أطلق المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السبت، 18 حزيران/ يونيو 2022، موقع “القدس: القصة الكاملة“، وهو موقع متخصص بتاريخ القدس المحتلة.
سبق إطلاقَ الموقع استضافة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، المؤرخ الفلسطيني نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ بجامعة بيرزيت بالضفة الغربية، وأحد الخبراء في تاريخ القدس وتراثها، الذي قدّم محاضرة بعنوان “القدس ومعركة البقاء”، في إطار “محاضرة النكبة السنوية”، التي ينظمها المركز العربي بالشراكة مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية – رام الله، وذلك في المُدرج الرئيس في مقر المركز في الدوحة.
تُعد محاضرة الجعبة الثانية، بعد محاضرة بشارة، التي قدّمها في أيار/ مايو 2021، بعنوان “في راهنية النكبة، وفي راهنية قضية فلسطين عربياً”، وكانت المحاضرة الافتتاحية في هذه السلسلة.
الباحثة في المركز العربي، آيات حمدان، أدارت الفعالية التي حضرها جمهور من الباحثين والمهتمين، إلى جانب رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية الأستاذ طارق متري، والمدير العام للمؤسسة الأستاذ خالد فراج.
“القدس: القصة الكاملة”… روايتنا للعالم الغربي
أكد الدكتور عزمي بشارة، خلال إطلاق الموقع، على أنّ “العمل على موقع “القدس: القصة الكاملة” بدأ قبل 3 سنوات، مدفوعاً بغياب أي موقع باللغة الإنكليزية يعرّف العالم الغربي على قضية القدس”. وأضاف أنه “رغم أنّ هذا الدور كان يجب أن تقوم به الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي أو لجنة القدس، أطلق المركز العربي الموقع، كي لا تبقى السردية الصهيونية هي السائدة، وهي التي تقدّم المعلومات عن القدس للباحث والقارئ الغربي”، مشيراً إلى أنّ “الموقع يقدّم السردية الفلسطينية لقصة القدس والنكبة، من خلال آلاف المواد والوثائق والخرائط والقصص والصور والفيديوهات”، هادفاً إلى “شرح كل شيء عن القدس تقريباً؛ بدءاً من حرب النكبة 1948 حتى الوقت الراهن”، وأنه “يحكي تاريخ القدس ومكوناتها وسكانها”.
وفي السياق، أشار بشارة إلى أنّ “حضور القضية الفلسطينية يتطلّب التفكير في كل الأطر التي تجمع الفلسطينيين (القدس، الشتات، عرب 48، الضفة الغربية، قطاع غزة). من هنا، يأتي “منتدى فلسطين السنوي” الذي سيعقده المركز العربي ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، في كانون الثاني/ يناير من كل عام؛ على اعتبار مساهمة المركز في جمع الأطر الفلسطينية كافة، وعلى اعتبار أنه مؤسسة بحثية توفّق بين البحث العلمي والالتزام بقضايا الأمة كالعدالة والنضال ضد الاحتلال، كما أثبت المركز العربي التزامه بالديمقراطية والنضال ضد الاستبداد في مرحلة سابقة.
من جهتها، قدّمت مديرة الموقع الجديد، الباحثة كيت روحانا، عرضاً تعريفياً عن الموقع؛ مبيّنة أنه يهدف إلى “تقديم الحقائق التاريخية والسردية التي غُيِّبت عن الكثيرين، والتي لا بد من أن يعرفها المهتمون بالقدس وتاريخه”.
وعرضت روحانا أقسام الموقع بالتفصيل، خصوصاً قسمه الأكبر “الصورة الكبرى”، الذي يقدّم لمحة عامة عن تاريخ القدس، والعدوان الإسرائيلي عليها منذ نشوب النكبة عام 1948، وأتبَعت ذلك بالحديث عن أقسام الموقع الأخرى التي تتناول عملية تقسيم المدينة إلى شرقٍ وغربٍ، وإفراغ الجزء الغربي من سكانه الأصليين، فضلاً عن قسم “القصص الشخصية” الذي يتناول حيوات عدد من العائلات المقدسية التي تعرضت للتهجير والتضييق من الاحتلال الفلسطيني. ويعبر هذا القسم الأخير من الموقع عن جهد توثيقي إثنوغرافي قام به فريق عمل الموقع لتوثيق هذه القصص الشخصية الحقيقية. ويشتمل، إلى جانب كل ذلك، على خريطة تفاعلية لتبيان مدى التوغل الإسرائيلي في مدينة القدس عبر الأزمنة، ومناطق الحواجز الأمنية والبلدة القديمة والمستوطنات التي شُيدت، والتي يجري تشييدها، والجدار العازل.
وأبرزت روحانا، في السياق، أبواب الموقع “الذي سعى لرسم صورة واقعية عن القدس، بعين وإحساس الفلسطينيين تجاه المدينة”. كما بيّنت أنه “أول موقع يقدّم قصة القدس الكاملة، بمحتوى نصّي ومقاطع فيديو وصور ورسوم بيانية تحت الاحتلال ومشاريعه الاستيطانية”. مشيرة كذلك إلى أنّ “الموقع يشتمل على قسم للتدوينات الذي يتناول الحياة اليومية في القدس، وأنه بمنزلة بوابة تفاعلية تمكّن الجماهير من المشاركة فيها، ولا سيما عبر مشاركة قصص القدس”.
واختتمت روحانا بالتنويه إلى ما يقدّمه الموقع من ذاكرة مصورة عن القدس، ودعت المهتمين إلى المشاركة في قصص الموقع عبر بوابة التطوع التي يوفرها الموقع نفسه.
ويقدّم الموقع محتوى شاملاً حول المدينة من جوانب مختلفة؛ من مواضيع تحليلية عميقة ذات طابع أكاديمي، وسير ذاتية تتناول حياة المقدسيين الذين قدّموا مساهمات مختلفة للمدينة ونسيجها المجتمعي عبر التاريخ، إضافة إلى مقاطع فيديو وصور ورسوم عن المدينة. وبحسب القائمين على الموقع، فقد قام بالعمل على إنجازه تصميماً ومحتوى فريق من اثني عشر باحثاً، إضافة إلى المتعاونين والمتطوعين.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ موقع “القدس: القصة الكاملة” يضاف إلى مشاريع برامج المركز العربي التوثيقية عن القضية الفلسطينية، مثل مشروع “الذاكرة الفلسطينية”، الذي أنشأه منذ عدة أعوام، ويجري العمل على إطلاقه في كانون الثاني/ يناير المقبل.
الجعبة: “حرب الرواية”
بالعودة إلى محاضرة المؤرخ الفلسطيني الدكتور نظمي الجعبة، التي ناقش فيها أسباب تنامي التصعيد الإسرائيلي في مدينة القدس، والتغيرات الجغرافية والديموغرافية والحضرية التي تعرضت لها منذ احتلالها عام 1948.
الجعبة، أكد أنّ “القدس لن تكون قضية خاسرة، وستظل تقضّ مضاجع الجميع”، موضحاً أنّ ذلك “بفضل الحراك الشبابي الواعي، الذي يدرك أدوات الصراع ويقود يومياً معركة وجودية على الأرض، حتى بعد أن اعترفت بها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل)، وحتى بعد أن بدأت نظم عربية تعزز قبول الأمر الواقع”.
وتطرّق المؤرخ الفلسطيني، إلى الخلفيات السياسية والاجتماعية للحراك المتواصل في القدس، ومن ضمن ذلك السياسات الإسرائيلية وما أنتجته من واقع، مبرزاً أنّ “ما يجري في القدس حالياً هو حالة استثنائية ستنعكس على ما يدور في المنطقة العربية والشرق الأوسط”.
وأستعرض المُحاضر سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتأثيرها في المدينة وسكانها، مؤكداً أنّ “الاحتلال يستعمل سلاحي الأرض والسكان لمحو هوية القدس”. كاشفاً أنّ “العامل الديموغرافي مقلقٌ للاحتلال الإسرائيلي إلى حدّ بعيد”، وتوقّع أنّ “عدد السكان الفلسطينيين قد زاد على 50 في المئة من عدد السكان في عموم فلسطين التاريخية، مقارنةً بالهجرة العكسية للإسرائيليين”.
أما بالنسبة إلى الأرض، فرأى الجعبة أنّ “محاولات الاحتلال تمثّلت في حصر السكان الفلسطينيين للعيش على 10% فقط من مساحة المدينة”. وأردف أنّ “سياسات الاحتلال للسيطرة على الأرض قد نجحت كثيراً عبر الاستيطان المتنامي على نحو واضح”. مبيّناً أنّ “الاستيطان لا يهدف إلى السيطرة على الأرض فقط، بل يهدف كذلك إلى تفتيت النسيج الوطني الاجتماعي، لكن المقاومة الشعبية غير المُسيّسة تقف حائلاً دون هذه السياسات”.
وفيما يتعلق بشأن نمو السكان، فقد ذكر المُحاضر أنه “يصبُّ في مصلحة الكتلة السكانية الفلسطينية؛ إذ يزيد عدد المواليد الفلسطينيين في مدينة القدس كاملة على عدد المواليد اليهود، الذين يَكثرون حصراً في الطوائف اليهودية المتدينة”. مشيراً إلى أنّ “عدد سكان القدس الشرقية من الفلسطينيين كان سبعين ألف نسمة في عام 1967، وهم الآن يقاربون الـ 400 ألف، ويشكّلون مما يسمى (القدس الموحدة) نسبة تفوق الأربعين في المئة”.
وقال الجعبة إنّ الاحتلال الإسرائيلي “يصنفهم على أنهم أعداء، في ظاهرة غير موجودة في أي عاصمة في العالم، تصنف قرابة نصف سكانها على هذا النحو، وتضعهم تحت كل وسائل المراقبة”.
أمّا بشأن الوضع الاقتصادي لسكان القدس، فقد أشار المؤرخ الفلسطيني إلى أنّ “الاحتلال اتبّع سياسة محكمة لإفقار سكان المدينة؛ عبر إجبار الطبقة الوسطى على الخروج من القدس والاستثمار خارجها، وتوجيه الطبقة العاملة إلى العمل في الداخل الإسرائيلي المحتل، وفي وظائف ذات رواتب متدنية، كالنظافة وأعمال البناء”.
وتطرّق أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت في محاضرته، إلى محاولة قراءة مستقبل مدينة القدس؛ بناءً على المعطيات الحالية، وفي ضوء مشاريع الاحتلال التي تستهدف المدينة وسكانها الفلسطينيين، ولا سيما داخل أحياء البلدة القديمة التي أخفق الاحتلال في تهويدها، رغم كل محاولاته المستميتة التي تستخدم كل وسائل القوة.
وفي الختام كشف الجعبة، عن محاولات إسرائيل خلقَ سردية مزيفة، واعتبر ذلك “حرب الرواية”؛ بين الروايتين الإسرائيلية الشعبية الواسعة التي تقودها حركات قومية دينية صهيونية من جهة، والرواية الفلسطينية التي تتحدّى هذه الرواية بوعي ذاتي وهوياتي من جانب الفلسطينيين الذين بات الجيل الشاب منهم يتحرك من دون توجيه الفصائل الفلسطينية، على اختلافاتها كافة، أو السلطة الفلسطينية، وهو ما يجعل أهداف الاحتلال، الذي لا يستطيع مواجهة العمل الشعبي الجماهيري غير المنظم، أمراً صعباً.
وأعقب محاضرة الجعبة، نقاشات هامة شارك فيها الحضور، فضلاً عن جمهور المتابعين عبر منصة “زووم” وسائر وسائط التواصل الاجتماعي للمركز العربي ولمؤسسة الدراسات الفلسطينية، (فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب)، مع توفر الترجمة الفورية إلى اللغة الإنكليزية.
يذكر أنّ الدكتور نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت. تخرج من جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، وجامعة توبنغن في ألمانيا. وكان مديراً للمتحف الإسلامي – المسجد الأقصى، ومديراً مشاركاً لرواق – مركز المعمار الشعبي. شارك في أغلبية مشاريع توثيق التراث الثقافي المادي في فلسطين، ويُعتبر خبيراً بالتراث الثقافي وشؤون القدس والخليل، ونشر عدداً كبيراً من الكتب والمقالات عن هذه الموضوعات.