في هذه المتتالية الشعريّة، نجدُ اشتغالًا عميقًا على مفهوم الذاكرة بصفتها الحاوي الأكبر لسيرة المرء. لكنّ صوت الذات المهيمنة هنا، على ماضيها وحاضرها، المنغمسة في تفاصيلها العنيفة والفظة وهي تواجه نفسها عبر الكلمات والصّور، تفرّغ ماضيها (بالذات عبر تثبيته) ثمّ تقفُ في الحياد بعد لحظة التفريغ. في هذا المحو والتفريغ بعد الامتلاء لحظةُ تحرّر وحريّة تتصرّف فيها الذات بشيء من الانتفاء عن الماضي وتدخل في وجوديّة ضروريّة قلقة، وهذه الحريّة هي جوهر حقيقة الذات المتخلّصة من عبئها الماضويّ، أن تكون بين زمنين حيث الثاني فيها خلاصة الأول وحيثُ تصيرُ اللغة أداة الوصل مع الخارج وأداة الانفصال عنه في نفس الوقت، وهما شرط التحرر من حضور الذاكرة الفظة.
تمتلك الذات الشاعرة هنا أنواعا مركّبة من الذاكرة وعليها تحيلُ قراءة تاريخها السيري عبر الشّعر. الذاكرة الأولى هي ذاكرة شاملة تلمّ كل الذاكرات في سلّتها وتوحّد خطّها: ذاكرة طويلة المدى، تكاد لا تنسى، قادرة على حفظ الصور والكلمات والأصوات دون عناء كبير. هي ذاكرة تخزينية عريضة تفتحُ تفاصيل المكان الأول زمانها الحاضر-اللحظيّ ليكون رحما يتكرّر ويتبدّل كلّ مرة بتأويلات وأشكالٍ، فيكون المكان الأول الهو هو للذاكرة: الذاكرة الحاوية للمكان الحاوي. هنا يتم استدعاء المكان من الذاكرة واستجوابه بصفته صاحب الحركة الدائمة المفعمة بالانفعالات والنشاط، بحيث يصير المكان أمكنة صغيرة وكبيرة، محطّات ومنعطفات، عتبة البيت، الروح تربّي حزنا، والمطبخ، السجن، القرية تبعث من رمادها، العالم القذر، الخزانة المعبئة بالحلوى والمعاطف، القبر المفتوح، إلخ. لكنّ هذا المكان مسكون بالارتياب كلّما تمّ التعبيرُ عنه. إنّه ليس مكانًا آمنًا رغم إحساسنا بالألفة تجاهه ووظيفة الصّوت المتكلم مدعومًا باللا-استكانة حياله. ليس البيت الآمن الذي نألفه في توثيق السيريّ، وليست القرية الحالمة التي أخذنا إليها الكتّاب وهم يدوّنون الحميميّ في مذكّراتهم، بل هو الفضاء اللا مستكين، الـ “غيري” الذي لم يعد جزءًا ناصعًا من صوت الأنا في القصائد. فضاءٌ شريكٌ في صناعة الألم وضامنٌ أبديّ له، بصفته جزءًا من ذاكرة انتقائيّة تخزينيّة:
كنتُ طفلة بساقَين ماردتين
من مطبخ كوخنا أمّي “تطوّلي”
تربط قدمي اليسرى بشالها إلى قدم الخزانة الخشبيّة
تتركُ لي مساحة أحبو فيها
أحبو
أحبو
لم أصل مرّة
لا أطالُ سوى طرف قيدي وقدم ثقيلة من خشب.
هكذا تصبح العلاقة مع المكان وذاكرته علاقة تمارسُ فيها ساديّة المكان على الذات، لكنّها في نفس الوقت تُجيز لهذه الذات التلذّذ المازوشيّ وهي تصفُ بالتفصيل قيود هذا المكان وأثره على “جسدها” وصوره، لتصبح العلاقة، في تقاطع الذاكرة الحاوية، بين الذات والمكان بوصف “الآخر” البعيد علاقة سادية مازوشية تدعمها المفردات العنيفة التي تأخذ راحتها في القصائد ولا تتوقف عند مقطع دون آخر:
أربي حزنا قديما
طاعنا في البربرية
يمشي في أروقة روحي حافيا
عاريا
يكسّر أشيائي بنزق
يسبّ المارّة من وراء لساني
ويبصق على كبيرهم.
أربّي حزنا فاجرا
أدفع ثمن إسرافي في دلاله
أسحبه من الشارع بخجل
فيهمس أحدهم:
هذا حزن ابن كلبة.
هذا المشهد الشعريّ يلخّص مستويات للكتابة الشعريّة عن الذاكرة، مستوى سكب الألم في قالب اللغة فيأتي ألم عنيف. التركيب الجسديّ للغة قادرٌ عل حَمل النّفس الانتقاميّ من الذاكرة بما فيها من ألم ومعاناة. لكنّ هذا الانتقام يتمّ تشويهه وتشويشه في محاولة للنجاة منه عبر الدفاع عنه بأفعال ذاتيّة بضمير المتكلّم (الآن في هذه اللحظة)، وكأنّها وتقاوم الفظاظة بجسدها وتنتقمُ منها عبره. هكذا مثلا تغدو افتتاحيّات غالبيّة القصائد في هذه المتتالية السّيرشعريّة مكتوبة بالأفعال المضارعة (أحتفظ، أربي، أحتاج، ألقي، أدخر، أدوّن، أجد، أحبو، أراود، أمتص، أحلق أتقي)، وهي أفعال احتمائيّة دفاعيّة تقصي نفسها عن الذاكرة بقدر تورّطها فيها، وهي بهذا تخلقُ لنفسها ذاتًا ثالثة تميّزها عن ذات ماضويّة مضطهَدة، وعن ذات حاضرة تحاول أن تعبر نحو مستقبلها، لتخلق ذاكرةً مؤقتة، عنيفة، جسدانيّة، وعابرة.
الذاكرة المؤقتة
لعلّ ما يسترعي التأمل في قصائد هذه المجموعة هو قدرتها على اختراع الذاكرة المؤقتة، العابرة، الآنية، لناجٍ من محرقة الذاكرة الشاملة. هذه الذاكرة تتواجد في منتصف الطريق بين ذاكرة الماضي وذاكرة المستقبل، لكنها ليست حاضرة بقدر ما هي ذاكرة لحظيّة في قلب الحاضر، تبعثُ على الإحساس بالحميميّ وهي تحشد سيرة الجدّ والأخ ونساء العائلة وقطيع الغنم، وأعطاب المكان الأول في عتباته ومدرسته وقططه ومطبخه ونافذته وبابه ودمه وحيواناته، لكنّها تتحطّم بحضور جسديّ للغة صادمة سرعان ما يمحو هذه الحميميّة.
هذا المحو يمرّ عبر عمليّتين معقدّتين في شعر شيخة، المستوى الأول هو توثيق فاجعة المكان وأهله، والمستوى الثاني توثيق الرّغبة الجامحة في إرباك الفاجعة وقطعها عن حاضرها مهما كلّف الثمن. تصبحُ الذاكرة المنكوبة والمكلومة خيطًا غليظًا يربطُ بين كسر الذات عبر التذكر وجبرها عبر المحو. فمعظم قصائد تدور حول ذاكرة الولادة والنشأة والصبا، الذاكرة التي تستثير الألم والقسوة والحداد بدلا من الحب والحنين والألفة. تتعمّد الذات الشاعرة أن تشيعَ التناقضات والتضاربات في اللغة لتتحول المشاهد إلى لوحة مكتظّة بضجيج الصور، مرصوصة بمجاز يعيدنا إلى مجاز بول تسيلان وهو يقاوم محرقة جماعيّة بمحرقة اللغة:
نرضع حليب الأم ونشرب ماء الخصيان.
نولد بأعضاء تناسلية سليمة
ولسان أخرس.
في الصباح يرفع العجائز صلواتهم للمنان
في الليل يربطون أقدامنا وألسنتنا إلى عامود البيت.
وأنا كنت أصلّي لموت جماعي في قريتي
لعلّه يجلب نورا باهتا لأكواخنا الهشة
موت يخلّف نورًا.
يعيدنا هذا المشهد إلى فاجعة السّيرة، ذاتية وجماعيّة، في قلب ذاكرة آنية تحاول أن تتجاوز لكنّها تترنّح بين السقوط والنجاة فتصير الفاجعة هنا، على حدّ تعبير بلانشو “هي ما يبقى بعدما يقال كلّ شيء، خراب الكلام، وهنٌ بالكتابة، ضوضاء تهمس: ما يبقى بغير بقيّة.
التذكّر لأجل النسيان
في عمليّة التذكّر التي تقتفي عبرها شيخة أثر تفاصيل المكان والزمان والأشخاص، ثمّة حركة إفسادٍ متعمّدة تؤدّي إلى هلاك عمليّة التذكّر. بين التذكّر وإهلاكه تقعُ معالجة للتفاصيل تفترسُ الممكن وتستدعي المستحيل المفرط في توصيفه. اللعب في مساحة التذكّر والإهلاك هنا تشوّش عاطفة القارئ تجاه مفهوم الحنين والتوق في أيّ كتابة للسيرة، شعريّة أم نثرية. وهذا الإهلاك في سبيل الخلاص من الذاكرة يُفقد علاقتنا كمتلقّين مع الجانب الحميمي منها. اللغة تستنفر طاقاتها في حشد الحميميّ وفي نفس القصيدة تستنفر طاقات العنف والقسوة الكامنة فيها لتتكوّن لحظة ذاكراتيّة عابرة:
من هذه الأمثلة:
“حبل السرّة الذي لم يُقطع أحتفظ به بعيدًا عن سماسرة بنوك الدم أرمم به تجاعيدَ غربتي أخفيه لجنين مشوّه(…) حبل السرّة ما زال يشدّني إلى رحم الوحل تقولُ أمّي: سأقطع رحمي وأرميه للكلاب
حبلُ السرّة ألفّ به عُنقي كلّما داهمني الحنين وأوشكتُ أن أولَدَ من جديد”.
بهذا الخليط المحيّر من حبل السّرة الذي يربط بين البيت الحميميّ الصغير وبين الإنسان والعالم الكبير، نجد الذات الشّاعرة تسبح في كابوس اللغة وعدوانيّتها ضدّ الأفكار والصّور الشعريّة. يتجلّى ذلك في مفردات كثيرة: سأقع وأرمي للكلاب، ألفّ عنقي، جنين مشوّه، رحم الوحل. كلّ ذلك في مشهد تعود به الكاميرا الى الوراء وعينها على اللحظة الآنية، لحظة الغربة والانتفاء. في مواجهة الذاكرة التخزينيّة، لحظة الولادة والرّحم، ولحظة الغربة الراهنة، تتحطّم الصّورة المثاليّة عن الولادة البريئة، وتتثبّت صورة جنين مشوّه ورحم مقطوع وكلاب تنهش فيه.
هذه اللغة، مرة أخرى، تصارع الحميميّ بالعدوانيّ تتواصل مثل سيلٍ على طول القصائد، فنجدها توسع البون بين صورتين هما عملتان لوجه واحد: ذاكرة المكان الأول الذي هو جزء من كينونة الذات الشاعرة المتحطّمة على صخرة الكلمات الفظّة، المكان البريء في ظاهره المحمول على معاني العقر بين سجنين في باطنه:
في قريتي البدوية
بين سجن الجلمة والمنصورة المنهزمة
تدفق ماء الحياة في الأنابيب العاقرة
لا تحاول حليوى هنا أن تتربع على عرش الغبطة من سيرتها شعرًا، بل تعبث بهذه الغبطة، روعة الذاكرة الراشحة، بتخريب براءتها. هكذا يتواصل مسلسل الإهلاك والإعلان الصّريح عن الكفّ عن حمد الذاكرة ورمنسة الأمكنة وتوصيف الماضي الحميميّ، فكلّها أفكارٌ لا بد وأنّ أوساخًا عالقة فيها ولا بدّ وأن تكون عمليّة “التنظيف” مشوبة بفقدان ما أصعب من عَيش الفاجعة نفسها، الفقدان الذي تمرّ به الذات وإرادتها لحظة الكتابة والتوثيق بصفتها الفاجعة الثانية، بتعبير موريس بلانشو، بمسافة بعيدة عن الماضي وبعيدة عن المستقبل. اللحظة الآنية التي يجب فيها التخلّص من الماضي ونجاة الذات من محرقتها.