صدر مؤخراً، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار (رام الله)، في ترجمة عربية أنجزها أمير مخّول، كتاب بعنوان “نهب الممتلكات العربية في حرب 1948” للمؤرّخ الإسرائيلي آدم راز، وهو سردية تتعلّق بعمليات نهب السكان اليهود الأملاك المنقولة للعرب الفلسطينيّين الذين تمّ اقتلاعهم من مدنهم وبلداتهم، إبان نكبة 1948 بتفصيلٍ يمكن القول إنه الأوفى إلى الآن، وذلك ضمن سياق تناول كل منها على حدة. يقدّم الكتاب الواقع في 260 صفحة، شهادات مروّعة تكشف وقائع جريمة نهب جماعيّ منظّم، في جميع المدن، وذلك اعتماداً على مادّة أرشيفيّة واسعة جداً ومتنوّعة.
مقدّمة الكتاب حرّرها الكاتب والناقد الأدبي الفلسطيني أنطوان شلحت، الباحث في الشؤون الإسرائيلية، وفيها يبين أنّ الهدف من وراء الكتاب هو، برأي راز، “تسليط الضوء على جانب منقوص من تاريخ تلك الحقبة، ألا وهو تورّط العديد من شرائح الجمهور الإسرائيلي- من المدنيين والمحاربين على حدّ سواء – في نهب ممتلكات السكان العرب”. وهو يشدّد على أن هذه ليست قصة نهبٍ بحتٍ فحسب، بل أيضاً قصة لها أبعاد سياسية ذات دلالة. وادعاؤه الجوهري، على صلة بهذا، هو أنّ النهب لم يكن أكثر قبولاً من جانب شخصيات معينة في المؤسستين السياسية والعسكرية عموماً، ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأول ديفيد بن غوريون على وجه الخصوص، فقط، ولكنه كذلك أدى دوراً سياسياً في تشكّل المجتمع الإسرائيلي وتقاسم السلطة السياسية في الدولة الفتية، وفي تبلور العلاقات بين هذه الدولة (إسرائيل) والعالم العربي، سواء في أثناء الحرب أو بعدها. كما ينطلق من أنّ أعمال النهب التي انتشرت مثل النار في الهشيم بين الجمهور اليهودي، تمّ دمجها في السياسة العامة الداخلية والخارجية التي نفذها بن غوريون وشركاؤه السياسيون في تلك السنوات.
ويلفت شلحت منذ البدء، بأنّ آدم راز ينوّه بأنه نظراً إلى كون هذا الكتاب هو، بحسب ما يقول، أول كتاب إسرائيلي يضم بين دفتيّه قصة نهب الممتلكات العربية من جانب الجمهور اليهودي إثر النكبة، فقد رأى أنه من الأنسب أن يشمل جميع المدن لاعتقاده بأن هناك اختلافات في عملية النهب هذه بين كل مدينة وأخرى. كما ينوّه (راز) بأنه قام بزيارة أكثر من 20 أرشيفاً في سبيل جمع الوثائق التاريخية اللازمة لتأليف كتابه هذا.
ويوضح شلحت أنّ هذا الكتاب أثار لدى صدوره باللغة العبرية، سجالاً مثيراً بين مؤلفه ورونه سيلع (مؤلفة كتاب “لمعاينة الجمهور”). ومن جملة ما وجهته سيلع إلى آدم راز أنه عند استخلاص النتائج، قام بنسخ موقف بن غوريون الذي يرفض تحمّل مسؤولية سيادية عن أفعال النهب ويتهم بها الأفراد، مشيرة إلى أنّ محاولة تصوير النهب المنظم كجرائم شخصية نفذها أشخاص “عاديون” و”معياريون” تقلّل من المسؤولية السلطوية المباشرة عن المظالم والممارسات الإجرامية، على الرغم من أنّ المسؤولية السيادية تصرخ عالياً من صفحات الكتاب. وأضافت سيلع: إنني أدعّي أنه حتى لو لم تتخذ الحكومة قراراً رسمياً بارتكاب عمليات السطو، فإنّ المسؤولين الرسميين مثل قادة الجيش، أو مديري المؤسسات الرسمية، أو الهيئات التي عملت تحت إمرتهم، أو العديد من المسؤولين المحليين في المستوطنات، قد اتخذوا قرارات بالنهب من الناحية الفعلية. بل إنّ الدولة، من جانبها، قلّلت من تقديم لوائح الاتهام وتقديم لصوص أفراد للمحاكمة قياساً بالوضع الميداني. كما استهجنت استخدام “الممتلكات العربية” بدلاً من “الممتلكات الفلسطينية”. وأخذت على الكتاب تجاهله عمليات النهب ومصادرة الغنائم المنظمة للثروات الثقافية والروحية والأرشيفات والتمثيلات البصرية الفلسطينية، والتي كانت جزءاً مهماً من المحو التاريخي والثقافي الذي تمّ في النكبة، ومنها مثلاً المكتبات الفلسطينية – كما أوضح غيش عميت في كتابه “بطاقة ملكيّة” الذي لم يحظ سوى بإشارتين هامشيتين فقط لدى راز، وبيني برونر في فيلمه “نهب الكتب الأكبر”. وأشارت سيلع، من باب المكاشفة النزيهة، إلى أنها ابتداء من عام 2000 اكتشفت عدداً من المحفوظات ومجموعات الصور التي نُهبت في عام 1948 لمصورين فلسطينيين بالإضافة إلى أرشيفات أخرى لاحقاً وهي خاضعة لنظام إداري قمعي في الأرشيفات الإسرائيلية، وإلى أن المؤرّخ توم سيغف كان أول من تناول الموضوع بشكل مكثف في الثمانينيات، وورد ذكره هو الآخر في هامشٍ هامشيّ، فيما أنّ شيرين صيقلي، التي تناولت ظاهرة النهب في حيفا من المنظور العائلي الفلسطيني، وشهادات لفلسطينيين أيضاً في الأرشيفات الإسرائيلية ودراسات أخرى مثل كتب نور مصالحة كلها، غائبة عن كتاب راز.
أكبر سطو مسلّح في التاريخ
يتكوّن الكتاب من فصلين رئيسين، يقدم الفصل الأول وصفاً لنهب الممتلكات العربية أثناء الحرب (1947-1949) بحسب التسلسل الزمني الذي ينتهي بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في منتصف العام 1949. أما الفصل الثاني فيناقش النهب من وجهة نظر اجتماعية وسياسية. ووفقاً لصحيفة “هآرتس” العبرية فقد استند مؤلفه على جمع الوثائق من خلال عددٍ من الأرشيفات التي تؤكّد أنّ الجنود والمدنيين من الإسرائيليين، فرادى وجماعاتٍ شاركوا في السطو والنهب الجماعي للممتلكات الكبيرة التي خلّفها أصحابها الفلسطينيون في المصانع والمنازل والمزارع وغيرها.
ويرى راز أنّ الوصف الحي والمفصل لمشاهد أكبر سطو مسلّح في التاريخ، والذي انتشر في أنحاء البلاد كانتشار النار في الهشيم، يطرح عدداً من الأسئلة من بينها: لماذا غضت الحكومة (الإسرائيلية) الطرف عن نهب الممتلكات العربية؟ ولماذا لم يوقف بن غوريون عمليات السلب والنهب رغم التحذيرات والاحتجاجات العديدة من قبل ذوي المناصب في السلطات العسكرية والمدنية، والذين أعربوا عن قلقهم من عواقب عمليات السلب والنهب على صورة المجتمع الإسرائيلي؟
كما أنّ المشاركة الواسعة من قبل الأطياف الإسرائيلية في هذه الجرائم تُصوّر في الكتاب ليس فقط كوصمة عار أخلاقية، بل كعنصر رئيسٍ في تحوّل الأطياف الإسرائيلية كافّة إلى أصحاب مصالح شخصية في سياسة عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. كما يُقدّم الكتاب، بحسب “هآرتس”، تفسيراً اجتماعياً وسياسياً؛ حيث تُعدّ بموجبه ظاهرة النهب عنصراً هاماً في أبدية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وتتوالى مشاهد السلب والنهب الإسرائيلي التي وردت في الكتاب من سرقة أدوات منزلية وحلي مروراً سرقة عشرة آلاف علبة كافيار من أحد مخازن حيفا، وكذلك قيام عدد من الصهاينة بسرقة منازل الفلسطينيين في مدينة طبرية؛ حيث سرقوا صندوقاً مصنوعاً من الخشب الفاخر، تم تحويله بعد ذلك إلى عشة دجاجٍ كما يذكر المؤرّخ الإسرائيلي سرقة الكتب والملابس والموائد والأجهزة والمراكب الفلسطينية.
ويفي تعليق له على فحوى كتاب، يقول مراسل الشؤون التاريخية في صحيفة “هآرتس”، عوفر أديرت، إنّ عملية رصد وتوثيق أعمال النهب في فلسطين من طبرية إلى بئر السبع، ومن يافا إلى القدس، من خلال سرقة المساجد والكنائس والقرى المنتشرة على طول امتداد البلاد في كتاب واحد “مسألة حساسة وصعبة”. وفي واحد من فصول الكتاب يتحدث راز عن سرقة البيانوهات والكتب والملابس والحلي والموائد والأجهزة الكهربائية والمراكب، تاركاً سرقة أراضي نحو 800 ألف لاجئ لدراسات أخرى، مركزاً على الأملاك المتنقلة. كما يبين أديرت أيضاً.
الكتاب ووجهة النظر الصهيونية
مراسل الشؤون التاريخية في “هآرتس” يؤكّد، أنّ الكتاب يتضمن اعترافات تاريخية عن عمليات السلب والنهب التي عقّب عليها رئيس وزراء الاحتلال بن غوريون في اجتماع حزبه (عمال أرض إسرائيل/ ماباي)، في 24 تموز/ يوليو 1948، بالقول: “اتضح لي أنّ معظم اليهود لصوص.. وأنّ المستوطنين في منطقة المروج، وآباء جنود منظمة (البلماح ) شاركوا بالسرقة”.
كما يُقدّم الكتاب اعترافاً مشابهاً للرئيس الثاني للحكومة الإسرائيلية يتسحاق بن تسفي عن السلب الإسرائيلي للممتلكات الفلسطينية، بقوله: “ما يفعله اليهود اللصوص في الأحياء الفلسطينيَّة الغربية في القدس هو كفعل الجراد في الحقول”. وكان بيني موريس، أحد أهم المؤرّخين الإسرائيليين الجدد الذين وثّقوا النكبة، من الجانب الإسرائيلي، قد أكّد في ذكرى النكبة قبل عامين، أنّ عملية السلب والنهب الكبرى التي قامت بها الصهيونية لا تتمثّل بسرقة ممتلكات متنقلة، بل تتمثّل بالاستيلاء على أرض الفلسطينيين ووطنهم ومنعهم من العودة لديارهم.
بالعودة إلى مقدمة الكتاب، يشير شلحت إلى أنّ الكتاب ينطوي على جهد محمود ومن أهمية ملفتة، يلزم أن نمهّد لقراءته، سواء بالنسبة إلى القارئ الفلسطينيّ أو العربيّ، بالإشارة إلى أنه مكتوب من وجهة نظر لا تخفي أنها مؤدلجة صهيونياً، حيث يقرّ المؤلف منذ البداية بأنّ ما حدث في عام 1948 كان في قراءة الفلسطينيين نكبة، ولكنه في قراءته “حرب استقلال”، مثلما يقرّ بأنّ الحركة الصهيونية لم تكن حركة نهبٍ منذ نشأتها، وفي الواقع لا ينبغي أن ينظر إليها على هذا النحو حتى بعد انتهاء “حرب الاستقلال”. بكلمات أخرى فإنّ محتوى هذا الكتاب هو كشف وقائع من الأرشفة الصهيونية، ولكن من خلال النأي عن تفسير أو تحليل طابع هذه الحركة، وكذلك من دون مناهضة مُعلنة لها. وتظهر هذه النزعة في أماكن كثيرة لعلّ أبرزها في تبنّي المؤلف أقوال وزير “شؤون الأقليات” الإسرائيلي بيخور- شالوم شطريت، في أيار/ مايو 1948، والتي وصفها راز بأنها “تجسّد الحقيقة” التي يؤمن بها.
أما “مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف”، وهو أحد المؤسسات التابعة للأزهر الشريف في مصر، فيرى أنه بالرغم من أن هذا المؤرّخ المعاصر آدم راز يتجاهل في دراسته الفريدة من نوعها سرقة الأراضي الفلسطينية، واغتصابها من أصحابها، وقتل أهلها وتشريدهم، واحتلال المقدسات العربية، ومحاولات تهويدها أولاً قبل سرقة ونهب الممتلكات المتنقلة، من أدوات منزلية وأجهزة بالمصانع الفلسطينية وغيرها، إلا أنه يقدم وثيقة تاريخية مهمة نادرة، لها قيمتها وأهميتها، كونها من باب: “وشهد شاهد من أهلها”.