بدائع الواقعية الفجّة

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

الواقعية تقتضي عملاً مستمراً دؤوباً متشعباً للوصول إلى الواقع، للتخلّص من الطبقات التي تعيق فهم الواقع والوصول إليه وتسجيله وفهمه وتشريحه. الواقعية أصعب أساليب الأدب، وأكثرها مكراً وتفلّتاً من شرك الكتابة: بالضبط، لأنها بسيطةٌ سهلةٌ في متناول الجميع، كأنها ذلك الشيء الذي نعيشه يومياً،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

07/12/2022

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

بحسب البيان الرسمي للجنة نوبل، حصلت آني إرنو على الجائزة، “من أجل الشجاعة والحدة الإكلينيكية التي تكشف فيها عن جذور الذاكرة الشخصية، وانقطاعاتها، والقيود الجمعية عليها.”

للواقعية معنى تحرري، بالضرورة. في السياق الفرنسي، عندما قرر بلزاك وخلفاؤه كتابة الواقع، أدى ذلك إلى الالتفات إلى الناس العاديين وإلى حيواتهم؛ وبعده بقليل، جعل الانطباعيون من الحياة اليومية محور اهتمامهم. لتقدير ثورة الواقعية الفرنسية بشقّيها، يجب أن يتذكر المرء أن الأدب والفن كان يُكتب للصفوة وللملوك، عن الصفوة والملوك، والجمال الطبيعي الأخّاذ والتوازن والتناغم. من أعمال الكلاسيكيين المسرحيين وقدامى الإغريق، التي لا تتناول إلّا العائلات الملكية، مروراً بالفن الإغريقي والروماني والنهضوي والكلاسيكي، الذي لا يصوّر إلا أجساد عارية خيالية متناهية الروعة ويعود إلى التاريخ ليقتبس منه: لا يوجد واقع للكتابة عنه. 

الواقعية حررت الواقع. 

وبشكل مشابه، وسابق للواقعية لفرنسية، رسم الفنان الفارسي رضا عباسي، أجمل وأرق فناني العهد الصفوي، الناسَ العاديين، في حين كانت المنمنمات الفارسية تحكي التاريخ القديم وبطولات خيالية لشخصيات الشاهنامه. ولم يكتف برسم النبلاء العاديين، بل رسم أيضاً فقراء وشحاذين في شوارع أصفهان. القليل من المنمنمات جعل الحياة الحقيقية موضوعه، وحتى في النسخ التركية والمغالية للمنمنمات الفارسية، بقي التاريخ والأساطير موضوعات محبّذة للملوك، وبالتالي، للفنانين. 

في السياق العربي، اشتُهرت المدرسة العراقية (بشار بن برد وبعده أبو نواس) بالكتابة عن الواقع: عن المدينة العراقية وما تحمله وما تعنيه. قبلهما وبعدهما، كتب الشعراء العرب عن البادية والخيمة، فيما هم يعيشون في المدن. انتصرت المدرسة الشامية (أبو تمام والبحتري والمتنبي) على العراقية، لتقتل الواقع مرة أخرى، وتكتفي بتقليد الشعر الجاهلي، وتنتصر للحكام وسياساتهم. 

في الصين، تميز الشعر بواقعية مباشرة، سمحت للشاعر منذ عهد أباطرة تانغ بأن يكتب عن الطبيعة والصداقة وثنايا الأحزان التي تطبع الحياة البشرية اليومية. ورثت اليابان الثقافة الصينية، وطوّرت التانكا والهايكو في تقليد يصّاعد للنموذج الصيني. غياب الميتافيزيقيا (حتى النسخة البوذية اتسمت بتخفيف للبعد الماورائي) سمحت للشعراء بأن يكتبوا الحياة. في الرسم، اتسمت الواقعية ببعد غير تمثيلي: واقع لا ينسخه الرسام، بل يعيد خلقه. جبال وأنهار، وعصافير وأزهار. حساسية عالية، غاب عنها عموماً رسم البشر. لاحقاً، سيطوّر اليابانيون اللوحات المطبوعة لمواضيع واقعية منذ القرن الثامن عشر، والتي ستلعب دوراً هائلاً في تحرير الانطباعيين الفرنسيين من الماضي الكلاسيكي (خصوصاً ديغا الذي اهتم بالناس، وفان خوج الذي سيعلق في كل بيوته مطبوعات يابانية يظهر بعضها في لوحاته أيضاً). 

لا يكمن المعنى التحرري في إيديولوجية الفنان الواقعي؛ بل، كما يجادل جورج لوكاتش، في واقعيته الصادقة: كل واقعية صادقة تنحو نحو التحرر. كان بلزاك وفلوبير وموباسان يمينيين تقريباً، وإدغار ديغا بالطبع. في حين كان غوستاف كوربيه (أول من استخدم مصطلح الواقعية، وقد يكون هو من نحته) ثورياً مقرباً من مؤسس الفوضوية برودون وعضواً في كومونة باريس، وإدوارد مانيه وتولوز-لوتريك يساريين تقريباً. بعض لوحات كوربيه اليساري لنساء عاريات تعود لمفهوم الجمال القديم (والعري، عري النساء تحديداً في الفن الأوروبي، كما يشرح جون برجر، غطاء للواقع، وتجسيد لرغبات ذكورية مقنّعة بالفن والثقافة). في حين تشكّل لوحات ديغا اليميني مجهراً يسارياً لحياة الفقر الباريسي في راقصات الباليه اللواتي كن يعملن أيضاً في أحد المهن: تنظيف الملابس أو عاهرات لصفوة المدينة. بكل الأحوال، لا يؤثر الانتماء الإيديولوجي على معنى الفن الواقعي الذي قدّموه: بقي الفن الواقعي تحررياً، في العمق.  قدّم الفن الواقعي الناس للناس. حتى في تخرصات دوستويفسكي الدينية التائهة المخيفة الصادقة، يبقى البعد التحرري قائماً، رغماً عن الكاتب الذي يخاف اليسار والتمرد والثورة. 

زلزال نجيب محفوظ الواقعي، الذي أسس للرواية الواقعية العربية (وما بعدها أيضاً) سمح للأدب العربي أن يتنفس قليلاً، أن يتحرّر ويحرّر. تابع طريقه الواقعي إبراهيم أصلان ومحمد البساطي. تجاوزت واقعيتهم تعليمات الأحزاب اليسارية فيما يُسمى الواقعية الاشتراكية (أي بروباغندا الحكام المتقنّعين باليسار، أو الثوريين في أيامنا)، لتحافظ على المعنى النقي لواقع يرسمونه بطرق متعددة أصيلة. 

الواقعية تقتضي عملاً مستمراً دؤوباً متشعباً للوصول إلى الواقع، للتخلّص من الطبقات التي تعيق فهم الواقع والوصول إليه وتسجيله وفهمه وتشريحه. الواقعية أصعب أساليب الأدب، وأكثرها مكراً وتفلّتاً من شرك الكتابة: بالضبط، لأنها بسيطةٌ سهلةٌ في متناول الجميع، كأنها ذلك الشيء الذي نعيشه يومياً، إلى الدرجة التي لا نراه فيها، ولا نعيه، إلا بجهدٍ هائلٍ للخروج من اليومي المألوف، كي نكتشف هذا اليومي المألوف. في ملاحظة شهيرة لأفلاطون (يستعيدها فتجنشتين في سياق مختلف، ويؤكد عليها تشومسكي في رؤيته للعلم وللثورة العلمية كلها)، يقول إن الفلسفة تبدأ بالدهشة من العادي. تصلح الملاحظة العلمية هذه لتعريف الواقعية. 

أبدعت آني آرنو في الواقعية الفجة، أحد أكثر أشكال الواقعية قسوةً ورقّةً في آن. حرّرت الواقع من كل الطبقات المتثاقفة التي تشوهه وتغطيه وتخفيه. جعلت الواقع الفج موضوعها الوحيد. دفعت حدود الواقعية إلى بساطة خالصة، تحمل طبقاتها الخفية بداخلها، السياسية والنفسية والاجتماعية والفلسفية. كما حررت الواقعية من فكرة المتخيل، لتخلط الواقعي المباشر بالمتخيل. وهذه خدعة استفاد منها كثيراً أولئك الذين يميلون إلى الفانتازيا والواقع معاً: خدعةٌ تتحدى معنى الأدب نفسه، لتجعل القارئ متورطاً مع الكاتبة عاطفياً كأنه يشمّ حياته هو. في أعمالها، القضايا الكبرى دوماً تتبدى من خلال الحياة اليومية. كل ما تقوله واضح ومباشر وبسيط، كالحياة اليومية نفسها التي تريد أن تعرضها بفجاجة علينا. تقبض على الواقع بخلاصة ملخّصةٍ مباشرة: روايات قصيرة، أو نوفيلا كما نقول هذه الأيام، تكفي لتقول ما تريد قوله. الروايات الكبرى ليست واقعية تماماً، على العموم، بل تميل إلى أن تنكر أشياء أساسية في الواقع: البساطة المباشرة تغيب عن الملاحم الواقعية، ولا تظهر إلا في القصص القصيرة والنوفيلات. النسوية واليسار ليست بروباغندا أو ادعاءات متفزلكة، بل جزء أصيل من حياتها اليومية الخاصة، وبالتالي من أدبها الواقعي. تسخر مراراً من واقعية مارسيل بروست، الذي يشكل أحد أشكال الواقعية النقيضة للفتاة الهادئة المترددة، التي ستهزّ عرش بروست المغرور. هكذا حققت إرنو معجزتها الصغيرة الخاصة، الآسرة، الحزينة. كل هذا الإنجاز كان مخططاً له، وجزءاً من فهم عميق لمعنى الأدب وتاريخه وسياقه، لكل النقد الأدبي الذي طبع المجادلات الكبرى منذ بداية القرن العشرين حول الواقعية وتاريخها مصيرها. وكل هذا المخطط العظيم الهائل أنجزته بدون أية كلمات كبيرة ومصطلحات معقدة وغرور متثاقف. 

تسجل الواقعية الفجة بدائعها بدون مفاتيح سرية، كوجبة فول صباحية. 

 

عضو المدرسة الواقعية
القاص عدي الزعبي

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع