منذ بداية الانتفاضة الأولى بدأت تظهر ملامح مكثّفة من الفعل المقاوم المسلّح ضدّ الاحتلال مع نشوء منظمّات إسلاميّة جهاديّة، وتزامنت هذهِ الانطلاقة مع تفاوض، بناء وتثبيت أركان مشروع العجز السياسيّ، الذي انتهى بنا إلى اتفاقيّة أوسلو التي وقعت على أساس “السلام والحلّ النهائيّ للقضيّة الفلسطينيّة”. بالتالي، عند ولادة مشروع مقاوم مستجدّ داخل الأراضي المحتلّة، في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة تحديدًا، جاء ذلك مقترنا مع ولادة مشروع العجز؛ السلطة الفلسطينيّة.
أختارُ عمدًا عدم تسميتهِ في مشروع “العمالة” أو “الخيانة” لأننا جميعًا مدركين على بالفروقات بين السلطة الفلسطينيّة وبين سلطةٍ عميلة في مناطق أخرى تأسست بفعلِ الاحتلال ومن أجلهِ وهي تبرّر وجودها من خلاله. لنأخذ “سلطة لحد” في الجنوبِ اللبنانيّ مثالًا للمقارنة، هي احتفت وروّجت ودعت الاحتلال الإسرائيليّ إلى لبنان وتعمل علنًا وخفيةً على إدامتهِ، وساءت أحوالها مع إزالتهِ. أمّا مشروع “السلطة الفلسطينيّة” فهو يعمل علنًا على إزالةِ الاحتلال على الأقل عن الأراضي المحتلّة عام 1967، ويهدف إلى تثبيت وبناء مؤسسات فلسطينيّة ويطمح إلى استكمال مشروع بناء “الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتها في القدس الشرقيّة” وهو أيضًا ما وافقت عليهِ حماس وباقي الفصائل ضمن صيغةٍ توافقيّة وطنيّة. بالتالي، يتطلّب منّا ذلك جهدًا نظريًا لإعادة تأطير المشروع الذي تديره منظمّة التحرير الفلسطينيّة بقيادةِ حركة فتح، وهو في صلبهِ أنّ “الفلسطينيين هم عاجزين” ثمّ تصدير قدراتنا وإمكانياتنا إلى الآخرين، وهذا ما يميّز “السلطة الفلسطينيّة” كحالةٍ سوسيولوجيّة مغايرة عن طبيعةِ العملاء والمتعاونين مع الاحتلال على أساسِ مصلحةٍ فرديّة.
ما يميّز هذه العلاقة المستحدثة في مفهوم التعاون، تبّني مشروعًا سياسيًا متوافقًا مع مشروع الاحتلال ضمن الخطوط العريضة، الذي يسمح له في البقاء وإعادة إنتاج ذاتهِ. وهذا ما نستطيع اشتقاقهِ من التجربة السياسيّة للحزبِ الشيوعيّ عند الفلسطينيين الباقين داخل حدود الدولة الصهيونيّة حتى عام 1949. إذ أنني لا أطمح في هذا النصّ أن أقلّل من خطورة هذهِ الممارسات مقارنةً مع المتعاون الكلاسيكي، بل على العكس أودّ تبيان الخصوصيّة التاريخيّة لتعريف دور التعاون الفلسطينيّ السياسيّ مع الاحتلال والاستعمار ضدّ المقاومين، الذي يتمثّل الآن في مشروعٍ متكامل في الضفّة الغربيّة ويمتلك قاعدة اجتماعيّة وأيديولوجيّة واسعة عند الفلسطينيين حيثما تواجدوا بمؤسسات ومثقفين، يتمثّل في مقولةِ “العجز السياسيّ”.
مرحلة النشوء: التماثل مع مصلحة المستعمِر العليا
العاجز الفلسطينيّ يمتلك صوتًا ويمتلك مرونةً غير اعتياديّة في الممارسة السياسيّة، وفقًا للظروفِ والشروط تتغيّر أنشطتهم وقد نظنّ أحيانًا على أنّ موقفهم السياسيّ قد يحول إلى موقفٍ جذريًا ونضاليًا. هذا الجانب مهمّ في مفهمةِ سوسيولوجيا العجز الفلسطينيّ، ولكن ما يمكّننا من وصفهمِ بالعجز هو ثبات موقفهم من المشروع السياسيّ المتوافق مع إرادة ومصلحة السلطة الاستعماريّة على الأقل منذ حرب التطهير العرقي وبناء الدولة الصهيونيّة في عام 1948. حيثُ أن الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ باعتبارهِ حزبًا إسرائيليًا يهوديًا في البداية ثمّ انخراط قادة شيوعيين عرب بعدما سمحت لهم السلطات بالعودة وعدم ملاحقتهم، قاموا بدورٍ متعاون في أحيان ومناضلٍ في أحيان ولكنهم دائمًا ثابتين على المشروع السياسيّ، المتوافق مع الخطوط العريضة الصهيونيّة، وهو وجود دولةً يهوديّة على أرضِ فلسطين التاريخيّة.
قام المؤرخ عادل منّاع في تتبّع التناقضات داخل العقليّة الشيوعيّة في العقدِ الأول لنشوء الدولة، من خلال عدم انجراره وراء القوالب الأيديولوجية حول دور الشيوعيين السياسيّ خلال النكبة وما بعدها. بذلك نستطيع أن نعي المشروع السياسيّ للشيوعيين ونشاطهم في القرى والبلدات الفلسطينيّة إبان الحرب واشتداد المعارك في صيف عام 1948، وفي تلك الفترة، قام بعضهم مثلًا بتوزيع منشورات سياسيّة ضدّ الجيوش العربيّة إبان الحرب تحت ادعاء أنهمّ يقاتلون في سبيل الاستعمار والرجعيّة العربيّة، وبالتالي هدفهم نزع شرعيّة وجودهم في فلسطين بدورهم يساهمون تثبيت الاستعمار. اعتبر هذا الموقف أقرب إلى الخيانةِ على الأقل عند تنظيمات المقاتلين الفلسطينيين وعرب آنذاك، بل أصدرت قيادة فوزي القاوقجي إعلانات بخصوص ملاحقتهم على أساس تعاونهم مع المؤسسة الصهيونيّة [2]. مع العلم أنّهم فعليًا هم لم يقوموا بالتعاون مع الاحتلال بشكلٍ فعليّ بل شعارتهم هي ضدّ الاستعمار، ومع إقامة دولة فلسطينيّة بجانب الدولة اليهوديّة، وهنا المأزق الذي يجب أن نتوخاه متى نستطيع اعتبار مواقف وممارسة سياسيّة ضمن التعددية واختلاف الأراء وإتاحة النقاش بينَ الجماعة والأمة الواحدة، ومتى يصبح ذلك خيانةً، أو تعاونًا مع الاحتلال ضدّ الجماعة والأمة؟
قد تعيننا رسالة فارس حمدان وهو أهمّ المتعاونين مع الحكم العسكريّ المفروض على الفلسطينيين الباقين، إلى رئيس الحكومة الإسرائيليّ دافيد بن جوريون، في عامِ 1960، يشكو لهُ ما حدثَ لهُ خلال العامين الماضيين من استيلاء على أملاكهِ واستغلالهِ، وكيف أصبحَ على حافّة الإفلاس وهو “الصديق الوفيّ” للقيادة الصهيونيّة، ربما من المهمّ أن أذكر أنه استضاف الرئيس يتسحاق بن تسفي في باقة الغربيّة داخل قصرهِ، كما نظّم حفلة استقبال لرئيس الحكومة بن جورين عند افتتاح مركز صحّي في البلدة، وقام بعدّة خدمات خلال العقد الأول للدولة، وأهمّها مع حدوث مجزرة كفرقاسم قامَ بوساطةٍ مع الأهالي ليقبلوا بالصلحة والديّة وأن يخوضوا في المحاكم ضدّ مرتكبي الجريمة، ولا أعلم في حالِ طلب منهُ أحد ذلك ربّما بادر إلى ذلك طواعية، كما قرأت في أرشيف جريدة الاتحادّ [3].
لنعد إلى الرسالة، حدّث فيها بن جوريون الآتي؛ كيف انتهى بهِ الحال مفلسًا على أثر مشروع بناء مصنع عربيّ-يهوديّ؛ بدأ في شكاية تعامل المؤسسات وبعض الشخصيّات العينيّة مثلًا رئيس قسم الأراضي، خصوصًا بعدما “اضطروهُ” إلى بيعِ أرضهِ بعدما أنهى خدمتهِ كعضو كنيست لثماني سنوات، حيثُ أنه وافق على ذلك فقط لأنه “متفهّم لأهميّة قطعة الأرض بالنسبةِ للدولة” أترون كيف أنّ طبيعة العميل الكلاسيكيّ يهتمّ جدًا في مصلحةِ الدولة والسلطة دونما متماهيًا مع وجودها ومصالحها. خلال بعضِ المحادثات التي أجريتها يبدو أن الأرض هي تقع اليوم ضمن “مستوطنة عين شيمر” ولست أجزم بذلك، ثمّ يعترف أن المبلغ الذي دفع لهُ أقلّ بقليل مما تستحقّه هذهِ الأرض. ولكنهُ مع ذلك لم يستلم أية مبلغ، لأن جهات في وزارة التجارة والصناعة، اجتهدت لاقناعهِ أن يستثمر المبلغ المقدّر 300 ألف ليرة إسرائيليّة في بناء مشروع المصنع للمعلبّات في باقة الغربيّة وقد أصبح رئيس مجلس البلدة، وأوصت الجهات الوزاريّة أن يختار شريكًا لهُ، وهو جينتر جوتمان الذي اتهمهُ باستغلالهِ وإفشال المشروع عمدًا، واستكمل في البكائيّة كيف أنّ السلطات خدعتهُ وسرقت أمواله وتركتهُ مفلسا، موجهًا النداء إلى بن جوريون كي ينقذهُ من هذهِ الورطة، بالتأكيد لا يوجد أية معلومات حول دعمٍ أو تعويضات من السلطات.
نموذج فارس حمدان، نستطيع اعتبارهُ متعاونًا مع الاحتلال وفق الاعتبارات المتعارف عليها، حيثُ أنّ غايته الأساسيّة إيجاد فرص وشروط الحياة تحت السلطات الاستعماريّة على أساس مصالحها، والعمل بشكلٍ دائم على إثبات الولاء. وهذا ما لا يميّز طبيعة المتعاونين الجُدد لنسمِهم، وهم يبنون مشروعًا سياسيًا متوافقًا في الخطوطِ العريضة مع الاحتلال، وعادةً ما يركنون إلى “العجز” السياسيّ في تحقيق أيّة مشروع سياسيّ، كما من المهمّ ذكر على أن مشروع “روابط القرى” هو أقرب إلى نموذج فارس حمدان باعتبارها تتلائم مع سلطة الاحتلال وفقًا لمخططاتهِ ومصالحِ الحيويّة، بل أحيانًا العميل الكلاسيكيّ يبحث بنفسهِ عن هذهِ المصالح وفي حال ظهرت ثغرة في تخطيطهِ ينهض فرحًا لتحذيرهِ [3].
بالمقابل نضال الشيوعيين العمليّ ضدّ الحكم العسكريّ يجعلنا نرى التمايز بين النموذجين، علمًا أنّهم لم يكونوا وحيدين في قيادة النضال والموقف السياسيّ، بل أيضًا اليسار الصهيونيّ المتعارف عليهِ في حزب “مبام” ناضلَ أيضًا ضدّ الحكم العسكريّ وأقامَ أيضًا حلقات سياسيّة ونقاشات داخل القرى وتوزيع منشوراه، أما اليمين الليبرالي عارض الحكم العسكريّ رسميًا وفي الموقف فقط، وهو حزب “حيروت” بقيادة مناحيم بيجن. أنا لا أذكر هذهِ الحقائق للتقليل من نضالِ الشيوعيين وقيادة الفلسطينيين من أجل إلغاء الحكم العسكريّ، إنما لنذكر تطوّر تيّار صهيونيّ متوافق مع هذه الأهداف السياسيّة الهادفة لإلغاء الحكم العسكريّ [4].
وهذا خلافًا لمشروعِ “حركة الأرض” والقوميين العرب داخل إسرائيل التي انطلقت في خمسينيّات القرن الماضي، حيثُ أنهمّ يسعون بشكلٍ واضح إلى ما يناقض الخطوط العريضة الصهيونيّة من خلال التشديد على حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم المستقلّة وعودة اللاجئين ضمن الطموحات العليا للأمة العربيّة، مما يساهم عمليًا في تحدٍ للصهيونيّة ودولتها ووجودها وحدودها، وعلى هذا الأساس لم تعد “حركة الأرض” تتماثل مع السلطات الصهيونيّة بل على العكس استمرارها أصبحَ خطرًا حيويًا على الشرعيّة السياسيّة للمؤسسات الصهيونيّة واجتهدت الأخيرة في حظرها.
بالتأكيد لدى كلّ بنية حزبيّة “عاجزة” أمام المحتلّ، استثناء، مما يجعلها حالةً شديدة التعقيد ومتمايزة عن نمط المتعاون الكلاسيكيّ. على سبيل المثال بامكاننا أن ننظر إلى نموّ شعبيّة القائد الشيوعيّ الفلسطينيّ، توفيق زيّاد، وقيادة الفلسطينيين لنضالٍ في عام 1976 ضدّ قرارات السلطة بمصادرةِ حجم هائل من الأراضي بدفعةٍ واحدة، مما زادَ من حدّة التوتّر، ورغمًا عن جميع المتعاونين الكلاسيكيين الذين بدورهم يرضخون مباشرةً دونَ سؤال قادَ كرئيس بلديّة الناصرة نضالًا جماهيريًا ضدّ هذهِ القرارات بالتظاهرات والاشتباكات المستمرّة مع قوّات الشرطة، واستشهد على أثر ذلك ستة فلسطينيين. ولكن في الوقتِ ذاتهِ ساهمَ الرجل في صنعِ اتفاقيّات أوسلو ضمن دواعٍ أخرى، قد لا يرى العقل “العاجز” أي مشكلة في مثابرة توفيق زيّاد لصنعِ هذهِ الاتفاقيّات، لعدّة معايير باعتبار التفاوض هو ركن بالنسبةِ إلى مشروع العجز السياسيّ.
فما بالك إذًا حينما نذكر قائد منظّمة التحرير الفلسطينيّة لعقود، ياسر عرفات، ولا يوجد أحد ينكر قيادته لثورةٍ مسلّحة، وفي آخر عمرهِ قاد كتائب مقاومةً إبان الانتفاضة الثانية، وساهمَ وشجّع العمل المقاوم ومات شهيدًا في سبيل ذلك. السؤال هو ليس إن كان كافيًا ما قدّمه الرجل، بل على العكس، ولكن سؤالنا هو حول مشروعهِ السياسيّ، وحلّ الدولتين في ظلّ الضمانات الأمريكيّة واليسار الصهيونيّ، كما قادَ الشعب الفلسطينيّ إلى الاعتراف في إسرائيل ومستوطناتها على الأقل حتى عام 1967، وهذا قد يبدو عند الأحزاب “العاجزة” هو أمرٌ لا مفرّ منه من أجل التوافق مع توازن القوى الدوليّ ما بعد انهيار الكتلة السوفيتيّة، إلّا أنّ السير نحو هذهِ الاتفاقيّات في ظلّ توازن قوى ليس لصالحنا، هو الاعتراف بسلطةِ المحتلّ وقدرتهِ على هزيمتنا، إذًا ما الذي يدفعنا للجلوسِ معه، ماذا نحقّق ونحن نعترف لهُ بجبروتهِ؟
طموح العاجز: عن أولويّة المفاوضات
مشروع العجز السياسيّ وصلَ مداهُ في بنية السلطة الفلسطينيّة الراهنة، التي تعبّر عن عقليّة سياسيّة نستطيع أن نرصد بداياتها المادّية منذ هزيمة الفلسطينيين في جنوب لبنان وقرار ترحيل منظمّة التحرير الفلسطينيّة إلى تونس، حيث وقعت آثار الهزيمة بشدّة على المقاومين والحركات والفصائل، كما اعترافنا في الهزيمة لا يعني حتميّة الخيار نحو العجز السياسيّ، وتسليم جميع أوراقك ومصادر القوّة إلى الاحتلال والولايات المتّحدة، بل على العكس، الهزائم قد تولّد انتصارات والتي أصبحت فيها المنظمة تقتنص الفرص دون خطّة واستراتيجيّة تحرير وهذا ما برز خلال الانتفاضة الأولى واستثمارها بهدفِ الوصول إلى البيت الأبيض. وقد نعود في التاريخ إلى حرب أكتوبر واعتماد المنظمة برنامج 10 نقاط كحلٍ واقعيّ يضمن لهم المرونة بين الأطراف وموازين القوى، وما تلاها من اتفاقيّة كامب دايفيد، التي أصبحت نموذجًا للعاجزين، بما فيها من فرضيّات حول الهيمنة الأميركيّة، ضعف قدرات وامكانيّات العرب، والسلام هو الخيار الأمثل [5]. وهذا لا يعني أنّ المقاومة بدأت في الخفوت آنذاك، ولكن أصبحت تحت طموح سياسيّ قاصر وغير واقعيّ لتحرير أيّة قرية، فما بالك بناء دولة فلسطينيّة على مساحات الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، هل فعلًا ظنّ القادة الفلسطينيّون والعرب أن إسرائيل ستقبل بذلك؟
العاجزين أولويّتهم المفاوضات وليست المقاومة وهذا سبب هزائمها أو تهميشها المتكرّر. الثورة الجزائريّة التي أنهت الوجود الاستعماريّ الفرنسيّ، من خلال اتفاقيّات إيفيان في عام 1962، بعد مرورِ ثمانية أعوام، لم تكن طريقًا مفتوحة للمقاومين والمقاتلين والقيادة السياسيّة، بل هي ثمرة “مفاوضات” كثيرة أفشلها الثوّار بسببِ الحيل الفرنسيّة والاتفاقيّات التي حاولت تطبيقها ضدّ الجبهة التحرير الوطنيّة، وعزلها ووقف الحرب دون أيّة انجازات سياسيّة حقيقيّة، إذ سبقها “محادثات مولن” في عام 1960 التي حاول شارل ديغول تمرير “مشروع قسنطينة” وهو مشروع “تنموي إصلاحي” أطلقهُ في عام 1958 في خطابٍ إلى الشعب الجزائريّ من مدينة قسنطينة -التي اعتبرت القلب النابض للثورةِ بسببِ أهميّتها الدينيّة السياسيّة وحفاظها على القيم الجزائريّة العروبيّة الإسلاميّة والأفريقيّة-، وتخلّل مشروعه سياسات إصلاحيّة على الصعيد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، دون استقلال بل على العكس تثبيت تبعيّة الجزائر للجمهوريّة واعتبارها ولاية، ولكن هذا الكلام لم يقلهِ بصريحِ العبارة وقد مرّ أربعة أعوام على إعلان بيان الثورة الأول في عام 1954، ولكن الجبهة لم تتنازل عن السيادة الكاملة، واستكملت النضال سواء الشعبيّ من خلال تحشيد الشعب، الأعمال المسلّحة ضدّ الفرنسيين، وأيضًا استكملت العمل الدبلوماسيّ، وثمرة الصمود هو الوصول إلى اتفاقيّات تعبّر عن مطالب الشعب في التحرير، على عكس ما جرى مع منظمّة التحرير التي سلّمت جميع أوراقها إلى اتفاقيّة وصفها إدوارد سعيد بـ”اتفاقيّة فرساي” الفلسطينيّة.
عقليّة العاجز هي التي جعلت من المنظمّة تهرول نحو أيّة اتفاقيّة، ما إن عُرض على المنظمة محادثات واجتماعات سريّة سارَ البعض حافيًا طاولاتهم، حتى بانت ملامح الاتفاقيّة قبلت القيادة بحماسٍ شديد. هل تعلمون كيفَ تعاملت جبهة التحرير مع عروض ومشاريع التسوية الفرنسيّة، أولًا من خلال تدعيم القطيعة مع الدعاية الاستعماريّة وتثبيت الهياكل والمجالس الشعبيّة ورفضِ التسوية، ثمّ تهديد بإعدام كل شخصيّة تتعامل وتستجيب وتقبل في هذهِ العروض والمشاريع، كما أنها جنّدت كلّ طاقاتها الاعلاميّة والشعبيّة في إصدار وتوزيع المناشير وبناء الجمعيّات التي تساهم في تحصين الشعب معنويًا ونفسيًا فكريًا، منعًا لاختراقات المستعمِر الفرنسيّ واستمالتهِ من خلال المشاريع الوهميّة، وبالفعل ما ساهمَ في القضاء النهائيّ على هذا المشروع هو المظاهرات الكبرى للشعبِ الجزائريّ في ثلاثةِ أيّام على التوالي، 10- 12/ ديسمبر من عام 1960 واعتبر ذلك إعلان الشعب بأن الممثّل السياسيّ الشرعيّ للجزائر هو جبهة التحرير الوطنيّة.[6] في مشهدٍ معاكس، نجد أن منظمة التحرير الفلسطينيّة أسست مشروع العجز السياسيّ بشكلٍ متكامل على أنقاض الانتفاضة الأولى، وأقامت صرحًا واسعًا للعقليّة العاجزة، التي صادرت كلّ قوّتها السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ووافقت على الخطوط العريضة الصهيونيّة، وبدأت في مسيرةِ انتظارٍ تخللتها حالات مقاومة مثل هبّة النفق، وتلاها الانتفاضة الثانية ومشاركة كاملة لكتائب الأقصى المنبثقة عن حركة فتح، ولكن هذا لم يغيّر المسار السياسيّ، بل أصبحت جميع هذه التضحيات في سبيل ثباتِ بنية العجز، خصوصًا حينما وافق ياسر عرفات على تسليم محمود عبّاس رئاسة الوزراء في عامِ 2003 واعتبارهِ من ذلك اليوم الوريث الشرعيّ لمشروع العجز السياسيّ، بل الوريث المثاليّ.
يبدو من الواضح على أنّ منظمة التحرير منذ عهد محمود عبّاس استمرّت في ذاتِ النهج، بل وتشبثّت بهِ، ولكن هذا لا يمنعهُ أن يصرّح أحيانًا بأن “المقاومة الشعبيّة السلميّة الأسلوب الأمثل لمواصلة النضال وتحقيق الأهداف الوطنيّة في هذهِ المرحلة”. ولكنهُ يمنع كلّ تحرّك شعبيّ ضدّ قوّات الاحتلال والمستوطنين، بل ويعمل بشكلٍ دائم على اعتقال مناضلين وصحافيين، وفي أحيان اغتيال، إعاقة حركات شعبيّة، تنسيق أمنيّ، تفريق مظاهرات في المدن، هذا كلّه وهو داعم للمقاومة السلميّة. وفي الوقتِ نفسه، استمرّ بالهرولة نحو بيني جانتس عندما أصبح وزيرًا للدفاع، وعقد عدّة اجتماعات حول موضوعات التنسيق الأمنيّ وتسليم “الارهابيين” وخوفًا من فقدان السيطرة على “جنين”، هذهِ هي الملفّات التي تهمّ جانتس باعتباره وزيرًا للدفاع ورئيس هيئة الأركان سابقًا، فهو بعيد جدًا عن طرح حلّ الدولتين إذ يرى أن حدود إسرائيل مع الأردن في أية حلّ مستقبليّ كما يوهمنا العقل العاجز الفلسطينيّ، أما الأغوار يجب أن تبقى تحت سيادة إسرائيل وتكثيف الاستيطان، بالتالي ما هو شكل “الدولة” الفلسطينيّة التي ستكون محتجزة إسرائيليًا، فما هو دافع الحديث إذًا؟ لأن مشروع العجز السياسيّ، يرى في “التفاوض” غايةً وما زال محمود عبّاس متأملا أن يستكمل المفاوضات مع الجانب الإسرائيليّ منذ محادثات أنابوليس في عام 2007، وأصبحت المحادثات والاجتماعات مع المحتلّ طقوسًا سياسيّة يجب ممارستها، كونه مؤمنٌ بعجزهِ وعدم قدرتهِ على الفعل والمقاومة، ضمن مقولة ضمنيّة “لا أحد يستطيع أن ينقذنا من المحتلّ إلّا المحتلّ”، هذهِ هي الدوّامة التي يعيش فيها صاحب عقليّة العجز.
من أجل تفصيل ما نقصدهُ بمقولةِ العاجزون يصادرون قوّتهم بأنفسهم لصالحِ المستعمِر، كما حدثَ فعليًا خلال يوم الأرض في عام 1976 على سبيل المثال، حيثُ أصبحَ جميع الفلسطينيين الباقين في إسرائيل، كتلةً جماهيريّة واسعة تطالبُ بحقوقها وأراضيها المسلوبة، كيف أجهض ذلك؟ ولماذا لم تتحوّل هذهِ الحركة الجماهيريّة إلى منظمات وجمعيّات وأحزمة وطنيّة مستمرّة في العمل الوطنيّ والانتفاضيّ. بل على العكس أخذ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ على عاتقهِ تحويل هذهِ الحركة الجماهيريّة إلى قاعدةٍ حزبيّة أكبر، للاستثمار السياسيّ في الكنيست مع تأسيس “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساوة” في العامِ التالي، مقابل تأسيس مؤسسات عربيّة مثل “لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة في إسرائيل” وجميعها لم يكن لها دورًا جماهيريًا ومساهمًا في تنظيم الفلسطينيين، فلا أحد يدري بوجودها من الجماهير إلا القليل أو لا يدرون ما هو دورها. بالتالي العجز السياسيّ كعقليّة حزبيّة وظاهرة سوسيولوجيّة هي تعبّر عن التوافق السياسيّ الأدنى مع سلطة المستعمِر، مما يمنعها بإرادتها السياسيّة وتكوينها التنظيميّ تحدّي هيمنة الاستعمار.
وختامًا، حينما ننظرُ مؤخرًا اليوم في أحداث “طوفان الأقصى” عام 2023، وأيضًا في هبّة الكرامة عام “2021” نجد تسارعًا حقيقيًا في بناءِ قدرةِ وقوّة الفلسطينيّ واستثمارها ضدّ سلطات الاستعمار فقط. بالمقابل، جميعنا استمعنا إلى أصواتِ العاجزين في الأطر السياسيّة، مثل موقف الجبهة والحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ الذي حذّر من الانزلاق والاشتباك والمظاهرات الحاشدة ودعا الشباب بالمتهوّرين أو الزعران لأن بعضهم كسرَ سلّة القمامة مثلًا، بدلًا من المبادرة لقيادةِ الحدث والشباب والمتظاهرين، باعتبار الحزب الشيوعيّ وباقي الأحزاب تمتلك تنظيمًا صلبًا وقاعدة شعبيّة، حينما استكفىت القيادة بالبيانات السياسيّة والشجب واستنكار فعل الاحتلال الضرب والاعتقال وقتل الأهالي في غزّة، وإعلان عجزهم أمام الجميع، وكما بدأت السلطة الفلسطينيّة في تفريق المظاهرات وبيانات فصائل منظمة التحرير بعدم انتهاك حرمة المسجد الأقصى دون أيّة مشاركة سياسيّة حقيقيّة. نعي ماذا يحدث اليوم، حينما يخرج الرئيس محمود عبّاس في ظلّ إبادة غزّة يتحدّث عن ميزانيّة السلطة والضفّة والقطاع وملفات أخرى لا تقال في مثلِ هذهِ الظروف خصوصًا في حال كنت تظنّ نفسك “رئيس دولة فلسطين”. هذا ما جنتهُ علينا عقليّة العاجزين، وبرز ذلك بوضوح مع منع القيادة الفلسطينيّة داخل إسرائيل لتنظيم وقفة مغلقة بدعوة عشرة أشخاص فقط، في الناصرة.
مراجع: