أفق المقالة
الحرب الإبادية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة تحديدًا، والشعب الفلسطيني في العموم، حضرت في تسلسلٍ زمني وظرفيّ وسياقيّ، “ردًا” على العملية العسكرية التي أطلقتها فصائل المقاومة في غزة بقيادة حماس. ويطرح عادةً السؤال الآتي، هل في حال لم تقم حماس في هذه العملية، لما شهدنا هذه الإبادة الجارية الآن؟ وهو سؤال مهم على الأقل في المستوى الأخلاقي، هل كان بالإمكان اتخاذ مسار آخر مع الدولة الاستعمارية الاستيطانية، في منظوماتها ومحركاتها، مسار تفاوضيّ مثلًا، لإنهاء الحصار وعذابات الفلسطينيين، التي وصفت في أكبر “سجن مفتوح” على مستوى العالم، أو وصفت أحيانًا في “جهنم” على الأرض. بالتالي للإجابة علينا الانتقال من المستوى الأخلاقيّ والدينيّ، إلى سؤال السوسيولوجيا، التاريخ، السياسة، والمؤسسات. والحفر في طبيعة النظام الصهيوني وتعامله مع السكان الأصلانيين الفلسطينيين، واكتشاف نمط الفعل، وصناعة الحدث، الزمن والظرف والسياق. حيث تصبح جميع الأحداث، باعتبارها أجزاء وقطع مبعثرة يتم تركيبها، وخلق السردية الصهيونية، التي تركز على ثيمة “الضحية”. لنبدأ القصة من البداية، حرب النكبة، باعتبارها التأسيس للإبادة، كيف يتم تفعيل السردية، الزمن، الانتظار والاستعداد حتى تحين الجولة القادمة، التي تستحيل إلى الفرصة السانحة، لممارسةِ طردٍ آخر من تهجير قرية، تدمير مدينة، وترحيل قسري. سؤالي الذي أطرحه كيف نقوم في استدخال عامل الزمن، ضمن منطق الإزالة (Logic of Elimination)، الإبادة والطرد؟
النكبة، النكبة المستمرة، والعودة
النظرية المعرفية الفلسطينية، تأسست جنبًا إلى جنب مع ولادة التجربة الفلسطينية المستجدة ما بعد النكبة، من حيثُ التنظيم السياسي، المشروع، والمجتمع. نستطيع اعتبار النكبة في البدء حدثًا فتح تشققًا في التجربة والاحتكاك الفلسطيني والعربي عمومًا مع العالم، لم تعد الصهيونية مجرّد مفردة تستخدم في الخصامات السياسية الداخلية، بينَ تنظيمات العشائر/ الأحزاب مثل الحسيني والنشاشيبي، بل أصبحت فعلًا واسعًا عنيفًا، يجسّد أهوال نهاية واقع وولادة الجديد، الدولة، أو من الممكن استخدام الثورة في هذا الصدد، باعتبار قيام الدولة الإسرائيلية، في المخيلة الصهيونية “نجاح ثورة” ضد البريطانيين، وأيضا ضد العرب وهم أعداء اليهود الجدد. وصف رائف زريق تحديدًا بأن هذا الحدث، لم يعبّر عن النهاية، أو اكتمال المسار الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، بل هو بداية جديدة، فمنذ عام 1948، وإعلان “استقلال” الدولة اليهودية، الخطوة الأولى التأسيسية، فقط في مسارها العنيف، نستطيع اعتبارها هي بداية تكوين المفاعيل، الآليات، القدرات، التي تستهدف وتدمّر الوجود الأصلاني، وتقوم في إنشاء المستوطنة، الكيبوتس، استيعاب المهاجرين المستوطنين، المساحات الانتقالية، التعليم العبري، التدريبات العسكرية [1].
الصهيونية ساهمت في صناعة سردية، امتلاك سيرورة الحدث، باعتبارها النقطة التي فيها رفض العرب، القبول في حق اليهود السيادي والسياسي في دولة على أرض فلسطين، ومن المهم التمييز بين الرفض الحقيقي الواقعي العربي، النابع من ضرورات وتبريرات سياسية، تاريخية، وقانونية. وبين الرفض العربي في المخيلة اليهودية الصهيونية، الذي يمثل العرب، باعتبارهم “القطيع، الهمج، البرابرة”، الرفض في هذا السياق، هو يعبر عن تمثيلات استشراقية حول العرب والمسلمين، كما أن العامل الزمني هو مهم في صناعة الصور الاستشراقية، بسبب كونها ثابتة وجامدة ولا تتفاعل مع التاريخ والأحداث، صورة “العربي العنيف والإرهاب” هي ثابتة وجامدة التي تتيح فكرة الانتظار حتى الجولة القادمة، والاستعداد، وإعادة إنتاج دوائر العنف. إذ أن حرب “الاستقلال” تم صناعتها ما قبل الحدث، في الأحاديث، في الخطط العسكرية إذ أن “خطة داليت” (الخطة د) التي تبنتها المنظمات الصهيونية المدنية والعسكرية، وتطبيقها بهدف طرد وإبادة الفلسطينيين، هي تعبر عن اكتمال السلسلة بدءًا من “خطة أفنير” في عام 1937، حينما اقترح ديفيد بن جوريون، على أليميلخ أفنير، في تحضير خطة حكم عسكري استعدادًا من أجل الانسحاب البريطاني من فلسطين، وفرض السيطرة الصهيونية على أثر حرب تندلع، كما أن الخطة ذاتها اعتبرت الأساس لإنشاء الحكم العسكري إبان النكبة عام 1948، الذي استمر حتى عام 1966، بحيث أن نُظم الحكم العسكري هي الوسيلة والدوائر والأجهزة والأفراد، التي تجتهد في إعادة إنتاج العنف التأسيسي عام 1948 وظروفه وشروطه [2]. وتبع ذلك “خطة أ”، “خطة ب”، “خطة ج” حتى وصلنا إلى عصارة جميعها، المضامين، الهيكلية، الاستعدادات التوقعات، والصور الاستشراقية جميعها شكلت التطبيق النهائي. وهذا ما يهمنا في التأكيد على أن المشروع الصهيوني في تفاعله مع الواقع، والأصلانيين، وفكرة الحرب ذاتها، انتظار قدومها، حتميتها، وأبديتها في آن.
النكبة المستمرة، ما هي إذا، هي التجسيد العمليّ للتصورات والمخيال الزمني الصهيوني. لنعد قليلًا إلى نظريات الاستعمار، الامبريالية، حركات التحرر الوطني، وما بعد الاستعمار كي نستطيع فهم ما هو المقصود في ذلك من ناحية التنظير حول الزمن/ البنية. استطاع مهدي عامل، بنظرات فلسفية ثاقبة، تقديم وتأطير علاقة الزمن/ البنية في ثورات التحرر الوطني، ومفهمة الثورة من خلال ثلاثة أزمنة (زمن التكون- زمن التطور- زمن القطع)، هذا التقسيم يعيننا أيضًا في مفهمة بنية الدولة الصهيونية، زمان تكوّنها إبان النكبة وإعلان استقلالها، كما أن تطورها ما نشهده حتى اليوم، إذ أن إعادة إنتاج العنف الصهيوني، ما نسميه “النكبة المستمرة” هو زمان تطور الصهيونية، واستمرارها، وتطوير وسائل تطبيق وتشغيل العنف في جميع المجالات، سواء الرمزي، الإبادة، الثقافي، الطرد والإزاحة [3]. البنية في ارتباطها مع الزمن، هي مهمة لتفسير نمط الفعل الصهيوني، حيثُ تتأسس على فرط من إنتاج السرديات، الصور، والخطابات أن الشخصية العربية الفلسطينية، هي عدوّ أبدي، وبانتظار “الجولة الثانية”، التي فيها سيتم تحقيق ما لم يتم تحققه بعد، مثل طرد سكان، احتلال أراضي جديدة، بناء مستوطنات، سلب موارد، والخ. وبالتالي زمن القطع، هو زمن نهاية البنية، ما نستطيع تسميته في زمن العودة، حينما تتهاوى الدولة، النظام، البنية الصهيونية، على أثر عودة الفلسطينيين، إذ أن الهدف الأكثر أساسي منذ النكبة، هو منع عودة اللاجئين الفلسطينيين.
آشيل مبيمبي أشارَ أيضًا إلى تقسيم زمني/ بنيويّ من القبيل ذاتهِ، خلال تنظيره حول الحالة “ما بعد استعمارية” في أفريقيا. لاحظ أن ولادة الدولة الاستعمارية للدقة السيادة الاستعمارية، ضمن التركيز على مراحل تفعيل العنف، ما يسميه أولا “العنف التأسيسي” يفجر بالتالي بنية سياسية، شبكة علاقات، أنساق مفاهيمية معرفية جديدة التي تستهدف الوجود الأصلاني على الصعيد الفيزيائي الاجتماعي، أو الرمزي الثقافي. في مقاربتنا الفلسطينية يتماهى ذلك مع النكبة، والحرب التطهيرية العرقية ضد الشعب الفلسطيني، والتحدي في هذا الصدد بالنسبة للمشروع الصهيونيّ هو استدامة العنف، إعادة إنتاجهِ عبر سلطة دائمة، وهنا يرى مبيمبي أن القانون والتشريع هو أهم ما يميز المرحلة التالية من العنف، لذلك إنشاء الحكم العسكري على أساس قوانين الطوارئ البريطانية (1945) يعبّر عن البنية القانونية/ العسكرية التي تسيطر وتنتج اضطهاد، قمع وسلب متواصل للفلسطينيين الباقين في إسرائيل، ولكن أيضا الحكم العسكري موجّه ضد الفلسطينيين اللاجئين، من خلال عنف حدودي يفرض الحظر لعودتهم، زيارة الأقرباء والأهالي، حصاد أراضيهم والخ. العنف في المرحلة الثالثة، هو النوع غير المرئي، اليومي، الاعتياديّ عبر اللغة، الثقافة، الحركة، العمل، الصحة، الطقوس، والأرض، أي ضمان انتشار السيادة، تطبيق متواصل للأحكام العسكري والقوانين المفروضة والسياسات، أي تتم شرعية العنف، وهذا بالتأكيد ما زال خاضع لمقاومة شديدة من الفلسطينيين. كشف مبيمبي عن مزايا وسمات العنف في الدولة والسيادة الاستعمارية، تبعًا لذلك النكبة هي تعتبر المشهد/ الحدث التأسيسيّ، المرحلة الأولى للعنف الصهيوني، وهي تمهيد للمراحل التالية، ضمن مسار متكامل للمراحل كما أطرها مبيمبي. بالمقابل، نظرية عامل تقوم على تصور النكبة، باعتبارها زمن التكوّن، للبنية فقط. إذا، الأساس النظري الذي نعرضهُ يفتح لنا أفقًا في تحليل النمط الصهيوني الزمنيّ، في مبرّر وجوده “raison d'etre”، إزالة، محو، تطهير الفلسطينيين الأصلانيين [4].
جولة ثانية، احتلال، ومجزرة
مقولة الاستعداد للجولة التالية (اللفظ العبري: Sivuv Haba) هي جزء في تكوين العقل الصهيوني العسكري، من بعد عقد اتفاقيات الهدنة، وساهمت في تطوير آليات واستراتيجيات عسكرية هجومية، الاستعداد واقتناص فرص بشكلٍ دائم للدخول إلى الحرب مع “العدو العربيّ”، ليس فقط بهدف لردع الدول العربية، أو اعتبارات أمنية متعلقة في التحولات الجارية في العالم العربيّ آنذاك، بل تتعلق رسم استراتيجيات ضد العرب الفلسطينيين الباقين في إسرائيل، وانتظار موعد الطرد الجماعيّ القادم [5].
إذ أننا ندرك راهنًا أن شخصيات قيادية في المشروع الصهيونيّ، لم تقبل في الوجود عرب فلسطينيين، وعلى هذا الأساس، تم وضع سياسات، بناء خطط وعمليات محددة، للتحضير من أجل طردهم، ومحو فيزيائي لوجودهم، حيثُ أن اكتساب المواطنة، من عام 1948- 1950 لم يمنع سياسات وتهجير الفلسطينيين، بل ساهم في تنظيمها وضبطها واعتبر غطاءًا ليبراليًا لإعادة إنتاج النكبة، وضمان استمرارها، وأوضح إيلان بابيه أن العمليات التطهيرية الواسعة استمرت حتى عام 1953، كما أن سياسة التهجير بذاتها انتهت عمليًا ما بعد مجزرة كفرقاسم، ولفت إلى ذلك بشكل مفصل عادل مناع، وأيضًا يائير بويمل [6].
المادة التاريخية في هذا السياق توضح لنا، كيف يتشكل العقل الصهيوني، التفكير في وضع سياسات على أساس الزمن/ البنية، التطوير والتثبيت والتقنين كما نظّر كل من مبيمبي وعامل أعلاه. مع اقتراب عام 1956، وإعلان قرار تأميم قناة السويس اعتبرت فرصةً سانحة، وشاركت إسرائيل في العدوان على مصر، ولكن في الوقت ذاته انتظرت مشاركة الأردن حتى تستقيم الخطة، وأعلنت عن “حظر تجوال” وأيضًا خطة “حفرفرت” المعدة مسبقًا لطردِ الأهالي في منطقة المثلث تحديدًا (بالمقابل أبان المؤرخ آدم راز بأن الخطة هي أكبر وأكثر سعة في الأصل مرتبطة فيما يسمى “الكتاب الأزرق للحكم العسكريّ” والاستعداد لطرد جميع الفلسطينيين داخل إسرائيل) [7]. انتظار فرصة سانحة، هي ليست متعلقة في “الصدفة التاريخية” بل صناعة الحدث باستمرار وتطوير المفاهيم، القدرات والامكانيات، وبالتالي خلق الظروف والأجواء الهجومية، تحت الهدف الأساسي، استكمال احتلال أرض فلسطين الانتدابية، بعدما فشلت بذلك عام 1948، ولكن مع ذلك أصبح هذا الهدف استراتيجي في “الجولة الثانية”، ومن المهم التذكير الاحتلال والسيطرة على الأرض ليس هدفًا لوحده، بل طرد/ إزالة السكان الأصلانيين، وإحلال مجموعات مهاجرة استيطانية [8].
لن نتمكن من سبر أغوار الصهيونية وعملها وديناميكيتها دونما تأطير واستيعاب البنية/ الزمن في العقل الصهيوني الذي يضع ويتبنى سياسات واستراتيجيات. تلا العدوان على مصر عام 1956 إقامة حكم عسكري مباشرةً في غزة، كما أن عدم مشاركة الأردن في الحرب أعاقت خطة الطرد، والتهجير واحتجاز فلسطينيّي المثلث عبر التخويف والترويع، وإخراجهم من أرضهم، من خلال إحداث فوضى وسيناريوهات أقرب إلى ما حدث خلال النكبة وقلق فصاميّ المتمثل في مجزرة “دير ياسين”.
خلال مقابلتي مع الجد رسمي أبو مخ في باقة الغربية (ضمن مبادرة حفظ تاريخ الحكم العسكري)، أخبرني أنه التقى في تلك الأيام العصيبة وهو شابّ في مقتبل عمره، بفارس حمدان وهو شخصية مهمة آنذاك من حيث علاقاته مع السلطة وعضويته في الكنيست ثم رئاسة المجلس المحلي في باقة في الأعوام التالية، وقال له حمدان بشكل يبدو عليه القلق والخوف أن إسرائيل تخطط الآن لطرد جميع فلسطينيّي المثلث. وأضاف أن فارس حمدان أخذ على عاتقهِ بأن يبعث لجميع كبار العائلات أن لا يتحرك أحد من بيته خوفًا من المجزرة، وعدم تركها، وإفشال الخطة [9]. فشل المجزرة، التهجير واستكمال احتلال أرض فلسطين التاريخية، مرتبط أيضًا في صمود المقاومة المصرية ضد العدوان الثلاثيّ، الخطاب الوطني، ولفت إميل حبيبي في مقالة نشرت على جريدة الاتحادّ (11 كانون الأول، 1956) أن سياسة المجزرة تحطمت على أبواب بور سعيد أعتبره مقالًا تاريخيًا كونه ربط بين الأحداث وأدرك شبكة العلاقات الاستعمارية، التي تغذي بعضها بعضًا في العالم العربيّ [10]. القوى الاستعمارية العالمية، ومصالحها تداخلت مع القوى الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين، في جانبين، الأول هو الهدف العينيّ القضاء على الجمهورية المصرية بقيادة جمال عبد الناصر/ استعادة السويس، وهذا مرتبط في مصلحةٍ جيوسياسية للدولة الناشئة إسرائيل، الجانب الثاني لتداخل المصالح هو تطويع الحرب الإقليمية واستثمارها في استكمال مشروع تطهير فلسطين عرقيًا، إبادة سكان، حكم عسكري، اضطهاد قومي والخ.
تكرّر ذلك أيضًا، في التحضير والاستعداد للعدوان التالي، عام 1967. ما يميز المشروع الصهيوني، كونهُ يؤسس لتنظير العدوان والهجوم والتوسع، باعتباره دفاعًا عن النفس وهذا ما يجعل علاقة البنية/ الزمن هي أساسية في فهم المشروع، والعقيدة العسكرية، والأمن، وتشكل عقيدة “الهجوم الوقائي” تحويل العدوان في هذا الصدد إلى آلية دفاعية، مبررة، ومتماسكة. بالتالي احتلال الأراضي العربية عام 1967 والقيام في مرةً أخرى في أعمال وممارسات تطهيرية، بوتيرة أقل مما حدث عام 1948 [11].
استنتاجات من غزّة وإليها
الإبادة الجارية في غزة، تجسدت في الواقع بالمبررات الوجودية ذاتها، المتعلقة في البنية/ الزمن وإعادة إنتاجها وتثبيتها واستمرارها. إنتاج الحدث الصهيوني، المتمثل في فعل الإبادة، هو حدث متواصل بنيويًا/ زمنيًا، أما لحظات تكثيف الفعل الإبادي هي تتعلق في السياقات والظروف كما أشرنا. الإنكار الصهيوني للإبادة والتركيز فقط على حدث “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، هو يعبّر عن محاولة إخفاء وتهميش البنية/ الزمن للاستعمار الاستيطاني، وصناعة سردية ليبرالية قومية حول حق الدفاع عن النفس. في الوقت نفسه من المهم التفكير في طرق ومسارات صناعة حدث الإبادة، تنحو الدولة ومؤسساتها إلى عزل وقطع الحدث عن سياقاته، بالتالى دورنا هو ربط وتجسير العلاقات وظروف نشأة الحدث.
تأطيرنا للمشروع الصهيوني، بأنه يعتمد على مقولة “الجولة القادمة” بشكل متأصل، الانتظار والاستعداد في علاقة البنية/ الزمن هو يدفع بتنفيذ الأهداف الاستعمارية الاستيطانية، ومن ناحية الخطاب وإنتاجه وانتشاره، وتأثيره على صنّاع القرار الحاليين، “إعادة النكبة”، التلويح في نكبة قادمة، تهديد الفلسطينيين في نكبةٍ جديدة، وليس فقط إزاء الأراضي المحتلة عام 1967، الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبار هذه المناطق خاضعة للاستهداف العسكري المباشر والمتواصل والدائم وما قبل كثافة العنف التي تفجرت في السابع من أكتوبر، بل تم توجيه هذا الخطاب أيضًا تجاه الفلسطينيين “المواطنين في إسرائيل”، لندقق في المفردات المستخدمة “تذكروا عام 1948، تذكروا حرب استقلالنا – ونكبتكم. اسألوا شيوخكم وأجدادكم، وسيشرحون لكم أن اليهود في النهاية يستيقظون ويعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم وعن فكرة الدولة اليهودية” [12]. هذا التهديد، بمضمون وتأطير تاريخيّ حول فكرة الدفاع ضمان تثبيت وتدعيم المشروع الاستعماري الاستيطاني، قالهِ يسرائيل كاتس عضو كنيست ووزير ويعتبر شخصية قيادية في حزب الليكود، كما نستطيع اعتباره نخبة المؤسسة الصهيونية وداخل دوائر كثيرة في صناعة القرار، أوضح بذلك بأن هذه الكلمات لا تخرج عبثًا من فاهِ شخصية مثيلة. وجّه كلماته إلى الطلبة الفلسطينيين في جامعة تل أبيب عند رفع أعلام فلسطين، مما اعتبرت تجاوزًا وخطًا أحمر، وهدد بذلك جميع الفلسطينيين.
سؤالنا في هذا السياق، هو التفكير في كيفية تطوير الصهيونية لممارستها بناءً على الظروف المتاحة، ولكن أيضًا علينا الانتباه إلى عامل مهم وهو متعلق بأن الصهيونية تخلق وتؤسس لمواجهتها مع الشعب الفلسطينيّ والعرب في العموم، هي تقوم في العدوان وتساهم في تغذية الصراع بشكلٍ أساسي، كما حصل في جميع مراحل العدوان على قطاع غزة التي تمت عبر سياسة “جز العشب”، التي تهدف من خلال الحملات العسكرية، إلى إبقاء قطاع غزة “مجال استهداف” وتدمير بنية تحتية اجتماعية واقتصادية، حيث أن هدف العدوان المتواصل على الشعب إعادة إنتاج النكبة وظروفها وشروطها بشكلٍ فعلي والدفع نحو التهجير، الطرد، والتطهير العرقي للفلسطينيين في قطاع غزة، وعند إدراك أنه “معسكر اعتقالات”، و”سجن مفتوح” تم تشكيله تاريخيًا مع النكبة، وهنا نجد أصل العلاقة ما بين المقاومة، مخيمات اللاجئين، و”احتمالية النكبة”. وتمثلت مؤخرًا عبر مقولة “الترانسفير الطوعي” التي أصبحت خطابًا سياسيًا مهيمنًا على مستوى الحكومة، تصعيد في مجال اللغة والمفردات بهدف تنفيذ التطهير الكامل. ومن المهم رسم الصورة التاريخية منذ خطة “فك الارتباط” عند اعتماد المستعمِر أدوات حصار ومراقبة لاحتلال قطاع غزة والسيطرة عليه، بدلًا من الحكم العسكري في عام 2005، ولفت كل من أحمد مأمون وزهراء شبانة في دراستهما على أن المشروع الاستعماري الاستيطاني، مستمر في تطبيق تدريجي لتهجير الفلسطينيين في قطاع غزة، قبل السابع من أكتوبر [13]. تبعًا لذلك، نستنتج أن المشروع الصهيونيّ هو صاغ السياق والظروف والشروط التي تعيد إنتاج الحرب، هادفًا إلى التطوير وتثبيت المشروع الاستعماريّ الاستيطاني.
مراجع
[1] رائف زريق. هل وصلت العجلة إلى دائرة مكتملة؟ مناقشات الخدمة المدنية في إسرائيل. داخل: المأزق الليبرالي الجمهوري في إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة. 2019، 177-206. الرابط هنا (بالأنجليزية)
[2] أريه ديان. الحكم العسكري – أهدافه والمعارضة السياسية لتأسيسه. رسالة دكتوراة جامعة حيفا. 2021. ص8-9 (بالعبرية)
[3] مهدي عامل. مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني العربي. دار الفارابي، الطبعة السابعة. 1990
[4] أشيل مبيمبي. في مرحلة ما بعد الاستعمار. دار نشر جامعة كاليفورنا. 2001 (بالأنجليزية)
[5] على سبيل المثال: جلسة للحكومة 12 يوليو 1950. القدس. بروتوكول متواجد في “أرشيف الدولة”. (بالعبرية)
[6] أنظر إلى: عادل مناع. نكبة وبقاء- حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل. 2016. ص247- 288 وإيلان بابيه. التطهير العرقي لفلسطين. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ترجمة أحمد خليفة 2007. نشرت النسخة بالأنجليزية عام 2006. أنظر إلى الفصل التاسع “الاحتلال ووجهه القبيح”. ومقالة: يائير بويمل. إخضاع الاقتصاد العربي لصالح القطاع اليهودي في إسرائيل 1958-1967. مجلة “هامزراح حداش” الشرق الجديد. 2009. (بالعبرية)
[7] أدم راز. مجزرة كفرقاسم – السيرة السياسيّة. مكتبة كلّ شيء، حيفا، ترجمة عن العبريّة نوّاف عثامنة. 2019.
[8] أنظر إلى: فايز الصايغ. الاستعمار الصهيوني في فلسطين، مطبوعات أفريقيّة آسيويّة (22). مركز البحوث بمنظمّة التحرير الفلسطينيّة. 1965، 28- 39
[9] مقابلة أجراها الكاتب مع الجد رسمي محمود أبو مخ. 31 أذار 2024.
[10] إميل حبيبي. “سياسة مجزرة كفرقاسم تحطمت على أبواب بورسعيد”. 11 كانون الأول 1956، عدد 64/ سنة 13. جريدة الاتحاد.
[11] محمد قعدان. جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ – (2) مجريات الحرب وتمثّلات بنية التوسع. نشرت على منصة إطار. 16 أيار 2023. الرابط هنا
[12] ميرون رفوفورط وأمير فاخوري. “ولم يعد اليمين ينكر أو يبرر النكبة. وعدَ بتكرارها”. تقرير على موقع سيحا ميكوميت. 12 حزيران 2022. الرابط هنا (باللغة العبرية)
[13] أحمد مأمون وزهراء شبانه. الاستعمار الاستيطاني وولادة السجناء الجدد: الهجرة في قطاع غزة 2007 – 2022. المستقبل العربي، العدد 539 كانون الثاني/ يناير 2024