نُشر النصّ الأصليّ في مجلَّة ذا نيو ستيتمان The New Statesman، في تاريخ 22 تمّوز 2023.
يُبيّن لنا كلٌّ من فيلمَي “باربي” و”أوبنهايمر” كيف بمقدور المرء أن يُصادِف الخيال حتَّى في صميمِ أشدّ صور الواقع قتامة.
على الرغم ممّا تعرَّض إليه فيلم “إنديانا جونز وقرص القدر” من استهجان وسخرية من قبل النقَّاد -وهو الجزء الخامس والأخير من السلسلة المعروفة- إلَّا أنَّه مع ذلك يتصدَّى لواحدةٍ من الإشكاليَّات الرئيسيَّة للحداثة؛ ألا وهي الفصل ما بين الخيال والواقع. تدور أحداث الفيلم في سنة 1969، ومحورُه مسعى جونز للعثور على جهازٍ قديم -قرص- يُعتقَد بأنَّه يمنح القدرة على السفر عبر الزمن. بمساعدةٍ من ابنته الروحيَّة هيلينا، وبعد أن نبذَته زوجته ماريون وتملَّكه اليأس من جرَّاء وفاة ابنهما، يمضي في رحلته بينما يطاردهما جيلٌ جديدٌ من النازيِّين الباحثين أيضًا عن “قرص القدر”. في مشهد الذروة، يعودُ كلٌّ من جونز وهيلينا في الزمن إلى حصار سرقوسة في سنة 212 قبل الميلاد، حيثُ يلتقيان بالعالم الفلكيِّ أرخميدس الذي اخترع آلة الزمن. ومع اعتقاده بأنَّه لا حياة كي يعود إليها في أمريكا سنة 1969، يُقرِّر جونز البقاء في الماضي والعيش في خضمِّ تلك المرحلة التاريخيَّة العظيمة. بيد أنَّ هيلينا ترفض التخلّي عنه، فتعود به إلى العالم الحديث بعد أن تفقده وعيه. يستيقظ جونز في شقّته، ويجتمع شمله بماريون، ويحتضنان بينما تمضي هيلينا بعيداً مُبتسمة. ومع ذلك، فإنَّ هذا الحلّ السعيد لا يحجب تمامًا الدلالات المريرة لنهاية الفيلم؛ فبعد إجباره على مغادرة اليونان القديمة، سيكون على البروفسور البطل الآن مواجهة الحياة المنزليَّة الرتيبة.
تركَّزت العديد من الانتقادات اللاذعة التي وجِّهَت إلى الفيلم حول شخصيَّة “هيلينا” (لعبَت دورها فيبي والر بريدج) التي قُدِّمت باعتبارها غريبة الأطوار من نواحٍ متعدِّدة (قياساً بمعايير هوليوود الكلاسيكيَّة بصدد الجمال والإثارة)، أو صورةً لثقافة “الووك”؛ فهي ممثِّلة رئيسيَّة تقوِّض الكليشيهات الأبويَّة عن الإغراء الأنثوي. بيد أنَّ “هيلينا” ليسَت رمزاً للجنس، ولا نموذجاً لسلوكيَّات “الووك” إزاء مسألة النوع الاجتماعيّ: ما تُقدِّمهُ “هيلينا” ببساطةٍ هو عنصرٍ من عناصر الانتهازيَّة اليوميَّة الممزوجة بطيبةٍ جوهريَّة، وبعبارةٍ أخرى، لمحةً عمَّا يمكن تسميته بالحياة الفعليَّة. وهكذا فإنَّ محور فيلم “إنديانا جونز الأخير هو “هيلينا” في واقع الأمر؛ تلك الشخصيَّة الآتية من عالم الواقع والتي تنجذب إلى عالم “جونز” الخياليَّ ومغامراته في البحث عن الكنوز.
بوصفِه تنويعةً على موضوعة سلسلة أفلام “ماتريكس”؛ “مرحباً بك في صحراء الواقع” -والمقصد هُنا ما يحدث حين تتداعى أوهامنا الحمائيَّة لنجد أنفسنا في مواجهة عالم الواقع بكلِّ وحشيَّته الصارخة- فإنَّ من الممكن النظر إلى فيلم “إنديانا جونز وقرص القدر” باعتباره جزءاً من اتِّجاه حديثٍ في السينما -على غرار “باربي” و”أوبنهايمر” و”برجي العذراء”- يسافر أبطاله في مغامراتٍ من الواقعيِّ إلى الخياليّ، ومن الخياليِّ إلى الواقعيّ. فبعد نبذهما من يوتوبيا “عالم باربي”، لكونهما دميتين بصفاتٍ أقلّ من مثاليَّة، تنطلق “باربي” برفقة “كين” في رحلةٍ إلى عالم الواقع بقصد اكتشاف الذات. لكنَّهما لا يصلان هناك إلى كشفٍ عميقٍ للذات، بل إلى إدراك أنَّ الحياة الفعليَّة تعجُّ بالكليشيهات الخانقة أكثر من تلك في عالمهما الخياليّ. وهكذا تضطرُّ الدميتان إلى مواجهة حقيقةٍ مفادها أنَّه ليس وراء “عالم باربي” سوى واقعٍ وحشيٍّ فحسب، بل أيضاً أنَّ اليوتوبيا هي جزءٌ من ذلك الواقع الوحشيّ: إذ لن يكون الأفراد بقادرين على احتمال العالم الحقيقيّ في غياب عوالم خياليَّة على غرار “عالم باربي”.
يضفي فيلم “أوبنهايمر” مزيداً من التعقيد على الفكرة السابقة بصدد الرحلة إلى الواقعيّ؛ فليست موضوعته مجرَّد السفر من ملاذ العالم الأكاديميِّ إلى عالم الحرب الحقيقيّ -ومن العقل إلى مستودعات الذخائر- بل أيضاً كيف تُحطِّم الأسلحة النوويَّة (ثمار العلم) تصوّرنا عن الواقع: باعتبار أنَّ الانفجار النوويَّ هو شيءٌ لا ينتمي إلى حياتنا اليوميَّة. كان عالمُ الفيزياء النظريَّة “أوبنهايمر” من تولَّى قيادة “مشروع مانهاتن”؛ وهو الفريق الذي استُحدث في شهر آب من سنة 1942 لتوكل إليه مهمَّة تطوير القنبلة الذريَّة لصالح الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. في فترةٍ لاحقة، في سنة 1954، ستصفُ السلطات “أوبنهايمر” بالشيوعيِّ بسبب ارتباطِه بمجموعاتٍ تعمل على إبطاء انتشار الأسلحة النوويَّة. وفي حين يمكن وصف موقف “أوبنهايمر” بالشجاع والأخلاقيّ، إلَّا أنَّه فشِل بأن يأخذ في حسبانه العواقب الوجوديَّة للجهاز الذي اخترعه. في مقالته “قيامةٌ من دون مملكة”، قدَّم الفيلسوف “غونتر أندرس” مفهوم “القيامة العارية” ويقصد بها: “القيامة مُقتصِرةً على السقوط فحسب، من دون أن تمثِّل نقطة انطلاقٍ لظروف جديدةٍ وإيجابيَّة (للمملكة)”. ومن منظور أندرس، من شأن الكارثة النوويَّة أن تكون تعبيراً عن القيامة العارية: فلا مملكة جديدة ستنبثق من جرَّائها، بل تدميرُ شاملٌ للعالم فحسب.
لم يقوَ “أوبنهايمر” على احتمال هذا القدر من “العريّ”، فنراه يهرب إلى الهندوسيَّة التي أولاها اهتمامه منذ أوائل ثلاثينيَّات القرن المنصرم مع تعلُّمِه للغة السنسكريتيَّة بغية قراءة “الأوبانيشاد” بلغتها الأصليَّة. واصفاً مشاعره في أعقاب تجربة “ترينيتي” التي شهدت أوَّل انفجارٍ لقنبلةٍ ذريَّة في موقع “نيو مكسيكو”، سيقتبس “أوبنهايمر” من “البهافاغاد غيتا” ما حدَّث به كريشنا أرجونا: “الآن صرتُ الموت، مدمِّرَ العوالم”. وفي حين أنَّ الاقتباس السابق هو أكثر ما يربطه الناس بـ”أوبنهايمر”، إلّا أنَّ الأخير قد اقتبس أيضاً من “غيتا” مقطعاً آخر يقول: “إذا ما انفجر في السماءِ شعاعُ ألف شمسٍ في آن، فمثل ذلك كمثل الربِّ في عظمته”. هكذا نرى كيف يرتقي الانفجار النوويّ إلى مرتبة التجربة الإلهيَّة. لا عجب إذاً، بعد نجاح الانفجار النوويّ، أن يظهر “أوبنهايمر” بصورة المنتصر كما وصفها عالم الفيزياء “إزيدور رابي” بالقول: “لن أنسى مشيتَه ما حييت؛ لن أنسى كيف ترجَّل من السيَّارة… كيف تبختر مثل بطل فيلم هاي نون. لقد بلغ مُراده”.
في وسعنا من هذا المنطلق قراءة افتتان “أوبنهايمر” بـ “غيتا” باعتباره انتماء إلى تراثٍ طويل من محاولة إسناد المضامين الميتافيزيقيَّة في فيزياء الكمّ إلى التقاليد الشرقيَّة. بيد أنَّ فيلم نولان (هذا) قد فشل في إظهار أنَّ استحضارَ أيِّ نوعٍ من العمق الروحيِّ إنَّما من شأنه التشويش على حجم الرعب الذي ينطوي عليه الواقع الجديد الذي خلقَه العلم. إنَّ المواجهة الفعليَّة لـ “القيامة العارية”، أو الكارثة التي لا يتبعها خلاص، تستلزم نقيضَ العمق الروحيّ: أي، روحاً هزليَّةً فجَّةً إلى أبعد الحدود. ينبغي أن نتذكَّر هُنا أنَّ أفضل الأفلام التي تناولت موضوعة الهولوكوست -على غرار “سبع حسناوات” (1975)، و”الحياة جميلة” (1997)- إنَّما هي أفلام كوميديَّة، وليس ذلك لأنَّها تستخفُّ بالهولوكوست، لكن لأنَّها تعترف ضمنيَّاً بأنَّ الحدث قد بلغ من الجنون مكانةً بحيث لم يعد من الممكن روايته كحكايةٍ “تراجيديَّة”.
هل هناك أيُّ فيلمٍ يجرؤ على اللجوء إلى المقاربة السابقة إزاء أهوال اليوم وتهديداته؟ يَعرض “بُرجي العذراء” (وهو مسلسل قصير، من تأليف بوتس رايلي وإخراجه، عُرض في العام الجاري) قصَّة “كوتي”، وهو شابٌّ أسود البشرة يبلغ من العمر 19 سنةً، ومن الطول أربعة أمتار، نشأ في كنف خاله وخالته في مدينة أوكلاند، كاليفورنيا. نشاهد كيف يُكرِّس الوصيَّان حياتهما من أجل ضمان سلامة “كوتي” وعزلِه عن العالم. بيد أنَّ هذا الأخير، الذي نشأ في حياةٍ ملؤها الإعلانات التجاريَّة والقصص المصوَّرة والثقافة الشعبيَّة، يُقرِّر اقتحام العالم، ليس باعتباره صفحةً بيضاء لكن مغسول الدماغ مُسبقاً بتأثير الأيديولوجيا الاستهلاكيَّة الطاغية. وعلى نحوٍ عجيب، يصير لكوتي أصدقاء، ويجد عملاً، ويقع في الحبّ، لكن سرعان ما سيكتشف أنَّ العالم أكثر شرَّاً وفساداً ممَّا يبدو عليه -يلعبُ “كوتي” دور الوسيط المحفِّز، فدخوله إلى واقعنا الاجتماعيِّ العاديّ إنَّما يكشف عن كلِّ ما في هذا الأخير من تناقضاتٍ واحتقان (على غرار العنصريَّة، والنزعة الاستهلاكيَّة، والجنسانيَّة، وما إلى ذلك). لكن كيف يفعل ذلك؟ تنبَّه ناقدٌ فطِن إلى تلك المسألة، فكتب لمجلَّة “ذا راب” يقول: “لا تدعوا الموضوعات الكثيفة تخدعكم، فبرجي العذراء كوميديا تعجُّ بلحظاتٍ جنونيَّةٍ إلى أبعد الحدود”. يوظِّفُ “رايلي” العبث إذاً من أجل تسليط الضوء على ما هو جليٌّ في الحياة الواقعيَّة، ويقول في هذا الصدد لمجلَّة “وايرد”: “تجذبُني التناقضات الكبرى… تناقضات الرأسماليَّة -آليات عملها- التي سيتردَّد صداها في كلِّ ما نفعلُه تقريباً”.
هُنا مكمن عبقريَّة رايلي: المزج ما بين حقيقتين تراجيديَّتين (وحشٍ عملاقٍ قُذِف به إلى عالمنا، والتناقضات الأساسيَّة للرأسماليَّة العالميَّة) لإنتاج عملٍ كوميدي مدهش. ينشأ التأثير الكوميديّ نتيجةَ أنَّه ما من تعارضٍ ما بين الأوهام الأيديولوجيَّة والواقع: إذ بمقدورنا أن نُصادِف الخيال حتَّى في صميمِ أشدّ صور الواقع قتامة. ويمكن القول هُنا إنَّ مرتكبي الجرائم المروِّعة ليسوا وحوشاً شيطانيَّةً يفعلون ما يفعلون بجرأةٍ وشجاعة، بل جنباء يرتكبون الجرائم سعياً منهم لاستدامة الوهم الذي يُحفِّزهم. لقد قَتل أتباعُ ستالين الملايين من البشر بغية إحداث مجتمعٍ جديد، ثمَّ أتبعوا ذلك بقتل ملايين آخرين بغية تُجنُّب حقيقةٍ مفادها أنَّ مشروعهم الشيوعيّ كان محكوماً عليه بالفشل.
ما زال مشهد الذروة في فيلم “قليلٌ من الرجال الصالحين” (1992) للمخرج “روب راينر” في ذاكرة معظمنا؛ أعني مشهدَ استجواب المحامي “دانييل كافي” (توم كروز) للعقيد “ناثان جيسيب” (جاك نيكلسن)، وبالأخصّ عندما قال المحامي للشاهد: “أريد الحقيقة!”، فصاح الأخير: “إنَّك لن تقوى على الحقيقة!”. إنَّ هذا الجواب أكثر غموضاً ممَّا يبدو عليه: فلا ينبغي قراءته ببساطةٍ باعتباره يرمي إلى أنَّ معظمنا أضعف بكثير من تحمُّل الحقيقة الوحشيَّة لهذا العالم. لو أنَّ أحدهم سأل الشاهد عن حقيقة الهولوكوست، فأجاب بالقول: “إنَّك لن تقوى على الحقيقة!”، فلا ينبغي فهم هذا الجواب بوصفه مجرَّد ادِّعاءٍ بأنَّ معظمنا غير قادرٍ على استيعاب هول الهولوكوست. فعلى مستوى أعمق، ليس أولئك الذين لم يتمكَّنوا من تحمُّل الحقيقة سوى المجرمين النازيِّين أنفسهم: هم من كانوا غير قادرين على تقبُّل حقيقة الأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي عصفَت بمجتمعهم في ثلاثينيَّات القرن المنصرم، ثمَّ أنَّهم، من أجل تجنُّب هذا الإدراك المزعج، انخرطوا في سلسلةٍ محمومةٍ من جرائم القتل الجماعيِّ التي استهدفَت اليهود، كأنَّ من شأن قتل اليهود أن يعيد على نحوٍ إعجازيٍّ ما تأسيسَ كيانٍ اجتماعيٍّ متجانس. وهُنا يكمن الدرس الختاميُّ لحكايات السفر من الخيال إلى الواقع: فنحن لا نهرب إلى الأوَّل كي نتفادى مواجهة الثاني فحسب، بل نهرب أيضاً إلى الواقع كي نتجنَّب الحقيقية الكارثيَّة بصدد عقم خيالنا وعبثيَّته.