جاء في كتاب “المفكرة” لخوسيه ساراماغو وتحت عنوان “كلمات من أجل المدينة”: “بالمصطلحات الفيزيائية نحن نسكن الفضاء، أما بالمصطلحات العاطفية فنحن مسكونون بالذاكرة”.
ربما كتاب “المفكرة” لساراماغو هو في بعض مقاصده ذاكرة من أجل المستقبل.
إن الأدب ها هنا كفّ عن أن يكون قصّ الحكايات والمرويات إنما إسكانها في العالم.
يجمع المؤرخون على أن أواخر القرن الثامن عشر الأوروبي شهد الفصل التام بين الأدب والفلسفة فإذا بنا مع مذكرات ساراماغو،”المفكرة”، إزاء تموضع للفلسفة ينحو بها باعتبارها حكمة في عالم يعمّه العماء.
يقول ديدرو: “كان الحكيم فيما مضى فيلسوفاً وشاعراً وموسيقياً، لقد انحطّتْ هذه المواهب بانفصالها بعضها عن بعض…”
ما انفكّ خوسيه ساراماغو في تشريحه للعالم الحديث كما عرضه في “المفكرة” يكرر عبارة ديدرو أعلاه دون أن يبثّها في الكتاب علانية. إنها العبارة المسكوت عنها والتي تتاخم مجمل السرد. فذاكرة المستقبل التي يجهد الكاتب البرتغالي في توطيدها تلازم بشدة هذا التصوّر الكلاسيكي لعلاقة الفلسفة بالأدب والتي تؤسس لما أسماه الإغريق Sophia.
فنحن مع ساراماغو هنا إزاء عبارة تعاود نبضها على وقع مقولة الحكمة بسائر تشعباتها وإن كان للحكمة الأرسطية في هذا المحل الدور الأبرز عبر قول هذا الأخير بالـ Phronesis.
يدعونا ساراماغو بلطائف العبارة تارة وفجاجتها تارة أخرى لاقتفاء أثر هذه الحكمة الأرسطية. فال Phronesis في القول السياسي الأرسطي تعني من ضمن ما تعنيه: التدبّر، إعمال النظر، وبشكل خاص،الإستبصار.
فالسياسي بحسب الفيلسوف اليوناني هو من يمتلك موهبة الـ Phronesis، وبإغراء تأويلي ما، هو ذلك الكائن الذي يجيد رسم المستقبل، أي أنه يجيد رسم ذاكرة يونفرسالية تترصد خير البشرية جمعاء.
لعلّ من المفيد الإشارة إلى أن مِنْ أبرز من تصدوا لقراءة هذه الكلمة الأرسطية العريقة الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت والتي قد توّغلتْ في ضجيج العبارة وسكونها عبر تاريخ الفكر السياسي لتسكنها أخيراً في أفق من المعنى تخطّتْ عبره حتى التعيين الأرسطي للمصطلح.
أبرز تجل للنشاط السياسي تقول أرندت في عديد مؤلفاتها هو أن يتحول هذا النشاط إلى نوع من الـ Art Performance. وهو ما تلقّفه ساراماغو “المفكرة” بعفو الخاطر منذ الصفحات الأولى للكتاب حتى سطوره الأخيرة وقد أخلص بلا هوادة لهذا المعنى للسياسة.
سوف يوهن المرء من عزيمة نفسه إذا ما حاول تقفّي أثر الحياة الشخصية لساراماغو في هذه المذكرات، في هذه “المفكرة”.
إن الروائي هو العالم، بهذا تنبئنا هذه المذكرات. فالأدب باعتباره فناً هو الواقعة السياسية الفضلى التي تتحلى بنعمة الـ Phronesis حيث ذاكرة الغد لا تني ترسم مآلات اليوتوبيا التي تعطي للسعي البشري كل المعنى. نعم، يجب على الروائي أن يكون هو العالم إذا ما أردنا لهذا العالم أن يكف عن “تفتّق درزاته الكثيرة” كما يقول صاحب رواية “حصار لشبونة”. فكل العالم محلّ حصار من قِبل أصحاب الأفق المحدود من سياسيين وقادة ورجال دين وصنّاع أسلحة ومصارف حيث الحروب هي بوصلة تمكّن هؤلاء من العالم…”عشت كل حياتي على أمل رؤية إضراب في مصنع للأسلحة، لكني انتظرتُ عبثاً. فهذا الأمر لم يحدث ولن يحدث”. هذا ما يدونه ساراماغو تحت عنوان “الأسلحة” في مفكرته التي أراد لها أن تكون بمثابة العين التي تحدّق بلا مواربة في العالم.
إن عالم القرن العشرين لا يكفّ عن الإحتفاء بأسباب احتضاره وكأني بإنسان هذا العالم “قد صار معتاداً على أن يُعامل بسوء” (المفكرة).
إن العلاقة أدبعالم كما صاغها ساراماغو عبر فصول مذكراتهمذكرات العالم ليست بالعلاقة التي تقوم على البُعد والإنفصال وهي أيضاً ليست بالعلاقة التي تماهي الأدب مع مجريات الأمور. فما لم يُذكر مباشرة في “مفكرة” ساراماغو هو أن الأدب، وبعيداً عن كل الأيديولوجيات، يجب أن يكون العالم في مسعاه للاستقرار للسكينة للإنصات إلى صوت الحكمة وبالتالي لأن يتولّى شؤونه من ينعمون بموهبة الـ Phronesis.
في مقال نُشر سنة 1926 لواحد ممن وجدوا بقوة في متون “المفكرة”، خورخي لويس بورخيس، يقول هذا الأخير: “إن الهدف من الأدب هو عرض أقدارنا”… ليتساءل ساراماغو بعد حين، من يريد لأقدارنا كبشر أن تكون على الدوام محلّ وبال؟ إنهم خصوم الأدب بإمتياز وفي البال صنّاع الحروب وتراكم الثروات وما شاكل من أشخاص كما يرى إلى الأمر خوسيه ساراماغو. فالأمر برمته يقوم على المعادلة التالية: كيف لنا كبشر أن نستخلص شكل العالم الذي نحب من النص، من الأدب، من تلك الكلمات التي تزهر بين دفتي الروايات؟
في الخطاب الذي ألقاه بتاريخ 12 كانون الأول 1998 عندما نال جائزة نوبل للأدب استذكر ساراماغو جدّه الأُمّي جيرونيمو ميلرينهو الذي شرع مع اقتراب أجله يعمد يومياً إلى احتضان الشجر الذي كان قد زرعه منذ سنوات طويلة في حديقة منزله. إن كلمات الأدب العالم هي مثل تلك الشجرات يقول ساراماغو، يجب علينا ألا نكفّ عن احتضانها حتى الرمق الأخير. فالأدب في هذا التناول هو القناع الذي يجب أن نلزم العالم به إلى أن يصير هو الوجه الحقيقي للعالم، “لكن الأدب هو أيضاً الأصبع الذي يشير إلى هذا القناع”، ولا بأس في هذا السياق ببعض التصرّف بما قاله مرة رولان بارت.
بالعودة إلى الإمكان اليونفرسالي للخير العام والذي يؤسّسه أصحاب الحكمة من الإغريق عبر الأسطورة بشكل خاص والذي يتردد صداه بهمس في “مفكرة” ساراماغو، فإن هرمس الإله والذي قام بخلق اللغة والكلام والذي هو الرسالة والرسول والمُرْسَل إليه في أن معاً يتجدد ملياً في مقاربة ساراماغو للأدب والعالم.
فالأدب هو مَنْ يرتّب أسباب بقائه في العالم عبر تلك العلاقة المماهاتية بين الكلمات والعالم، فهو عندئذ تماماً مثل الإله هرمس… إن الأدب هو الرسالة والرسول والمُرسل إليه. هو مَن ينطق ومَن تتداعى آذانه لسماع الصوت…هو من يعير التفات البشر إلى العالم لكنه أيضاً العالم الذي علينا كبشر الالتفات إليه.
حيث توجد نصوص توجد قواعد تتحكم بإنتاجها، فما هي القاعدة الكبرى التي خطّ هرمس طريقها وتلقّف ساراماغو عبر مفكرته كل تفاصيل تلك الطريق؟ إنها الذاكرة التي تعنى بالمستقبل: الذاكرة التي ترنو إلى الماضي القبيح بغية تجنّبه وتتملى أيضاً في الحاضر لفكّ شباك ضبابه، لكنها على الدوام الذاكرة الوفية التي تحدّق في المستقبل بجهدِ الحكيم الذي يتجنّب أن تخونه الأقدار.
إن ذاكرة “المفكرة” التي اكتست لبوس الأدب والفلسفة والشعر إلى حد كبير هي رمز التقاطعات وتداخل الآفاق وفي البال على الدوام أن هرمس وفضلاً عن كونه إله تلك الأمور التي قد أُشير إليها أعلاه هو أيضاً إله التقاطعات والانعطافات والطرق الطويلة التي عبورها يقوم على موهبة الـ Phronesis.
لقد أراد خوسيه ساراماغو لمفكرته أن لا تنتهي تماماً كطرقات هرمس الذي حضر كشبح بين ثنايا الكتاب، لذا نراه وتحت عنوان “الوداع” ينهي الكتاب بالعبارة التالية: “إذا ما شعرت بيوم أني بحاجة للتعليق أو التعبير أو الكلام فيمكنني طرق باب “المفكرة” … إنها المكان الذي آنس إليه بغية التعبير عن نفسي ووفقاً لرغباتي”.
إن ساراماغو في “المفكرة” هو الروائي الشاعر الفيلسوف السياسي الذي لم تتهيأ له تربة العالم بعد.