي، فراغ طبيعي نمطي مألوف، أما على الصعيد الضمني  فهو فضاء مخاتل؛ قادر على التحول إلى فضاء عسكري قمعي في أي لحظة يقررها المُحتل. ومن هنا فإن الأفراد قد هربوا من سجن نمطي مألوف إلى سجن خارجي آخر، خلقه الاحتلال لحظة هروبهم، لحصارهم وإعادتهم إلى سجنهم النمطي الأول. فهذه الإعادة لم تكن سوى تذكير بالفضاءات المعماريّة المُخاتلة التي تعيش في سياقها الذات الفلسطينية، وبيان حجم الإصرار الفلسطيني على خلق مجالات معماريّة جديدة تقاوم سلوكيات الاحتلال وتتجاوزها.

الكاتب: نور عبّاس

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع