صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: الجزء الأول: مقاربات فلسفية وإبستيمولوجية”. يقع الكتاب في 508 صفحات، وهو من تأليف مجموعة مؤلفين، وتحرير وتقديم مراد دياني.
هذا الكتاب هو باكورة سلسلة كتب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية” التي يصدرها المركز العربي في خمسة أجزاء. ويعالج الجزء الثاني في السلسلة سؤال مناهج البحث في المقاربات الاجتماعية. وتأتي هذه السلسلة للإسهام في معالجة الارتباك واسع النطاق الذي يسم الحقل الجامعي والبحثي العربي في مسألة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بسبب نقص الأدبيات العربية المؤلفة والمترجمة في هذا الموضوع وقِدَمها، وكذلك بسبب المقاربات الشكلية والمدرسية التعريفية والتعليمية التقليدية الغالبة عليها. ومن ثمّ، كثيرًا ما نجد الطالب العربي يبدأ ورقته البحثية بمقدمة عن المنهج يقول فيها إنّه استخدم المنهج التحليلي أو التاريخي أو حتى الوصفي أو الكمي، وغالبًا يستخدم المنهج الوصفي – التحليلي تعبيرًا جاهزًا، وليس مصطلحات دارجة، أو وصفًا لعمليات ذهنية بسيطة لا بد منها في أيّ تفكير عقلاني.
علمية العلم بمنهجه العلمي
إنّ ما يجعل العلم علمًا هو اتباع منهج بحث علمي في تناول موضوعاته، بحيث تكون مقولاته قابلة للإثبات والدحض بمنهج علمي. وإذا كان هذا صحيحًا؛ فلا يعني أنّ المنهج معيار للتميز بين ما هو علمي وغير علمي. ويختلف المتخصّصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية في مقارباتهم؛ فبعضهم يسعى لاكتشاف وقائع أو نظريات أو “قوانين اجتماعية” لم تكن معروفة من قبل، أو ينطلق من نظريات أو قوانين اجتماعية أنجزها باحثون آخرون فيسعى لتفسير الظواهر بموجبها، وبعضهم لا يتوقع أكثر من إنتاج نماذج نظرية تسلّط الضوء على الإنسان والمجتمع من زوايا مختلفة.
يدور نقاش آخر بشأن مدى ارتباط هذه النظريات بالواقع الاجتماعي والثقافي الذي تبحثه؛ إذ كثيرًا ما تتحكم دوافع “غير علمية” مختلفة في اختيار الظاهرة والإشكالية التي تُبحث، وتتحكم دوافع مشابهة في الهدف الذي من أجله تُسخّر العلوم. فهل ما يتحكم في الدافع والهدف يتحكم في المنهج نفسه أيضًا؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل ينقص ذلك من علميته؟
لا تقتصر قضايا العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي تتطلب التفكير، على هذه القضايا والإشكالات؛ إذ تتوافر مجموعة أخرى من القضايا المتعلقة بالمعرفة والسلطة من جهة أولى، والمعرفة والقيم من جهة ثانية، وعبور الاختصاصات من جهة ثالثة.
سؤال المنهج في الفلسفة والإبستيمولوجيا
يخص الجزء الأول من كتب سلسلة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية النظر في المقاربات الفلسفية والإبستيمولوجية في موضوع مناهج البحث. ويستهلّ هذه المقاربات المفكر العربي عزمي بشارة بفصل عنوانه “في أولوية الفهم على المنهج”، يؤكد فيه أنّ النقاش النظري بشأن المناهج، بعيدًا عن الجهد المبذول لفهم موضوع ما باستخدام نظريات في سياقات محدَّدة، يظلّ نقاشًا محدود الفائدة، على اعتبار أنّ منهج البحث ليس شيئًا جاهزًا إلا فيما ننسّقه وننمّطه من أساليب في البحث لغايات مدرسية، بل إنّ المهم هو ما نصنعه في عملية البحث نفسها، وهذه العملية تفرض منهجًا من النظريات القائمة أو تتطلب عدة مناهج، وربما تقود إلى التوصل إلى نظرية جديدة. وبعد أن يعرض الباحث بالدرس والنقد المقاربات الرائجة في مسألة المنهج، ويقدّم تأملاته الفلسفية والبحثية فيها، يُبرز أنّ ما يستحق تسميته مناهجَ في العلوم الاجتماعية والإنسانية هي مقاربة تحليلية مترتبة على نظريات، وأنّ ما يتطلبه تطوير المناهج هو الاهتمام بالنظرية في السياق الاجتماعي الاقتصادي والثقافي الحضاري للمجتمعات التي نبحث فيها. فغالبية النظريات في العلوم الاجتماعية والإنسانية تطورت في مراحل زمنية وأماكن وسياقات حضارية مختلفة، ولدراسة مجتمعات أخرى غير التي نطمح إلى تناولها بالبحث. ومن ثمّ، لا شك في الفائدة من استخدامها، إذا أُخضعت للنقد العيني الموضوعي خلال الاستخدام. ويخلص إلى أنّ التحدي القائم أمام العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية هو الإنتاج النظري من خلال البحث في مجالات محددة، وإنجاز مقاربات تحليلية مفيدة ومناهج في البحث في فهم المجتمعات والعلاقات بين البشر وعالمهم الثقافي والروحي في السياق المحدد الذي نحن بصدده.
وينطلق زواوي بغوره، في الفصل الثاني “الفلسفة الاجتماعية: بحث في مفهومها ونظريتها وعلاقاتها”، من موضعة مفهوم الفلسفة الاجتماعية ضمن الاجتهادات النظرية التي قدّمتها مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية ضمن سياق الفلسفة الألمانية المعاصرة، وتحوله إلى عنصر أساسي ضمن عناصر أخرى لا تقل أهمية من حيث الإسهام النظري والمنهجي في بعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة. ومن ثمّ، فهو يتناول بالدرس والتحليل موضوع الفلسفة الاجتماعية، وارتباطها بقضايا الحاضر، والآني، في صورتها التجريبية والملموسة، وهو ما يظهر في اهتمامها بالحركات الاجتماعية، والأقليات والمهمشين والمبعدين والمقصَين والمهاجرين، وبنوعية حياتهم، ومعاناتهم، وصراعاتهم، وتعمل من أجل مثال اجتماعي وسياسي، يمكن التعبير عنه بمصطلح “التنوير” وقيمه الأساسية. ويخلص الباحث إلى أنّ الفلسفة الاجتماعية ليست نوعًا من إبستيمولوجيا العلوم الاجتماعية؛ إذ لا تكتفي بالدراسة الوصفية للمبادئ العلمية، أو بفلسفة للمجتمع، فحسب، بما أنها لا تقتصر على دراسة الأنطولوجيا الاجتماعية، وبما هي مبحث فلسفي يتميز بعملية الربط الذي يقيمه بين الوصف والتفسير، والمعيار الواقع، والنظرية والممارسة، من منظور نقدي يطمح إلى تحقيق قيم التنوير.
يسلط رجا بهلول الضوء في الفصل الثالث “أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان: كيف ندرك العلاقة بين الطبيعي والاجتماعي؟”، على مفهوم الفعل، بوصفه حجر زاوية العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي يقع، بحسب الباحث، على تقاطع ثلاثة أنواع من المباحث الفلسفية: الأنطولوجيا، والإبستيمولوجيا، وفلسفة العلوم الاجتماعية. ومن ثمّ، فهو يركّز اهتمامه على الجانب المتعلق بفلسفة العلوم الاجتماعية، ليخلص إلى أنه ليس هناك داعٍ إلى الظن أنّ علوم الإنسان تتطلب مناهج أو أساليب تفسير تختلف جذريًّا عن تلك المتبعة في العلوم، وليس هناك تناقض أو تنافس بين تفهّم الأفعال من وجهة نظر تأويلية، أو من خلال البحث عن الأسباب بالمعنى التجريبي المألوف.
وفي الفصل الرابع “التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي وشروط صدقيته”، ينطلق حسن احجيج من عرض وفرة البحوث العلمية الغربية التي تناقش موضوع التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية، ليُلاحظ في المقابل غيابًا نسبيًّا لمناقشة هذا الإشكال الإبستيمولوجي في الفكر الفلسفي والسوسيولوجي العربي، ويحاجّ بأنّ التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية يختلف عن التفسير الاستنباطي – الناموسي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره أدنى منه من حيث الوجاهة الكشفية. وفي سبيل ذلك، نجده يدافع عن وجاهة مقاربة لاهيومية لِعِلِّية التفسير القصدي، وعن موقفٍ يجمع بين الحاجة إلى التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي، مع الإبقاء على وجاهة الهدف التقليدي لفهم هذا السلوك في سياق ثقافي. ويحاول الباحث البرهنة على أنّ العلم الاجتماعي يمكنه أن يتخذ من مبررات الفاعل عللًا لأفعاله، لكن من خلال الحجاج على أنّ نظرية الاطراد الهيومية لا يمكن اعتمادها أرضية وجيهة للتفسير القصدي.
وينظر فتحي إنقزّو في الفصل الخامس “الفهم والتفسير: مسائل المنهج وأصولها التأويلية في فلسفة فلهلم ديلتاي”، في ثنائية الفهم والتفسير، ويحلّلها من جهة ترددها بين سجّلين: السجل السيكولوجي الذي يتصل بالبنية الباطنية للتجربة النفسية، بوصفها مجموعًا مستقلًا بنفسه، متضمنًا التجارب والعناصر الأساسية للوعي، وما يُقام عليها من بنى عليا للوجود الاجتماعي والتاريخي، والسجل التأويلي الذي يقوم على قراءة العلامات والآثار والمعالم التي تتجلى من خلال العلاقة بغيرها، وتُشكّل في هيئات ونصوص ومدونات مشبعة بالدلالة والمعنى، ومعبرة عن تجارب الحياة وأشكالها الفردية والجماعية، وانخراطها في سياق تاريخي متصل. وينافح الباحث عن فرضية مفادها أنّ التمييز الشائع بين الفهم والتفسير ليس فصلًا قاطعًا ونهائيًّا بين عالمين: عالم الطبيعة، وعالم الإنسان والمجتمع والتاريخ، وبين منهجين: منهج علوم الروح، أو الإنسان، ومنهج علوم الطبيعة، وإنما هو تمييز منهجي إجرائي، يتيح توحيد المجال الموضوعي لعلوم الروح.
ويستأنف عبد القادر ملوك البحث في الموضوع ذاته، لكن من منظورٍ مغاير في الفصل السادس “إشكالية الصلة بين الوقائع والقيم وانعكاساتها على موضوعية العلوم الطبيعية والإنسانية: ماكس فيبر وهيلاري بتنام نموذجًا”، منطلقًا من الاستقطاب القائم بين من يدعو إلى الفصل بين الوقائع والقيم، ويرى فيهما مجالين متمايزين ومنفصلين لا إمكان لتقاطعهما، ومن يرى أنّ التفريق بين الواقعة والقيمة هو مجرد عملية متكلّفة ناتجة من الصنعة الفلسفية أو من الإجرائية العلمية. وهذا التَكلُّف راجع بالأساس إلى تعذّر هذا التفريق إجرائيًّا، كما يتعذّر التفريق أو الفصل في الشيء الواحد بين ذاته وصفاته. وهو الاستقطاب الذي نجم عنه استقطاب ثانٍ اتخذ من حضور القيم أو غيابها حجر الزاوية في الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ويرى الباحث أنّ الممارسة العلمية مهما طهَّرت وسائلها من كل أثرٍ للمعاني والقيم الذاتية، واقتصرت على الملاحظة الظاهرة والتجربة الحسية، فإنها لن تستطيع أن تُحَصّل تمام الموضوعية؛ لأنّ الحقائق التي تفرزها لا توجد في الخارج مستقلة عن الذوات التي تنتجها. فهي، وإن سَلِمت من القيم المسماة “أخلاقية”، فإنها لا تسلم من القيم المسماة “إبستيمية”. وآية ذلك أنّ المنهج العقلي العلمي لا يدرس الوقائع إلا بإدخالها في حيّز محكوم ببعدَي الزمان والمكان، وإخضاعها لوسائل التقدير والتقسيم والتركيب والتصنيف والترتيب، واصطناع الوسائط تلو الأخرى لمقاربتها بدقة، وهذه أمور بشرية تختلف باختلاف الباحثين واختلاف الأزمنة والأمكنة. ويخلص الباحث إلى استنتاجٍ يقضي بأنّ العلم لا يقع بعيدًا عن متناول القيم، وأنّ الممارسة البحثية العلمية تستند إلى معايير للعقلانية والموضوعية محكومة برؤية بشرية تقديرية.
ويستأنف منير الطيباوي في الفصل السابع “الاستتباعات الإبستيمولوجية لنقد مثنوية الواقعة/ القيمة على منهجية العلوم الاجتماعية”، سؤال حضور المعايير والقيم في تفسير الفعل الاجتماعي الذي يشكّل الموضوع المركزي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو السؤال الذي لا ينفك عن أسئلة منهجية أخرى متعلقة بالطبيعانية والمعقولية وغيرهما في التقليد الفلسفي القارّي. ويعرض الباحث لنقد هيلاري بتنام لمثنوية الواقعة/ القيمة كما أرساها ديفيد هيوم والخبرانيون المنطقيون، مبرزًا أنّ هذا النقد يفرض تصورًا جديدًا للعلاقة بين الطبيعانية والمعيارية ضمن موقف إبستيمولوجي بلوره بتنام في السنوات الأخيرة من مسيرته الفلسفية، وهو موقف “الطبيعانية الليبرالية” الذي يقرّ بالأهمية القصوى للقيم في مجال العلوم الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بقيم إبستيمية أو إيتيقية، ويفرض تصورًا جديدًا لعلاقة علوم الطبيعة بالعلوم الاجتماعية، من شأنه أن يُسهم، وفقًا للباحث، في تجاوز عجز هذه العلوم عن بلورة المناهج والمفاهيم وأشكال النمذجة الخاصة بها من أجل التفكير في المعيش والتحولات الاجتماعية الفريدة للوطن العربي، بما يجعل هذه العلوم غير قادرة على الإمساك بطرفي المعادلة: “الحياد الأكسيولوجي”، و”مناسبة القيمة”.
ويطرح عبد الرزاق بلعقروز في الفصل الثامن “منهج المنهج في مكاشفة القول الفلسفي علميًّا: من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف”، سؤال المنهج في بحث القول الفلسفي من السياق المعاصر الذي بات يسعى لاستكشاف الأبواب التي منها يدخُل إلى صناعة قولٍ فلسفي جديد، ساعيًا إلى الظفر بالمنهجية التي ندخل بها عالم الإبداع الفلسفي عربيًّا. ويتقصّد بلعقروز “سرّ الصناعة الفلسفية” بمنهجية علمية “خارجية”؛ أي بنقل الهاجس من التفكير من داخل الفلسفة إلى النظر من خارجها. ويخلص إلى عددٍ من النتائج، من أهمها ترابط حركة التفلسف والاستمداد من اللغة، وأنّ هذه المنهجية ليست في رسم معالم المنهج نحو التفلسف منهجيةً بحثيةً، وإنّما هي منهجية في كيفية التفلسف، وأخيرًا أنّ هذه المنهجية ليست مخصوصةً بالقول الفلسفي وحده، وإنما تصلُح أدواتها لتحرير العلوم الاجتماعية في العالم العربي من ظاهرة “النقل المقصوص”، لكي تُكسبها أدوات “الاجتهاد المرصوص”.
الموضوعات والبرادايم في العلوم الاجتماعية
في الفصل التاسع “الأنموذج المعرفي إطارًا لاندماج علوم الطبيعة والمجتمع: بحث في وحدة المنهج وترابط الموضوعات”، يتناول محمد غاليم أسس الاندماج الذي أفضى في العقود الأخيرة إلى تطوير أنموذج معرفي، يشكّل إطارًا علميًّا متسقًا لتعاون مختلف العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية، واندماج نتائجها في فهم العلاقات الرابطة بين الظواهر التي تبني هندسة الجنس البشري الوظيفية القائمة على مختلف قدراته الطبيعية والمعرفية والإدراكية التي تدرسها العلوم المذكورة ومثيلاتها. ويحاجّ الباحث بأنّ هذا الأنموذج المعرفي، وليدَ مكتسبات العلوم المعرفية المعاصرة، يمكن أن يشكّل إطارًا لاندماج نتائج العلوم المادية والذهنية، على أساس وحدة منهجية عامة لهذه العلوم، وترابط موضوعاتها السببي و/ أو العضوي، ممثّلًا لذلك ببعض مظاهر اندماج اللسانيات في هذا الأنموذج المعرفي، من خلال الآفاق الواعدة التي تفتحها النظرية الدلالية اليوم، أمام فهم أعمق لطبيعة التصورات التي تبني اللغة والمعرفة.
ينطلق محسن التّومي في الفصل العاشر “بناء المعنى في المقاربات الكيفية: مقدمة في نقد البردايم الوضعي”، من تجربته في تدريس نظريات التصميم وتاريخه، وما انطوت عليه من عزوفٍ لبعض الطلبة عن الانخراط الفعلي في الدروس والإقبال عليها بالحماس المأمول، رابطًا ذلك بالخلل الذي يشكو منه نظام التوجيه الجامعي، والتباين بين الاختصاصات المقترحة والحاجات الفعلية لسوق العمل من خريجي تلك الاختصاصات. ولمناقشة هذه الإشكالات، خصّ الباحث بالدرس اتجاهات طلبة الفنون والحرف نحو فنّ النحت وتمثّلاتهم له، وما قد يحول دونه من معطّلات ثقافية ونفسية، ليخلص إلى أنّ المنعطف الكيفي الذي تشهده العلوم الإنسانية اليوم قد بات يمثّل أفقًا حقيقيًّا أمام تطورها، وتحدّيًا جدّيًّا لها في الوقت ذاته. وفي إطار هذا التأرجح بين الحدود والوعود، يؤكد التومي في الختام ضرورة بذل جهدٍ تخاصصي بين المناهج لم ينجز بعد.
وفي الفصل الحادي عشر “العلوم الإنسانية: إشكالية مناهج ودراسات استراتيجية لتحقيق مقاصد إنسانية”، ينطلق الحبيب الحباشي من الانفجار المعرفي الذي شهدته العلوم الاجتماعية والإنسانية في دراسة السلوك البشري، والذي لم يخلُ من مفارقة، ولم يتوقف عن زيادة مسألة مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية استشكالًا. وتتأسس هذه المفارقة على تقدم البحوث العلمية في شتى الاختصاصات الاجتماعية والإنسانية، واستشراء أمراض الإنسان النفسية، وتعاظم أزماته الاجتماعية، والاقتصادية، والحضارية، والثقافية، وتزايد هذه الأمراض النفسية وأزماتها على الثقافة العربية استغلاقًا، بخلاف غيرها من الثقافات؛ وهو ما ولّد عند بعضهم التباسًا في التصور أقعدنا عن استئناف الإبداع الثقافي والحضاري. ومن خلال درس هذه المفارقة وتحليلها، يخلص الباحث إلى أنّ إشكالية العلوم الاجتماعية والإنسانية لم تعد إشكاليةً تأسيسية تدور على استخلاص منهج مخصوص، بل إشكالية توحيد اختصاصاتها المتشظية في حزم معرفية قائمة على التكثر المستمر، والتفاعل المستقر، والعابرة للحدود المعرفية، لكي تنظر إلى الإنسان باعتباره كائن حرية، ومسؤولية أخلاقية، لا تظهر حريته، ولا تتجلى قيمته الأخلاقية والسياسية، إلا في تجربة وجودية ذات أبعاد خمسة متتالية، ومتفاعلة، ومتحاورة، هي: العلمي، والإبستيمولوجي، والميتافيزيقي، والأنطولوجي، والديني الروحي.
أما في الفصل الأخير من الكتاب “مشكلة ’التقدم‘ في العلوم الاجتماعية وتحول البردايم”، فيخصّ محمد الوحيدي مسألة “التقدم” في العلوم الاجتماعية بالدرس والتحليل، والتي أثارت جدلًا له تاريخ طويل، وجذبت تفكير كبار فلاسفة الفكر الاجتماعي ومنظّريه. وفي محاولة للإجابة عن سؤال تحول البردايم في العلوم الاجتماعية، يؤكد الباحث ثلاثة أبعاد في البحث الاجتماعي: أولها، إنّ بحث الظواهر الاجتماعية المعقّدة ذو طبيعة إمبريقية، وثانيها، إنّ البحث الاجتماعي يتقاطع مع التفكير الفلسفي في القضايا التي يطرحها الفعل البشري، وثالثها، إضافةً إلى البعديَن الإبستيمي والتقني، ينبغي تشديد البعد العملي للبحث الاجتماعي، أي “الحكمة العملية” التي تحدث عنها أرسطو. وهو ما يعبر عنه الباحث بقوله إننا في حاجة إلى أن يستعيد العلم الاجتماعي وضعه بوصفه نشاطًا فكريًّا عمليًّا يروم إضاءة المشكلات، والأخطار، والإمكانيات التي تواجهنا بشرًا ومجتمعات، ويسهم في “التطبيق العملي” السياسي والاجتماعي.