في كتابه الموسوم بـ «كمين غسّان كنفاني: كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه»، الصادر عن “دار عائدون للنشر” في عمّان (2021)، يتناول الباحث الأكاديميّ الفلسطينيّ الدكتور محمد نعيم فرحات، (أمين عام الجمعية العربيّة لعلم الاجتماع) سعياً لمقاربة جديدة لإرث كنفاني وتمثلاته في الوعي والثقافة، “خطابَ غسّان كنفاني، بصفته أحد الخطابات الأساسية التي صعدت من ثنايا الوضع الفلسطينيّ الملتهب بفعل ما سمّاه الفلسطينيّون بالنكبة المترتبة عن إنشاء دولة إسرائيل، عن إنقاذ الجماعة الفلسطينيّة عام 1948. مبرزاً أنّ النكبة الفلسطينيّة كانت “حدثاً سوسيو- تاريخيّاً شاملاً مسَّ الواقع والتصوّرات على مزلزل، وتحوّل الفلسطينيّون بفعلها إلى عِهنٍ منفُوشٍ بالمعنى الزمنيّ للكلمة”.
الكتاب بنسخته الورقية تزامن صدوره بطبعة إلكترونية عن دار «ekutub» للنشر في لندن، وهو دراسة نقدية معمّقة في نصوص كنفاني القصصية والروائية، وكما نوه المؤلّف في الصفحة الثالثة من الكتاب، فهو “كتاب محكّم من طرف مركز البحث العلمي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية “كراسك” وهران التابع لإدارة البحث العلمي بوزارة التعليم العالي الجزائرية”.
فرحات تناول في هذه الدراسة الأكاديميّة، بنية الثقافة والوعي عند الفلسطينيّين وخصائصها، من خلال قراءة فسيحة امتدت في آفاق كثيرة لخطاب غسّان كنفاني باعتباره من أكثر الكتّاب الفلسطينيّين الذين اهتموا بهذه المسألة. كما تعمّق كثيراً في قراءة المشهد الفلسطينيّ المعاصر، وشخص على نحو نقدي مزايا ومعضلات طريقة الوعي عند الفلسطينيّين وكيفية تعاطيهم مع الواقع ومشكلاته وتحدياته.
أرواح غسّان كنفاني
يشير فرحات في تقديمه للكتاب (كلمة المؤلّف)، إلى أنه “ظل بمقدور نصّ كنفاني أن يُقدِّمّ على طريقته لكلّ المعنيّين قوّةَ الوعي المناسب وقدرته ومتطلّبات الوصول للأهداف الكبرى، ويزوّدهم بطاقة الأمل والوعد والحلم. وعيٍ لم يخذل نفسه وهو يسير إلى قدَره “مستسلماً لصَواب قلبه” وعقله معاً، بالإذن من محمود درويش، مشروطاً بقوّة الفعل غير القابلة للانكسار..”. منوهاً إلى أنّ “هذه الدراسة، تنتمي من الناحية النظرية والمنهجية عموماً، إلى علم اجتماع الثقافة، وحقل العلاقة بين النصّ والتّاريخ، إلّا أنها بحثت بانفتاح وتطلّع، عن كلّ امتداد ممكن من شأنه أن يمتّنها ويعزّزها ويفتحَ أفقها في كلّ اتّجاه مفيد. وبحكم العناصر الحاكمة لها موضوعيّاً، فقد تحرّكت الدراسة، وهي تقدّم مساهمتها السوسيولوجيّة في مجال نصّيّ وتاريخيّ مركّب، وكان عليها أن تتعامل مع عناصر الصيرورة كلها: النصّ والفاعل والواقع والأثر، ودائماً من خلال المقولة المركزية الناظمة لها: أبنية الوعي”.
نقرأ في تصدير الكتاب، الذي عنون “بمثابة تقديم”، والذي حرّره الناقد الفلسطينيّ الدكتور فيصَل درّاج، عن الكتاب ومؤلّفه: “جاءت قراءة محمد فرحات وتعقُّبه اليقظ لخطاب غسّان كنفاني مهجوسةً بفلسطين وبأسئلتها الكبرى، وأضمرت القراءة أيضاً الأفق الفسيح لتأمُّل النشيد عند محمود درويش، ووضوح الوعي الصّارم عند إدوارد سعيد، ومساهمات أخرى لفلسطينيّين كُثر ترامت في آفاق متعددة. استولدت “اليقظة والتأمّل والوعي الصارم” عندهم ما يمكن تسميتُه بخطّ المناعة الثقافية لشعب شريد يقيم في مهبّات التّاريخ، وانشغلت بتحديد معنى الوطنيّ والانحراف عنه، وتعيّن الهاجس السياسي وتحرير المستحيل من القلق، وأعطت أحكاماً صائبة في كتابة المضطّهَدين المقاتلين من أجل الحرية وفِقهها الصّحيح، وبرهنت أنه لا إبداع بلا سياسة إبداعيّة تقود إليه، ولا سياسة سويّة في الأدب إن لم تكن سويّة في منظورها العام إلى الأدب والإبداع والحياة”.
يضيف درّاج أنّ فرحات “أيقظ في قارئه أرواح غسّان كنفاني، الأديب، المثقّف الأكثر تكاملاً ومأساوية في تاريخ الأدب الفلسطينيّ، حيث الفلسطينيّ المقاتل “إنسانٌ يسيرُ إلى موتِه”، طالما أنّ المتمرّدَ الأصليّ يختار نهايته بعد أن فاته اختيار ميلاده. ومع أنّ أدباء فلسطينيّين، يتصدّرهم إبراهيم طوقان وجبرا إبراهيم جبرا وسميح القاسم وسميرة عزّام وغيرهم، اجتهدوا في رسم المأساة وغربة الخسران، إلّا أنّ غسّان ذهب نحو الأفق الأعلى في تمرّده الشامل الذي قصّر المسافة بين الطليعتَين: الأدبية والسياسية. هنا لا غرابة أن يكون في كلمات فرحات، وهو يستعيد غسّان، ظلال فرانتس فانون و”المعذّبون في الأرض”، وأصداء ناجي العلي، الذي اعتقد أنّ الحقيقة تظلّ واقفة ولا تموت”. مبيّناً أنه “في إحالات محمد فرحات المتحاورة ما يَضَعُ أمام القارئ “روح الثقافة الوطنية الفلسطينيّة”، التي تومئ إلى الماضي والمستقبل، وتظل قائمة في الـ”هنا، والآن”، حيث الـ”هنا” فلسطين متكاملة كما شاءها المتخيّل الوطني، و”الآن”، فترة زمنية ممتدّة قُوامها “ما يسبق زمن النكبة ويمتدّ إلى رجوع الأرض المغتصبة إلى أهلها””.
ويختم درّاج تقديمه بالإشارة إلى أنّ “المثقّف النقدي صوت اجتماعيّ، ينصت إلى ما يقوله الناس في حياتهم اليوميّة، ويتأمّل كثيراً في الواقع، وما يتطلّبه الوعي اللازم لإدراكه والتعاطي معه على نحو بنّاء، وبالتأكيد سيعود إلى نفسه قلقاً، يسجّل الهواجس المتعدّدة والمتطلّبات اللازمة”. وأردف درّاج: “هذا بعض ما قاله محمد فرحات في أوراق لا زالت تتطاير في آفاق صعبة، أمّا جوابه عن سؤال: “كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه”، الذي بحث عنه في تُخوم نصوص كنفاني الخصيبة، فقد ارتقى بنفسه ليشكّل جملة وافية إلى حدّ بعيد، رسمت قولَها في مشهد فلسطينيّ صعب ومعقّد، تاخم الآمال الكبيرة لكنّه زاملَ خيباتٍ أقامت في صُلبه على نحو وافر، تحالفت مع أخرى كمَنَت في مساراته المركّبة…. ولا يزال محمد فرحات ينظر إلى الأعلى”.
“كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه”
جواب الكاتب والأستاذ الجامعي محمد نعيم فرحات، الحاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من “جامعة تونس الأولى”، عن سؤال: “كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه”، الذي بحث عنه في تخوم نصوص كنفاني الخصيبة، “ارتقى بنفسه ليشكّل جملة وافية إلى حدٍّ بعيد، رسمت قولها في مشهد فلسطينيّ صعب ومعقد”، بحسب الدكتور فيصَل درّاج.
لقد تعقّب فرحات في هذه الدراسة هدفه من زاوية بنية الوعي، كما بناها نصّ كنفاني في علاقته مع التّاريخ الذي صدرت عنه من جهة، وبنية الوعي التي كانت تتحكّم في الواقع ومتطلّباته من جهة أخرى، وكانت حريصة على تتبّع التحوّلات الحاصلة في هذا السياق/ نصّيّاً وتاريخيّاً، وذلك من خلال أربعة محاور أساسية أولها: “في علاقة الأدب- كنصّ بالعالم: معضلة أم معنى أم جدلية”؛ مقاربة لعلاقة النصّ بالعالم ومكوّنات هذه العلاقة وبعض خصوصيات السياق، فيما تناول المحور الثاني: “الحالة والسياق: صعود اللغة لمجابهة الواقع”؛ البنية الدالّة لخطاب كنفاني ومندَرَجاتها المختلفة، في حين بحث المحور الثالث: “كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه”، أما المحور الرابع والأخير فكان بعنوان: “وعي الخطاب”، الذي استعرض فيه الوعي الذي قدّمه الخطاب لتاريخه. وفي نهاية الدراسة وضع المؤلّف أربعة ملاحق.
إنّ أعمال غسّان الروائية، والقصصية، والمسرحية، ودراساته الرائدة حول ثورة 1936 الفلسطينيّة، والأدب الفلسطينيّ في الأرض المحتلة، والأدب الصهيونيّ، ومقالاته النقدية والسياسية، وافتتاحياته للصحف والمجلات التي رأس تحريرها، تظلُّ -بحسب نقّاد تتبعوا أثر كنفاني-، “موضع دراسة وتفكر، يجد فيها الباحثون في الأدب الفلسطينيّ، والعربيّ كذلك، جوانب متجدّدة للدرس والقراءة، ويعثر فيها الباحثون في السياسة وعلم الاجتماع على مصادر أساسية تسعفهم في قراءة تطور الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وفحص معنى الهويّة الفلسطينيّة وتبلورها”.
وبالتوقّف عند المحور الثالث “كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه”، يقول فرحات: “إنّ اقتفاء أثر غسّان كنفاني هنا، من خلال نصوص محددة بالذات يرمي للوقوف عند الوعي الذي قدّمته للتاريخ والواقع الذي تناولته وصدرت عنه في آن، وصيرورة هذا الوعي وتحوّلاته نصّيّاً وتاريخيّاً. وهذه النصوص بالتحديد هي النصوص القصصية والروائية التي كتبها غسّان كنفاني في المنفى الفلسطينيّ وفيه، وهنا من المهم الإشارة إلى أنّ الخطاب الذي هو قيد المساءلة يشكّل في هيئة قصصية أو روائية تتضمنه بدورها، وما يرمي إليه هذا التأكيد هو أنّ التقصي يجري عن الخطاب المحمول في بنية النصّ، حيث “النصّ يتضمن خطاباً وأحياناً بالعنف” ليس مشغولاً بمسألة الشكل أو البحث فيها، أي، بجسد النصّ ونوعه الأدبي وخصائصه، إنه معنيّ بروح الخطاب الذي يحمله ودلالاته”.
ويلفت فرحات نظر القرّاء، إلى أنّ “التحليل السوسيولوجيّ المزمع القيام به هنا لنصوص كنفاني، معنيّ أن يوضح وعلى نحو ملحّ موقفه من مسألتين هامتين، الأولى: تتصل بالجانب القصصي والجمالي، والثانية: تتعلق بمسألة الشكل”. مبرزاً أنه “بخصوص المسألة الأولى: فإنّ البحث سيتجه نحو الخطاب وعناصره في النصوص، بينما سيضمر مستوى التفسير في طياته “التحليل الجمالي المحايث” الذي يعتبر خطوة أساسية في الآلية الإجرائية للبنيوية التكوينية المعتمدة هنا بانفتاح، أما ما يتعلق بمسألة الشكل الروائي، فإنها غير مطروحة هنا كانشغال بحد ذاته، طالما يجري التعامل معها كمعطى أصيل يتشكّل منه جسد الخطاب وروحه”.
في المحور الرابع والأخير “وعي الخطاب”، يرى فرحات أنّ “الوعي الذي قدمه ومارسه غسّان كنفاني، قد مكنه من ربح معركته على نحو صارم، وأبقى لشعبه أن يربح الحرب. بيد أنه وحتى في هذه الصيغة التي تبدو مثيرة للزهو على نحو ما، يتجلى بعدٌ مأساوي ما، لأن كنفاني كان يسعى لأن يربح شعبُه الحرب، ولو كان بعد حين من الدهر بثمنٍ خسارته هو شخصيّاً لمعركته مع الحيلة. حربٌ لا يمكن ربحها بدون تشكُّل وعي فعّال غير قابل للانتكاس، يتناسب مع معنى فلسطين “كفكرة لا تملك سوى أن تتحقّق” على ما قال إبراهيم أبو لغد يوماً، وكفكرة هي الأعظم في التّاريخ” على ما قال إدوارد سعيد في يوم آخر. وكسؤال “يختزن الأسئلة الإنسانيّة الكبرى” في التحرّر والانعتاق وامتلاك المصير والتحكّم فيه على ما قال محمود درويش في عدة أيام أخرى”.
ويؤكد فرحات في ختام هذا المحور أنه ” عندما تفضي محاولة الإجابة عن أسئلة وجودية صعبة واجهتها الجماعة الفلسطينية، لحقل فسيح من الأسئلة الشاقّة، فإنّ هذا يعني، في ما يعني، بأنّ خللاً “ما” يقع في حيّز “ما” في بنية وعيها وثقافتها، خللٌ يحتاج لقوة تعقّب معرفيّ لتشخيصه من جهة، وقوة تعقّب تاريخيّة كي تضع له حداً من جهة أخرى”.
وتوصل الباحث والأكاديميّ الفلسطينيّ محمد نعيم فرحات، في ختام دراسته إلى نتيجة متعبة لأنّ الفلسطينيّين قد أقاموا كثيراً وطويلاً في كل الكمائن المرهقة لهم وتجنبوا المكوث في الكمين الملائم الذي نصبه كنفاني لوعيهم وحثهم على البقاء هناك لمعالجة شؤون تاريخهم المضنية.