«كنيسة المهد في بيت لحم أقدم كنائس فلسطين: دراسة في العمارة والفنون والتاريخ والتراث» (2022)، من تأليف المؤرخ الفلسطيني نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت، عنوان كتاب صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت ورام الله)، وهو الأوّل من نوعه باللغة العربية الذي يتناول مجمل تاريخ الكنيسة، الروحي والمعماري والفني. يتتبع المؤلّف في دراسته هذه المراحل التي مرّت بها كنيسة المهد، محلّلًا تطوّرها المعماري، ومقدّمًا وصفًا تفصيليًا لزخارفها ومعانيها، كما يسهب في تتبع علاقة الطوائف المسيحية المختلفة بالكنيسة، وكيفية تقسيمها بينهم في الفترات التاريخية المختلفة، شارحًا أعمال الترميم الأخيرة، والتي كان هو أحد المشرفين عليها.
يقع الكتاب في (393 صفحة) مقسّمة على عشرة فصول، ومقدمة وكلمة ختامية وملحق الترميم ومراجع بالعربية والأجنبية وروابط إلكترونية، وجدولًا بأهم التواريخ والأحداث المرتبطة بكنيسة المهد، ويتضمن عددًا وافرًا من الصور الفنية والمخططات الهندسية والأشكال التوضيحية. يركّز الجعبة في مؤلّفه على تطوّر مبنى كنيسة المهد معماريًا منذ النشوء وحتى اليوم، ويسهب في تحليل الزخارف الفسيفسائية الجدارية منها والأرضية، كما يقدّم رسومات الأعمدة الفريدة من نوعها، ويبرز معانيها التاريخية والروحية.
وبحسب الناشر، فإنّ مدينة بيت لحم شهدت وفق التراث الديني المسيحي، ميلاد السيد المسيح رسول المحبة. وهناك إشارات مبكرة جدًا تحدد الموقع منذ القرن الأوّل للميلاد، حيث بدأ تراث حج يتراكم ويتوسّع ويرتبط بمسار للحجاج. وقد حظي الموقع باكرًا بكنيسة شيدت بالتزامن مع بناء كنيسة القيامة في القدس، وبرعاية من القديسة هيلانة، في الثلث الأوّل من القرن الرابع للميلاد. وقام الإمبراطور البيزنطي جستنيان بإعادة بنائها قبل أواسط القرن السادس للميلاد، وهو المبنى الذي ما زال قائمًا حتى اليوم. وبهذا تكون كنيسة المهد أقدم كنائس فلسطين التي حافظت على شكلها مدة تزيد على أربعة عشر قرنًا، كما تعتبر بهذا من أقدم كنائس العالم. لافتًا إلى أنّ تتبع تاريخ كنيسة المهد هو تتبع لجزء مهم من تاريخ المسيحية في المشرق.
عملية ترميم شاملة
حافظت كنيسة المهد والتي تبعد عشرة كم عن مدينة القدس، على عمارتها الأساسية منذ القرن السادس للميلاد حتى يومنا هذا من دون تغيير، “وهي مسألة تدعو بالتأكيد إلى العجب”، كما يقول المؤلّف. وحظيت الكنيسة خلال الأعوام الماضية بعملية ترميم شاملة، (اتُّخذ قرار رئاسي سنة 2008، وبدأ العمل سنة 2013، وانتهى في كانون الأول/ ديسمبر 2022)، أي أنّ هذا الترميم استغرق عشرة أعوام، وهو ما أعاد إليها وهجها وأظهر جمالياتها وحافظ على تاريخيتها بحيث أصبحت زيارتها متعة روحية وفنية لا تضاهى.
وضع حجر أساس كنيسة المهد وبناها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين وأمه هيلانة (القديسة لاحقًا)، وذلك في الفترة 328 – 329 ميلادي، واكتمل بنيانها في سنة 333، وتم تدشينها رسميًا في احتفال في عيد الميلاد في سنة 339 (وتزامنت مع بنائهما كنيسة القيامة في القدس). أما البناء الثاني للكنيسة، فقام به الإمبراطور البيزنطي جستنيان، فكان ما بين سنة 543 وسنة 550 م، بعد أن هدمها وحرقها السامريون خلال احتجاجات قاموا بها في سنة 529. كما يذكر الجعبة.
وتشير المصادر التاريخية، إلى أنّ الكنيسة الأولى بُنيت على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الرابع الميلادي فوق المغارة التي وَلدت فيها مريم الطفل يسوع وقام قسطنطين وأمه هيلانة ببناء الكنيسة الرائعة والمهيبة والمزيّنة بالرّخام والفسيفساء الجميل. وفي وقتٍ لاحق، خلال القرنِ السادس بنى الإمبراطور البيزنطي جستنيان كنيسةً جديدةً مُتميّزة في نفس المكان. وأيّام الغزو الفارسي في القرن السّابع نجت الكنيسة من الدّمار، وبحلول القرن الحادي عشر رفع الصليبيون راياتِهم فوق كنيسة المهد وقاموا بترميمِها.
أما في الفترة العربية الإسلامية المبكرة وحتى سقوطها بيد الفرنجة (635-1099م)، فقد أشار الجعبة إلى مكانة كنيسة المهد في التراث الإسلامي، والعهدة العمرية بين الخليفة عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس، والحفاظ على الكنائس المسيحية، باستثناء ما جرى في فترة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وقد حفلت الكنيسة بزخارف نادرة –كما يصف- في فترة الفرنجة (1099 -1187)، وهو ما ترك تبعات كثيرة على كيفية استعمال الكنيسة وحقوق الطوائف (بعد أن كانت تحت سيطرة الروم الأرثوذكس)، وعلى مظهرها الخارجي والداخلي، بما يتلاءم مع سيطرة اللاتين الجديدة.
وتحت عنوان “كنيسة المهد في الفترتين الأيوبية والمملوكية (1187 -1517م)”، يتناول المؤلّف استعادة الروم الأرثوذكس السيطرة على الكنيسة. لافتًا إلى أنه جرت بعض أعمال الترميم فيها، غير أنها فقدت الكثير من رونقها في نهاية الفترة المملوكية (كبقية مدن فلسطين) بسبب “ضعف نظام المماليك وانتشار الفساد، وتراجُع مداخيلهم بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح”، وما رافق تلك الفترة من الكوارث الطبيعية والأمراض المعدية. في هذه الفترة، شهدت الكنيسة نقوشًا مكتوبة باللغتين العربية والأرمنية، إلى جانب اللاتينية. كما شهدت زيارة عالم اللاهوت السويسري فيليكس فابري بين عامي (1483 و1484م)، وكتب نصّه “الطويل المشوق، وما تضمنه من معلومات عن بيت لحم والكنيسة”.
ويبيّن المؤرخ الفلسطيني في الكتاب، أنّ الكنيسة شهدت فترة الحكم العثماني حالًا ما بين السيطرة والترميم، والفرمانات لترميم الكنيسة، والاستفادة من صراعات الطوائف المسيحية لإدارة الكنيسة وامتدادات هذه الصراعات على صعيد الدول الداعمة لهذه الطائفة وتلك، وتدخلات روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والنمسا ودول أُخرى. مشيرًا إلى أنّ سجلات المحكمة الشرعية في القدس تحتوي على عدد هائل من هذه المنازعات التي فصلت فيها المحكمة طوال الفترة العثمانية، وهي -كما يذكر- موثّقة توثيقًا جيدًا وتُعتبر ذخيرة معرفية من الطراز الأوّل.
وفي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، فقد تراوح حال الكنيسة ما بين الترميم المتواضع والتناقضات الدبلوماسية، وذلك استنادًا إلى سجلات دائرة الآثار في “حكومة فلسطين الانتدابية”. يقول الجعبة: هذه “إضافة مهمة لفهم التطوّرات التي طرأت خلال فترة الانتداب على الكنيسة من جهة، وعلى العلاقات بين الطوائف المسيحية صاحبة الحقوق التاريخية من جهة أُخرى”. وفي الكتاب توصيف لكل حجارة كنيسة المهد، وقاعاتها، والبئر، وجرن عمادة الطفل يسوع، والسقوف، والمنحنيات والأخشاب، والأبواب، وكلها بأجمل وأدق كلمات الوصف والجمال، وما حملته من تزيين وتنقيش يبهر العين والروح.
مزار سياحي معرض للخطر
يشير عالم الآثار والباحث الأنثروبولوجي البريطاني، كين دارك، إلى أنّ كنيسة المهد صُممت في أوائل القرن الرابع ببيت لحم من أجل إظهار الكهف باعتباره المحور الأساسي للكنيسة، وكان المذبح موجودًا في الكهف نفسه. واستنادًا إلى معايير أثرية فقط، فإن أفضل تفسير لهذا التصميم هو أن الكنيسة ومذبحها قد صمما بهذه الطريقة بسبب أهمية دينية للكهف معروفة سلفًا. وهذا التفسير للكهوف عامةً تدعمه أدلّة مكتوبة.
وتعرّضت الكنيسة لزلزال قوي عام 1834 سبب أضرارًا قوية بالمبنى، ويؤكّد خبراء أثريون، أنه في حال تعرض الكنيسة لزلزال آخر أو حتى ارتدادات زلزال جديد قد يؤدي إلى انهيارها وبالتالي ضياع قيمة عالمية استثنائية سواء من الناحية الدينية أو المعمارية حيث تعكس الكنيسة أنماط البناء والعمارة للقرن الرابع للميلاد من خلال ما تبقى من الكنيسة الأولى (كنيسة هيلانا) والقرن السادس (كنيسة جستينيان) والتي مازالت قائمة إلى يومنا هذا.
ومن أجلِ حمايتها من الغزّاة ولمكانتِها الدّينيّة تم تخفيض وتضييق المدخلِ الرئيس لكنيسة المهد تدريجيًّا. وتوجد في داخل الكنيسة مجموعتان من السلالم التي تؤدّي إلى مغارة المهد حيث توجد نجمةٌ فضيّة الّلون بأربعة عشر شعاعًا لتشير إلى نفس البقعة التي وُلد فيها يسوع. ويوجد نقش حول النّجمة بالّلغة اليّونانية يقول: “هنا من السيدة العذراء ولد الطفل يسوع”.
ومع مرور الزمن تحوّلت الكنيسة من مجرد مكان للعبادة يؤمه مئات الآلاف سنويًا إلى مزار سياحي لا يقتصر على المسيحيين فقط بل للناس بشكل عام بكافة أديانهم وطوائفهم وملجًأ لسكان المدينة وقت الأزمات والحروب. وقد تم في عام 2012 إدراج موقع (مكان ميلاد السيد المسيح: كنيسة المهد ومسار الحجاج- بيت لحم) على “قائمة التراث العالمي لمنظمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)”. وفي حينه تم إدراج الكنيسة على “قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر”، وذلك بسبب الأضرار الموجودة في المباني والأسقف وشبكات الكهرباء بسبب تسريبات المياه وتهالك البنية التحتية وعدم إجراء أي أعمال صيانة جذرية منذ القرن التاسع عشر.