يتكرّر إنزالنا إلى المحكمة، ويتكرر تأجيل الجلسات. كان الأمر في الواقع مقلقاً، غير أنه كان من جهة أخرى فرصة للقاء الأهالي والعديد من المحامين الذين تطوّعوا للدفاع عنا، ولا سيما أكثرهم توكيلاً ومواظبة على حضور الجلسات: سامي ضاحي، منير العبدالله، خليل معتوق، أنور البني.
في إحدى الجلسات اقترب المحامي منير العبدالله من القفص وسأل:
– من منكم فرج بيرقدار؟
وما إن رفعت له يدي حتى تدفّقت كلماته وحركات يديه:
– وصلتني مرافعتك التي لم أقرأ طوال حياتي ما هو أجمل وأجرأ منها. أحييك من كل قلبي. طبعت منها مئات النسخ ونفدت، وسأعيد طباعتها قدر استطاعتي. إذاعات كثيرة تتناقل المرافعة هذه الأيام. الدكتور حسان عباس يبلغك تحياته الحارة.
الراديوهات متوفرة في سجن صيدنايا، وقد سمعنا المرافعة في عدد من الإذاعات، غير أن إحداها كانت تبثها يومياً بصوت جهوري لمذيع شديد الحماس، فخفت وتخوَّف البعض من أن لا تمر الأمور بدون عقوبة أو انتقام، لذلك قرر الرفاق اتخاذ بعض الإجراءات تحسباً لاحتمال نقلي إلى أحد فروع المخابرات، أو إعادتي إلى سجن تدمر، وقطع زياراتي وبالتالي الأقلام والأوراق، فجهّزوا لي حقيبة فيها بعض الثياب والمستلزمات إضافة لكمية من النقود، على أن أحملها معي عند أي نقل لي من الجناح.
* * *
سجناء صيدنايا معتادون أن تأتيهم كل عام لجنة أمنية، فتلتقي ببعضهم، ربما لتستقرئ مدى تماسكهم، ومدى تأثير سنوات السجن عليهم أو مدى استعدادهم للمساومة أو التنازل أو الحوار أو غير ذلك مما هو في حسابات السلطة وأجهزتها الأمنية.
تتكون اللجنة غالباً من جنرالات أبرزهم حسن خليل وهشام أختيار وجلال الحايك.
هذه المرة كان أخي إبراهيم أحد من قابلتهم اللجنة، فعاد ممتلئاً غمّاً وقهراً من الشتائم الشخصية التي استقبله بها اللواء حسن خليل، ثم توديعه بشتيمة أو قذيفة سياسية مفادها أن جميع أعضاء حزب العمل الشيوعي عملاء لإسرائيل.
كنت أعتبر نفسي محظوظاً في عدم التقائي باللجنة طوال سنوات اعتقالي، إلا أني تمنيت حينها لو تدعوني اللجنة لمقابلتها.
كأن مدير انضباط السجن كان يقرأ أفكاري، إذ لم يتأخر مجيئه، ليقف على باب الجناح ويطلبني. ذهبت إليه فأبلغني أن أجهِّز نفسي لمقابلة مهمّة. أجبته على الفور أني جاهز.
– جهِّز نفسك، يعني البس أفضل ثياب عندك.
= ليس عندي غير البيجاما التي أرتديها.
– شوف حدا من رفقاتك خلّيه يعيرك ثيابه.
= من أراد أن يقابلني وأنا كما تراني فلا بأس، وإلا فإني لا أريد أن أقابل أحداً.
– عمري ما شفت سجين بيجاقر متلك، وأنا ما بعرف شو اللي بيخلّيني طوِّل بالي عليك.
انسحب غاضباً وهو يبربر بكلمات غير مفهومة.
كان الوقت عصراً، وكانت مظاهر استنفار العساكر آخذة بالتلاشي، ما يعني أن اللجنة غادرت والدوام الرسمي انتهى.
لم يتأخر مدير انضباط السجن كثيراً، فقد عاد بملامح حيادية ليفتح باب الجناح ويشير لي بأن أخرج.
في الطريق سألته:
= اللقاء مع اللجنة ما هيك؟
– هيك وما هيك.
= كيف يعني؟
– هلَّق بمكتب مدير السجن بتشوف.
أوقفني جانباً وتحدث إلى أحد ما، ثم قال لي:
– تفضّل فوت.
لم يكن في المكتب سوى مدير السجن والعميد جلال الحايك.
أنا أعرف جلال مذ كنا في المرحلة الثانوية وبدايات الجامعة. كان بيننا الكثير من المشتركات في الشعر والمسرح والأصدقاء، ثم باعدتنا الحياة إلى حد أني صرت في أقصى المعارضة السياسية، وصار هو ضابطاً في شعبة المخابرات العسكرية، ولم نلتق بعدها أبداً.
نهض جلال وتقدم نحوي بابتسامته المعهودة، ثم صافحني بنوع من الحميمية، ودعاني للجلوس.
– طلبتكَ يا فرج لأني مشتاق لك، ولأني أيضاً أحمل لك سلامات من شباب الشلة إياها، وأخيراً لأقول لك أني أستغرب وصولك إلى ما أنت فيه.
= أمّا أنا يا جلال، فلا أستغرب أبداً وصولك إلى ما أنت فيه.
– لستُ الآن بصدد لومك على ما مضى، بل على بقائك في السجن رغم أن المفتاح بيدك، وتستطيع متى شئت، أن تفتح الباب وتخرج، لتعطي الحياة ما يليق بها، وتعطيكَ الحياة ما يليق بك.
= أعرف جيداً أثمان وضرائب ما تقول، وأرى أن السجن أقل وطأة.
– لا ضرائب ولا أثمان، بل هي حقوقك.
= وكيف تصنِّف سنوات اعتقالي، في بند الحقوق أم الواجبات؟
– يؤسفني ويؤلمني ما تقول.
= إذا كان لقاؤنا ليس تحقيقاً مفروضاً عليّ، فإني أتمنى أن أعود إلى مهجعي، فلا أكون سبباً في أسفك وألمك.
– تحقيق ماذا يا رجل؟
على أية حال أذكِّرك ثانية أن مفتاح سجنك بيدك.
* * *
أكثر من عامين وثلاث عشرة جلسة غامضة بلهاء، حتى تقيَّأتني محكمة أمن الدولة العليا.
كان هناك من يدير دواليب الحظ، كما يحدث في برنامج الـ “يا نصيب” في التفزيون، وكانت الدواليب تدور بطريقة مجنونة، ثم فجأة أوقفوها على:
“خمسة عشر عاماً سجناً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية”.
يا أبناء الدمّ!
ما الذي انتهكته طيور كلماتنا، لتفتكوا بمناقيرها وأجنحتها على هذا النحو الكالح الخسيس!
خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام!
خمس عشرة جحيماً ليهدأ فحيح ثعابين روح الطاغية!
خمس عشرة وباءً يا ممالك الفداحات، يا قصور الخراب، ومسارح العبث، وأساطير الدم، وحكايات وحياكات ما في صحارينا من الرمل والسراب والقداسات والأسرار المتهتِّكة الملعونة؟
خمسة عشر ماذا؟
وماذا أيضاً؟
* * *