كتاب “كاميرا فلسطين: التصوير الفوتوغرافي وتاريخ فلسطين المهمش”، الصادر عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” (بيروت. صدر باللغة الإنجليزية عن “دار نشر جامعة كاليفورنيا”، University of California Press عام 2022، ضمن سلسلة “اتجاهات جديدة في الدراسات الفلسطينية” New Directions in Palestinian Studies، وهو من تأليف كلٍ من المؤرّخ الدكتور عصام نصّار (رئيس قسم التاريخ في “معهد الدوحة للدراسات العليا”، ومحرّر مشارك لفصلية القدس)، وعالم الاجتماع سليم تماري (الباحث في “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”)، واسطفان شيحا (أستاذ كرسي السلطان قابوس بن سعيد لدراسات الشرق الأوسط).
الكتاب- وفقاً للناشر، “هو استكشاف نقدي للمؤرّخ المقدسي واصف جوهرية (1972-1904) وألبوماته السبعة للتصوير الفوتوغرافي بعنوان «تاريخ فلسطين المصور». وتروي الصور التسعمائة لجوهرية البيئة الثقافية والسياسية الثرية لفلسطين العثمانية وفلسطين تحت الانتداب”. و”قدّم المؤلّفون، من خلال الكتاب، أدلّة على المجال غير المنقطع للتجربة المادية والتاريخية والجماعية من الماضي الحي إلى الحاضر الحي لفلسطين العربية، من خلال تتبع التفاعل بين الصور الفوتوغرافية”.
عالم الاجتماع سليم تماري، المشارك في تحرير الكتاب، قال “إنّ صاحب المذكرات حافظ عليها لفترة طويلة جداً تمتد من نهاية العهد العثماني، إلى النكبة عام 1948”. وكان أن “دوّن فيها أحداث فلسطين والقدس، وعلاقته بشخصيات هامة من كافة الطبقات المقدسية، في عمل مذهل يجمع بين المدونات والصور التي ربطها من خلال فهرس مفصل عن علاقة هذه الصور بالأحداث التي وصفها في مذكراته”.
وأضاف تماري في مداخلته التي جاءت بعنوان: “القمرة الفلسطينية رحلة حسية حميمية في الصور الفوتوغرافية”، خلال أمسية إطلاق الكتاب في “مركز خليل السكاكيني” بمدينة رام الله، مؤخراً، إنّ “جوهرية صاحب اهتمامات عديدة فكان عازفاً للعود وموسيقاراً مرموقاً في القدس، كما كان ضابطاً في البحرية العثمانية في البحر الميت، وكان جامعاً للتحف، وصعلوكاً، واحتفظ بالصور كما احتفظ بتحف أخرى، ووضعها في بيته في متحف أسماه “متحف واصف الجوهرية”.
استكشاف الرؤية الفلسطينية التاريخية
“رمان الثقافية” سألت المؤرّخ والأكاديمي عصام نصّار، كيف تولّدت لديكم -أنت وسليم تماري واسطفان شيحا- فكرة الكتاب؟ وماذا تحدّثنا عن مراحل تنفيذه؟ فأجاب: كنا، سليم تماري وأنا، قد درسنا مخطوطة مذكرات واصف جوهرية من قبل ونشرنا أجزاء كبرى منها بالعربية أوّلاً ومن ثمّ بالإنجليزية. وفي خضم ذلك اطّلعنا على مجموعة الصور المتوفّرة. وبعد الاطّلاع على الألبومات اعتقدنا أنّ هناك مادة خام تستحق الدراسة تقع ضمن ما يسمى بدراسة ما يعرف بتاريخ الثقافة المادية تدخل ضمن اهتماماتنا نحن الاثنين- تاريخ التصوير الفوتوغرافي وتاريخ فلسطين الاجتماعي. وصديقنا اسطفان شيحا قد كتب الكثير عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي، وبخاصّة بلاد الشام، فقد وجدنا معاً أنّ مشروع كتاب مشترك نستخدم فيه خلفياتنا البحثية المتنوّعة في دراسة الصور والألبومات كمجموعة واحدة متكاملة. ما جمعنا بالأساس هو حبنا لدراسة الفوتوغرافيا واهتمامنا بالمساهمة في عدم الاكتفاء بالنقد للتمثيل الصهيوني الاستشرافي لفلسطين، بل في محاولة دراسة فلسطين بصرياً بعيون أبنائها الذين صوروا أنفسهم ووثقوا لحيواتهم ولطموحاتهم للمستقبل.
وبسؤاله عن قصة هذا الأرشيف البصري، الذي قسمه واصف جوهرية إلى ألبومات سبعة، والذي خبأه رفقة بعض الأشياء الأخرى في إحدى زوايا بيته وتمكن من الحفاظ عليه؟ وكيف يمكننا فهم أنّ الذي تركه جوهرية، هو بمثابة نقطة الالتقاء بين تاريخ التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي والتاريخ الاجتماعي لفلسطين؟ قال: واصف جوهرية كان مدوّناً ليوميّاته والتي استخدمها في كتابة مذكراته لاحقاً، وبذات الوقت مقتنياً لمواد تراثية وصور فوتوغرافية. وقد جمع هذه الصور في ألبومات قسمها في البداية لمراحل تاريخية مختلفة، ويبدو أنه قد تخلّى عن ذلك لاحقاً بعد الألبومين الأوّل والثاني المخصّصان للمرحلتين العثمانية والانتدابية وقد وضعهم في بيته في الغرفة التي أسماها “المجموعة الجوهرية” حيث احتفظ بمواد للعرض بشكل متحفي. وقد تُركت كل هذه المجموعة في البيت حين اضطّر للمغادرة إبّان النكبة، ولحسن الحظ فقد أخفاها في مكان سري في البيت مما أتاح لقريبه أن يجدها بعد أكثر من عشرين عاماً، بعد احتلال عام ١٩٦٧.
يتابع نصّار حديثه قائلاً: قصة “المجموعة الجوهرية” قصة فلسطينية بامتياز، ونجاحه في استعادة الألبومات حدث نادر في سياق النهب الصهيوني لممتلكات الفلسطينيين، يجدر الاحتفاء به. الألبومات تحوي صوراً متوفّر بعضها في مجموعات في الأرشيفات المختلفة أو لدى مقتنين للصور أو لدى المصورين أو أبنائهم. ما يميّز المجموعة هنا أنّ واصف جوهرية جمعها بعناية ووضعها في سياق سردي بصري في الألبومات بشكل يعكس زمنه ورؤيته للأحداث. إنّ قراءتنا لألبومات جوهرية الفوتوغرافية السبعة تركّز على الحياة الاجتماعية والواقع المادي للفلسطينيين في محاولة للقطع مع المنطق الذي يصوّر ما هو مشروع استعماري استيطاني وكأنه حدث طبيعي وذلك عبر وضع الفلسطيني في قلب تاريخ فلسطين مقابل تهميشه في الدراسات التاريخية لبلده. ويعتبر تعاملنا مع ألبومات جوهرية “علم آثار المعرفة [الأصلية]” وتمريناً في إنتاج المعرفة العربية حيث نتعامل نحن (ثلاثة باحثين) مع الطرق التجريبية والاجتماعية التي يتقاطع فيها التاريخ الحي لفلسطين العربية ويعلم ويظهر في حاضر فلسطين الحي. لذلك، نستكشف الرؤية الفلسطينية التاريخية، ونحدّد أنها متشابكة بشكل لا ينفصم في الرؤية الاستشراقية والصهيونية والاستعمارية المهيمنة. ولكننا أيضاً، مثل الحداثة العربية نفسها، نحتفل بالوجود الفلسطيني في بناء هذه الرؤية ونضخّم كيف ينمو هذا الوجود من فلسطين وينتشر فيها، تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً وثقافياً.
تتابع “رمان الثقافية” حديثها مع نصّار وتسأله عما يميّز هذا الكتاب عن باقي الكتب التي وثّقت تاريخ فلسطين المصوّر؟ ومن ثمّ ما الذي يميّز هذه الصور وأهميتها اليوم بالنسبة للمؤرّخين والباحثين؛ في ظلّ استمرار مواجهة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي وسردياته المُزوّرِة لتاريخ فلسطين السياسي والثقافي والاجتماعي.. خاصّة في النصف الأوّل من القرن العشرين (فلسطين العثمانية وفلسطين تحت الانتداب)؟ فيقول: كتابنا هو دراسة نقدية لاستخدامات التصوير السياسية وبذات الوقت محاولة لتعزيز استخدام فكرة الألبوم كسردية صورية للتاريخ الفلسطيني، وهو بذلك جزئياً حول الصور الفوتوغرافية وجزئياً حول فلسطين وتاريخها الاجتماعي وهذا ما يفرقه عن الكتب المصوّرة الأخرى حول فلسطين والتي تحتفي بالصورة بشكل نوستالجيا لماضي اُعتبر زمناً جميلاً بدون تدقيق في تفاصيل الصورة وإنتاجها وتوزيعها وفي تاريخ إنتاج الصورة كجزء من الحراك الاجتماعي وإنتاج الثقافة المادية. وذلك عبر التركيز على الفلسطيني الفاعل في التاريخ عبر صوره، ولهذا فالكتاب ليس مجرد تجميع لصور حول مواقع فلسطين أو حول بطولات أهلها، بل هو دراسة عبر الصورة لفاعلية الفلسطيني الاجتماعية ومجتمعه وتعاطيه مع الأحداث حوله. بمعنى آخر، لم ننظر للصورة كدليل تاريخي بصري، بقدر ما تعاملنا معها على أنها منتج ثقافي لسردية فلسطينية حول الذات. وبذات الوقت، الكتاب هو محاولة لوضع سياق نظري لكيفية قراءة وتحليل الصورة الفوتوغرافية بصفتها منتج اجتماعي اقتصادي يعكس واقع فلسطين آنذاك والتكوين التراتبي الاجتماعي.
شاهد على حداثة القدس العثمانية والانتدابية
تبرز أهمّية المؤرّخ والملحّن والفوتوغرافي المقدسي واصف جوهرية (1897 – 1973)، في تدوينه مذكراته في أربعة مجلدات مخطوطة، صدرت عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في مجلدين من القطع الكبير، الكتاب الأوّل تم نشره عام 2003 بعنوان «القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: 1904-1917»، أما الثاني نُشر عام 2005 بعنوان «القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية: 1918-1948»، وهما من تحرير وتقديم عصام نصّار وسليم تماري.
وفي هذه المذكرات قدّم جوهرية وصفاً دقيقاً وتحليلاً معمّقاً للتحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية للحياة اليوميّة في فلسطين منذ نهاية الحقبة العثمانية، ومروراً بفترة الحكم العسكري والاستعمار البريطاني، وبداية الاحتلال الصهيوني لبلدنا عام 1948.
وألحق جوهرية تلك المذكرات، بسبعة مجلّدات تحوي مجموعات فوتوغرافية غطّت التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية للحياة اليوميّة في القدس خلال نهاية الحقبة العثمانية، وفترة الحكم العسكري البريطاني (1917– 1921) والانتداب البريطاني (1921– 1948). كما جمع في مجلّد حمل عنوان «الدفاتر الموسيقية» -لا يزال مخطوطاً-، سجلّاً للموسيقى الشعبية التي انتشرت في فلسطين في بداية القرن العشرين، ودوّن ألحانها وكلماتها مستعملاً نظاماً خاصّاً بتدوين النوتة الموسيقية من استنباطه، إذ إنه كان يجهل قواعد تدوين النوتة الموسيقية الكلاسيكية.
وتُعدُّ “المذكرات الجوهرية” شاهدة على حداثة القدس العثمانية والانتدابية، والتي دوّن واصف جوهرية فيها وتيرة الحياة اليوميّة بعين الحكواتي وأذن الموسيقار الشعبي. وقد سمحت له علاقته المميزة بآل الحسيني وقيادة الجيش العثماني في حامية القدس، ثمّ في ديوان الموظفين في الحكومة الانتدابية، أن ينتقل، في وصفه للأحداث الجسيمة التي مرّت بها فلسطين، من وجهة نظر النخبة الحاكمة إلى رؤيا الطبقات الشعبية التي عايش همومها واعتبر نفسه منها، في سلسلة من المغامرات والأحداث المثيرة التي اجتازها. كما تُشكّل “المذكرات الجوهرية” مدخلاً غنياً في معاينة أثنوغرافيا الحياة اليوميّة في مدينة القدس في النصف الأوّل من القرن العشرين.