نحن نعرف ماهية الفن، ونميّز السعادة
التي يقدّمها؛ مجهِدةً أحياناً، أو مُرّة، أو مختلطة الطعم،
أو حلوة صافية، كالمعجنات التركية…
آدم زاجايفسكي
يبدو الفن قادماً من عالمٍ آخر، من الماورائيات التي كان الشاعر البولندي هذا يؤمن بها، وبأن باخ يحاور الله. محمود درويش أعلن بأن الفنون هزمت الموت، مستعيداً ميتافيزيقيا الرومانسيين والرمزيين، في أن الفن يتجاوز العالم الواقعي؛ بل يكاد يكون المفتاح الوحيد للفهم، بحسب شوبنهاور، لأن عالم العذاب بشعٌ وقاسٍ ومؤلم، عالم الإرادات التي لا تتقاطع، عالمنا الأرضي القميء: عالمٌ لا ينفع فيه إلا الفن كي نهرب منه، أو نعطيه معنى.
كانت العرب تؤمن بأن الجن يتلبّس الشعراء، فينطقون بقصائدهم. لكل شاعر جنّي، وبعضهم اشتُهر أكثر من غيره، كأبي مرّة قرين جرير، ومسحل قرين الأعشى. وهذه الرؤية قديمة ومتأصلة في شبه الجزيرة، تربط الشعر بالكهانة، حتى اضطر القرآن لمواجهتها مراراً: “فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (سورة الحاقة). بعد عدّة قرون، سيلتقي المعري، في جنة العفاريت، بشيخ من الجن، ليؤكّد له على أن أشعار الجن أعظم بما لا يُقاس من أشعار الإنس: “وهل يعرف البشر من النَّظيم إلاّ كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟” ولكن المعرّي، بحنكةٍ براغماتية، سيترك الجنّ وأشعارهم هناك، ليعود إلى جولته الكُبرى في الجنة والنار؛ إذ، على العكس من شوبنهاور وأشباهه، يعرف الشيخ الأعمى، بخبثه الناضج ككمثرى خضراء، أن الأدب لا يعدو أن يكون محاولة نصف-فاشلة لتذكية جسارة الأمل: “لقد شقيتُ في الدار العاجلة بجمع الأدب، ولم أحظَ منه بطائل، ولست بموفَّق إن تركتُ لذَّات الجنة وأقبلتُ أنتَسِخ آداب الجن…”
بين غرائبيات الرومانسيين وبلادة الماديين، يحار المرء في معنى الأدب. على أن الفن الصيني يقدّم مخرجاً عجيباً، غير مقنع تماماً، من هذه الثنائية. يعتقد بوذيو الزن أنّ الفن يقرّبنا من الروح التي تعشعش في كل الأشياء، ونجدها في الحياة اليومية العادية، وفي الطبيعة. لذا، تخصص فن الرسم الصيني بأمرين: الجبال من جهة، والطيور والزهور من جهة أخرى. لا تقتصر فنونهم على ماورائيات هشة، كفنون الهنود والبيزنطيين الذين تجاهلوا الواقع لمصلحة غير المدرَك وغير المرئي. في الصين، أوراق البامبو تجسّد الروح الكلية، في لوحات لا تكاد تقول شيئاً، أو تقول كل شيء. أندو هيروشيغه، أعظم فناني اليابان، الذي اختصّ برسم واقع المدينة والريف، محطات المسافرين، الجسور، الأسواق، رسم أيضاً تلك الزهور والعصافير، كما فعل هوسوكاي في بعض أشهر لوحاته، وقبلهما أوتامورو، الذي رسم حشراتِ صغيرة تتلاعب على أعشاب تافهة. باشو، شاعر الهايكو الياباني، يلخّص علم الجمال الصيني/الياباني ببساطة مباشرة: “كل الكائنات الجامدة، مثل النباتات، والأحجار، والأواني، لها مشاعرها الفردية المشابهة للبشر”. هكذا، تتحول الميتافيزيقيا إلى رؤية أرضية، لتتخلّص من ذلك الطابع الخيالي الذي يطبع الأديان الكبرى، والفلسفات الرومانسية والرمزية.
في حي سكنيّ في قلب برشلونة، على مدخل قصرٍ صغير يُدعى قصر غويل Palau Güell صمّمه أنطوني غاودي، المعماري الكاتالوني، أخذوا جواز سفري، واستجوبوني. “سوريّ؟”. كنتُ وحدي، بعيون متعبة، بعد ليلتين من محاولة كتابة قصة قصيرة، لمجموعتي القادمة “قلوبٌ مكبولة”، عن الشعر العربي القديم؛ قصةٌ كنا فيها، أنا وأبو تمام، عالقَين في ثلوج بلاد فارس. “ماذا تعملُ؟” “كاتب!” فجأةً، يهمس قريني، بجدية كاملة: “ولكنكَ لا تثق بالماورائيات، ولا بالفن- تقريباً؛ وكتاباتكَ لا تسدّ الرمق! هل أنتَ كاتب حقاً؟” تشفق عليّ الموظفة، وتهزّ رأسها بابتسامة نصف-ساخرة. تشرح لي أنّهم يقومون بإحصاء كل الزائرين، من أجل دراسة فنية حول زوّار المتاحف في كاتالونيا. ليس التدقيق أمنياً. أدخل وأنا متشكك بها وبأجوبتها. المتحف يضجّ بالجمال، من القبو إلى السطح، والتواليت والنوافذ والكراسي. أتجوّل على مهل. تراثٌ مسيحي، وأثرٌ إسلامي واضح، وحداثة مستفزّة. أبو تمام، أيضاً، لم يستكنْ للتقاليد؛ من قبيلة نصرانية، أسلم أبوه، وملأ الدنيا صخباً بالبديع الحديث. أقف على سطح المتحف، بمداخنه الرائعة العجائبية، وأراقب امرأةً في البناية المجاورة، تتكئ على الداربزين في شرفتها، تلبس قميص نومٍ لمّاع، وتدخّن وحدها. متعبة، وطازجة، في نفس الوقت. تدخل طفلةٌ الشرفة. تقول شيئاً. تبتسمان، تقبّلها على جبينها. تعود الطفلة إلى الداخل. تلفزيون قديم، وهوائي مكسور بجانبه، أحذية قديمة نسائية وللأطفال، كرسي صغير أحمر، مكنسة كهربائية ومقشّة خشبية. تقشّر الحائط خلفها. الستارة على النافذة المجاورة رمادية مهترئة. تنهي سيجارتها. لا تنظر باتجاهي. ربما، اعتادتْ أن تتجاهل هذا القصر وسياحه. يأتي شابٌ بملابس داخلية ملوّنة، ويدخّن في نفس المكان. يبدو مهموماً. أعود إلى قصري، مشتتاّ لسببٍ لا أعرفه. أبحث عنهما من قلب القصر. “أهزمتْكَ يا موتُ الفنون؟” كلا، لا يمكن رؤيتهما من خلال الزجاج المعشّق؛ فقط الفارس القروسطي المرسوم في الزجاج يملاً المكان، ولا تُنار الزوايا حتى في ضوء الشمس الساطع.
قدّمت الميتافيزيقيا لفن العمارة القبة في الكنيسة ثم الجامع. بدايات القبب غامضة، بين بلاد الشام وأراضي فارس. ولكن مع تبني السلطة في روما الوثنية لها في البانثيون، ثم بيزنطة المسيحية مع الإمبراطور جوستينيان عندما أعاد بناء آية صوفيا بعد أن دمرها العامة في واحدة من ثوراتهم عليه، أصبحت القبة متلازمة مع الكنيسة. المسلمون، بدورهم، سيستعيرون من الساسانيين والبيزنطيين القبة لكل جوامعهم. تشابه القبة السماء التي تدور حول الأرض، بحسب الفقهاء واللاهوتيين، والله ذو الجلال يحرّك السماوات بشكل دوري ثابت سامٍ، كأن الميتافيزيقيا الخاطئة تكرّس نفسها في عالم الجمال. مع ذلك، يستقلّ الجمال، ويكاد المرء يؤمن بأن السماء تدور خاشعةً عندما يرى جامع الشيخ لطف الله في أصفهان من الداخل: الروح تحلّق في ذلك الجمال، حتى لو لم نؤمن.
أو، أن يكون الإيمان غير مرتبط بالخلاص، كما يصف زاجافيسكي إلهه: “ذلك الذي لا يساعد أولئك/ الذين يطلبون رحمته/ مختبئاً بين اللاهوتيين”. والفن، أيضاً، بكل ثِقله الميتافيزيقي، يفشل في الأوقات الرهيبة، ونحن نعرف ذلك تماماً، بحسب الشاعر البولندي الذي هرب من السلطة الشيوعية. الشاعر الفلسطيني، المنفي في نفس المدينة الأوروبية التي عاش فيها البولندي، على النقيض منه، كان ماركسياً مادياً مُخلِصاً، بدون أية أبعاد ميتافيزيقية متعالية على الواقع؛ ولكنه يهجس، من المشفى في باريس: “هزمتْك أغاني بلاد الرافدين، يا موتُ”. كِلا الشاعرين يتقمّص فكراً لا يؤمن به، في محاولتهما لفهم الفن والشعر، ودورهما في عالمٍ لا يكترث: درويش ماديّ يؤمن بالفن الذي يتجاوز الواقع، وزاجايفسكي ميتافيزيقيّ ينكر الخلاص القادم منه!
أميل إلى البولندي، الذي خَبِر جيداً هذا الفشل الكبير، الفشل الذي لم يعترف به الفلسطيني؛ ربما، لأن الاعتراف سيكون أقسى مما يحتمل- اعترافٌ يكاد يلامس حدود الاستسلام لمن لا يملك الكثير من الواقع كي يتمسك به؛ أما البولندي، فيأتي اعترافه أسهل، متأملاً عالماً لم يسحقه كلياً، هو وناسه وآماله:
نحن لا نعرف لماذا تفشل حفلةٌ موسيقية
في إثارتنا أحياناً، لماذا تفشل بعض الكتب
في تقديم الخلاص، بينما لا يستطيع غيرها
إخفاء غيظه. نحن نعرف،
ولكننا ننسى بعدها.
بمقدورنا فقط أن نخمّن لمَ تنغلق بعض أعمال الفن
فجأةً، كمتحف إيطالي في إضراب.
لماذا نتغلقُ أروحنا أيضاً أحياناً، وتوصد،
كمتحف إيطالي في إضراب.
لماذا يصبح الفن أعجم عندما تُرتَكبُ الفظائع،
لماذا لا نحتاجه عندها- كأن الفظائع
استولت على الكون، ملأته كلياً،
تماماً، حتى السقف.
نحن لا نعرف ماهية الفن.