تفتتح زهور حسين ملحمتها الخالدة، “خالة شكو”، بأسئلة بريئة، متسائلة، مبهمة لا تخبرنا فيا عن سرّ القلق الطاغي؛ وتستدرجنا بشجن، لننصت بآذان خاشعة خائفة مترقّبة:
خالة شنهو الخبر احكيلي
فدوه رحتلك ليش ما قلتيلي
خالة تقوليلي شصار
والله شعلتيني بنار
ما القصة، التي أقلقت زهور، ومستمعيها، لأكثر من نصف قرنٍ؟
…
معظم الأغاني العربية رومانسية بطريقة مملة ومبالغ فيها. الاستثناءات قليلة، كما في بعض أغاني محمد عبد الوهاب: “يا دينا يا غرامي” و”الجندول”. وبعض أغاني فيروز، كما “اسهار” و”نطّرونا”. “رباعيات الخيام” للست. “صياد الطيور” لأبي وديع.
ثم لدينا “خالة شكو”، لزهور حسين: تشريح لمعنى الحب الواقعي، ونهايته، وآثاره التي لا تزول.
…
تعرف زهور القصة، تعرفها جيداً، وترتعد منها: صوتها الشجي، حامل الأسى الشيعي وأحزانه لأكثر من ألف وأربعمائة سنة، يصبّ معرفته مباشرةً: زهور، لا الخالة، تخبرنا بالقصة التي أرّقت العراقيين خمسين عاماً، لتتجاوز سقوط الملَكية وصعود عبد الحكيم قاسم وانقلاب البعث والحرب العراقية-الإيرانية، أكثر الحروب دموية في الشرق الأوسط على الإطلاق في القرن العشرين:
خالة عليك الله سمعتي خبر
محبوب قلبي يمكن نفر
تعرف زهور ما حدث؛ وزيارتها للخالة ليست لطرح الأسئلة البريئة التي افتتحت بها أسطورتها، بل لتصب عند الخالة قلقاً لا تعرف منه مخرجاً.
…
لا يوجد قصص حب طاغية في تراثنا الحديث، بل فقط تجريدات فكرية برّانية متعالية: أدونيس وأنسي الحاج مثلاً، أو سياسوية بشكل مباشر، كما عند أمل دنقل. محمود درويش كتب العشق في كهولته وشيخوخته، ولكنه عشق حسي عام، وليس مخصوصاً لامرأة واحدة: لا تشعر فيه بحرقةٍ تقرص القلب كلدغة العقرب، بل هو حب بسيط ناضجٌ مائج، كبحر غزة. حتى نجيب محفوظ، الذي كتب كل شيء، تخلو قصصه من الحب الطاغي. آه، نراه في الثلاثية، وفي شيء حارق حسي أو ما ورائي في “الحرافيش”، وفي “حديث الصباح والمساء”. ولكنها ليست قصص عشق. لم يكن محفوظ عاشقاً، ولم يكتب العشق الطاغي المؤذي.
…
“أصل الغرام نظرة”، أغنية، أو “دور” مصري شهير، من تلحين محمد عثمان، تبناه صباح فخري لربع قرن، يؤديه في معظم حفلاته، ليسكب فيه محبته للطرب والعشق والتجلّي والتخلّي. في هذا الدور، يحلق الحلبيّ البدين المبتسم المحافظ وحيداً بعيداً، عندما يكرر اللازمة عشرات المرات، كما يسبّح المسلمون لإلههم القريب-البعيد؛ لازمة تتكون من كلمة واحدة يتسلى بها: “العين”.
العين تفتح لصباح فخري كل دروب الحب، والطرب، والفرح الذي لا تحدّه حدود بين البلدان والألحان.
…
قصص مجنون ليلى خزعبلات فارغة، ومثلها قصة عنترة، وما أُضيف على جميل بثينة. مع كُثيّر عزّة، تتحول قصة الحب العذرية إلى شبه-واقعية، والرجل القصير القبيح المتطيّر المتشيّع بكل جوارحه لآل البيت وللإمام محمد بن الحنفية (لم يكن هناك، بعد، مذهب شيعي واضح إثنا عشري أو سبعي؛ ولا حتى مذهب سنّي) يمدح عن قناعة الأمويين. بعده، ستصبح قصص العشق مسلية وحقيقية ودرامية وواقعية، كما نراها عند بشار بن برد وأبي نواس وأبي العتاهية وديك الجن، ومحبة جرير لزوجته.
…
ماتت زهور حسين في حادث سيارة، في الأربعين من عمرها: بقيت أسئلتها معلّقة. لم يتح لها أن تعرف الإجابات؛ أو، ربما، تلك كانت الإجابة: شجنٌ يموت شاباً، كما مات الحسين، وقاتله يزيد، وأبو تمام، وأبو القاسم الشابي، وآرثر رامبو، وأوسامو دازاي.
…
على أن أكثر القصص الواقعية إثارة، قصة الفرزدق والنوار: بعد وفاة زوجها، طلبها أحدهم، فخدعها الفرزدق وزوّجها نفسه: كرهته، وكرهت شعره، وقسوته، وتبجحه. هربت إلى الخليفة (الذي لم يعترف به لا السنة ولا الشيعة) ابن الزبير، فلحقها، وهجا الخليفة عندما ساندها بتعقّل لبِق. هربت مرة أخرى، والتقت جرير، وعايرت الفرزدق بأن جرير أشعر منه. هربت مرات ومراتٍ، لتعود مكسورة الخاطر: شخصية نسوية لا تتنازل عن كرامتها. كتب فيها شعراً كثيراً: شعراً صادقاً وحزيناً. إلى أن استسلم. حلّفته أن يُشهد الإمام الحسن البصري، وكان من مرتادي حلقته مع من سيصبحون أقطاب المعتزلة والمتكلمين والمتحدثين والزهاد في تاريخنا، في البصرة، التي كانت مدينة كوزموبوليتانية بامتياز. أقنعه الإمام السمِح بأن يطلّق، فطلّق؛ ثم ندم، وبقي يكتب فيها الشعر إلى يوم وفاتها. أما هي، فعاشت من دون زوج مع ابنها من الفرزدق، سعيدة حرة.
هذه هي قصة الحب التي يجب أن تُدرّس في مناهجنا: عن رجل موهوب، تردد بين الشيعة والسنة، وملأ الدنيا فخراً، وحُبس في شيخوخته ذليلاً، واصطدم بزياد بن أبيه- أكثر ولاة الأمويين دموية، ثم نافق الحجاج، ليهجوه بعد وفاته، وتنتهي حياته بأن يرثيه خصمه جرير: رجل عشق امرأة أربعين سنة، امرأة انتصرت عليه وعاشت كما تريد، في عالمٍ ذكوري خضع لها ولمطالبها ولكرامتها!
…
أبو الطيب المتنبي لم يعشق. ليس للرجل قلب؛ وحيد حزين، كطفل تائه في الصحراء. محتالٌ يسعى إلى السلطة. ولكن، على الرغم من ذلك، كتب بعض أجمل أبيات الغزل العربي، غزل غريب الشكل والمضمون، غزل لا يتجه إلى محبوبة، كغزل بشار وأبي نواس وجميل الواثق الشخصي الصادق الحارق: كلا، بل غزل أبي الطيب بلا موضوع، بلا هدف: ولكنه، في مفارقة عجيبة، غزلٌ يُعمي القلوب بدمٍ أحمر قان أصيل، ويكاد يضاهي بجودته الغزل الحقيقي!
…
تهتف زهور، بعنفوان الشباب، بكرامة العاشقة، بسطوة الصوت الجارح، ببلاغة العاميّة الصادقة:
ما يهمني خلّه يروح
ترتاح منّه الروح
لا شيء سيجرح زهور: من، على هذا الكوكب، سيجرح صبية تملأ الدنيا بحفلاتها يومياً، حفلاتٍ ضجّت بها الإذاعة والملاهي ومجالس العزاء الحسينية؟
…
كيف تكون قصة الحب مقنعة؟
فقط قصة الحب الفاشلة مقنعة.
يفتتح ليف تولستوي روايته آنا كارنينا بجملة مربكة، مربكة لأنها دقيقة وصحيحة وصادقة:
“جميع الأسر السعيدة تتشابه، لكن كل أسرة تعسة فهي تعسة على طريقتها الخاصة”.
كل قصص العشق، بمعنى ما، تنويعات لا تنتهي على مقولات وروايات تولستوي.
…
بدأت زهور حسين حياتها الفنية في مراهقتها في مجالس العزاء: تنوح، تتمزق الحياةُ أمام صوتها، بحثاً عن دم الحسين. أمها فارسية، وكانت تمزج اللغة الفارسية في مواويلها باللغة العربية: لم تجد فوارق بين روحها الفارسية وحزنها العربي، لم تؤمن بما يفصل ويفرق بين الناس. على العكس، زهور، تتنقل بسلاسة لا مثيل لها بين الشعبين، بين اللغتين، بين الحزنين، بين القلوب والأرواح التي تعشق.
لم تكن وحدها: قبل نشوء الدول القومية، كانت كل الناس في المناطق الحدودية، بل والداخلية، تتلاعب بلغاتها المختلفة والمتعددة ولهجاتها المتداخلة الغنية كما يحلو لها، لتعبّر عن نفسها بصدق وعفوية.
ربما، كانت زهور آخر من غنّى مواويل لم يُكتب لها البقاء، على ضفتي شط العرب.
…
فيلمان يتشابهان في الحبكة والقصة والشخصيات: الأمريكي “جسور ماديسون كاونتي” (1992) والسوفييتي “محطة لشخصين” (1983) (الثاني يتفوق على الأول في بعض المشاهد الخفيفة المرِحة): مدينة وريف، وحب من طرفين متناقضين، حب فاشل تماماً. الفيلم السوفييتي أتى في الثمانينيات، عندما قدمت روسيا بعض أفضل أفلامها، بين نهاية حقبةٍ وبداية نهاية أخرى. يبدو الحب في كلا الفيلمين كمحاولة خرقاء للعيش في عالمين تشابها في رفض الحب. وللأسف الشديد، الخاتمة سيئة جداً في الفيلمين (يُمكن اقتطاع الخاتمتين اللتين تصوّران ما بعد الفشل) بسبب محاولة شدّ جمهور متعجرف لا يكتفي بالصدق: بفشل الحب في عالمٍ لا مكان فيه للمثاليات الخرقاء.
…
لم تكتف زهور بذلك، بأنها لا تريد هذا العشيق:
وحياة عينج كلبي ملّ الولف
بل أكثر، أكثر من ذلك، تريد الخلاص منه:
يا ريت عن حالي حبيبي يعفّ
بل، وهنا تتلوى المعاني كلها، لتعود إلى نقطة الانطلاق الأولى للمعنى، للحياة، للصبر، للصدق، للمصير؛ زهور لا تريد الحب كله:
نار العشق تدرين خالة كلف
ما بيّه مهجة وروح
أسمر مطاها الروح
الحب، كله، في جوهره، عذابات ترفضها زهور. وفي تنويع ساحر، تؤكد:
ما بيّه مهجة وحيل
أصبر وأساهر ليل
هذا يكفي، يكفيها ويكفينا: لا تريد زهور هذا الحب، ونحن معها، مأخوذين بصوتها، نوافقها.
من يريد هذا العذاب كله في حياته؟
…
كتب كلمات الأغنية شاعرٌ كردي، سيف الدين ولائي، من جيل ذهبي عراقي، انتهى في مآسي الثمانينيات مطروداً من عراق صدّام، إلى إيران، بحجة أصوله غير العراقية، ليغادر بعدها إلى سوريا، حيث سينضم إلى عشرات آلاف العراقيين، ليموت فيها.
توقف عن كتابة الأغاني، بعد تهجيره، كلياً.
…
أصل المحبة
ضحكة ولعبة
خّلينا صحبة
على طول العمر
على ما تقول أغنية سورية، من تراث مدينة اللاذقية على ساحل المتوسط: أغنية تشبه المدينة الكسولة، وطقس المتوسط الحار الناعم.
الحب مرح هاش باش. يقتضي الحبُّ الصداقةَ. ينفر الحب من الجَهِم العبوس.
ربما، لهذه الأسباب، لم يعشق المعري والمتنبي وأبو تمام. في حين ذاب حباً بشار بن برد وأبو نواس وجميل بثينة، وطه حسين.
…
في “أخاف أحجي” و”خالة شكو”، تحاور زهور الجوقة، كما في التراجيديات اليونانية الأبكر، أعمال أسخولوس الفخمة المهيبة: الجوقة تسأل، والبطلة تجيب وحدها.
…
أنا هويت وانتهيت
ليه بقى، لوم العزول؟
هكذا هو العشق: نهاية ميتافيزيقية في عالم حسّي!
…
لم أستطع أن أجد اسم الملحن، ولستُ واثقاً مما قيل عن الشاعر كاتب الكلمات.
لا يجد المرء معلومات موثوقة عن زهور حسين: نشأت في بيت فقير جداً؛ زوجها، أو أخوها، قضى سنوات في السجن لتهمة جنائية، وماتت في حادث السيارة أثناء عودتها من زيارة السجن. عدا عن ذلك، لا تسعفني الشبكة العنكبوتية، بسخافاتها وعمقها وأبحاثها، بالهواة وبالمختصين، في رحلتي بحثاً عن زهور؛ الشبكة التي تمتلئ بالمعلومات عن كل شيء، حرفيا كل شيء على ظهر الكوكب، من شكوكية فيزياء الكوانتم، إلى تنويعات الإنسان البدائي المُنقرض الذي عاصر الإنسان العاقل في بداياته، إلى أنواع عصافير الحسون في العالم وتوزعها الجغرافي، إلى حياة داروين بتفاصيلها اليومية الغنية: عن كل شيء، إلا زهور حسين.
…
فجأة، في نهاية صادمة ومُجزية وغير متوقعة للمستمعين، تنفجر أحزان زهور، تتفرفط، تتناثر، ثم تتكثف: لا تحتمل الفراق، لا قِبَل لها به. من يحتمل هذا الفراق؟ من، بعد أن ذاق الحب، يعود إلى ما كان عليه؟
بعد ثورة الغضب، تعود إلى ما هي عليه في الحقيقة: بنت عالم وناس، بنت عالم يعيش فيه الحب بصدق، وحين يموت، يموت واقفاً، بكرامة، بعزة، بما لا يوصف إلا بصوتها:
نتصافح إحنا وبالرضا نفترق
ماكو عتاب ولوم
بس السلام يدوم
هكذا تنتهي قصة زهور؛ هكذا، أمام أعيننا، وآذاننا المرهفة المشتطة لصوتها، نرى الارتباك الخالد، الفخور، الكريم، النضر، أمام نهاية الحب: أجل، يموت الحب، لتغضب زهور، وتكفر به؛ لكنها، في النهاية، تعود إلى ما يحرق القلب، والقلوب كلها، لتختصر كل حبكات القصّ عن العشق والعشاق والمعشوقات، في رغبة وحيدة لا غير:
تريد، فقط، أن تتبادل السلام، يوماً، لو التقت المحبوب صدفة في الشارع.
هل كان هذا كثيرٌ على الصبية التي لم يبق شبرٌ في بلدها للسلام؟