يتكرر مشهدٌ محوري في جميع أفلام ديستوبيا المستقبل، يعالج لحظة اكتشاف بطل الفيلم عجزه أمام خصم يهيمن على قدره، وماضيه، ومستقبله، خصم لا يشاركه الأدوات، ولا يعترف بشرعيته أو يلتمس معنى لوجوده. لا يجمع كلاهما منطق مشترك، ولا يتبادلان المشاعر، هذا إن وجدت.
بغض النظر عن طبيعة الخصم في أفلام الديستوبيا المستقبلية، سواءً كان قرداً متفوقاً، أو آلة معقدة، أو شكل حياة متطور فإن رحلة البطل هي ذاتها، يدفعه الأمل وجنون المستحيل إلى تحدي مسلمات عصره إلى أن يتوقف، في لحظة انكسار مفصلية يتفكك فيها إثر بطش خصمه. لحظة توقعها بسذاجة، ولم يحسب تكلفتها الباهظة، ولم يدرك ثقل وزنها الأسطوري على كتفيه.
يمثّل المشهد لحظة نشوة الخصم، ووصول غروره لحده الأقصى، يتلاعب فيها بالبطل جسداً وروحاً، يطرحه أرضاً ليجثم على ركبتيه، يسلبه الوعي ويذيبه في الخيال، يحرمه البصر إن أبصر الحقيقة ليعاني مصيره المحتوم. عادة ما يؤشر المشهد إلى فناء الحالة التي أنتجت البطل، وانتهاء صلاحية المعرفة والأدوات التي امتلكها أو بالأحرى ما سمح له الخصم منها، فتغلق الأبواب وتسدل الستائر، ليقف البطل عارياً أمام نفسه وبيئته الحاضنة.
يختال الخصم، ويصبح البطل خفيفاً في هذا المشهد. وعاءٌ فارغ من الأيديولوجيا، والوعود، لا يحمل إلا مشاعر متناقضة، لا يفهمها كلاهما. يصبح البطل خفيفاً، ويكاد أن يختفي. يتأرجح بين العدم والوجود، ويتجرد من المعاني حتى يقترب كفاية من خصمه المختال، فيصهرهما عنف اللحظة بلمحة مارقة، يتماهى فيها البطل مع خصمه المشحون، فيدركه تماماً.
ما بعد هذه اللحظة، ليس كما قبلها.
تسمح الخِفّة للبطل تجريد خصمه، ويصبح وجهه الآخر في المرآة، وجه لا يدركه، يعكس داخله الدفين وحقيقته المكثفة. في فسحة زمن قصيرة، يعرّف البطل المعاني بمشيئته، ويمسك فيها قلب الخصم بيده، ليسحقه، أو يدغدغه مِلئ إرادته.
قتلٌ أم مهادنة، المشاهد التالية ليست بذات الأهمية.
إقرار إبادة الفلسطيني بدءاً من غزة لا يحتاج إلى استعارات، أو تشبيهات إضافية.
القتل والترويع كافٍ لخنق الهواء، وسؤال أخلاقيات المقارنة والمقاربة بعد هذه الأشهر المرعبة يعود ليسخر منّا مع كل خبر. معقول؟ هل هذا حقيقي؟ هل يقبل التأويل؟
ديستوبيا المستقبل نعيشها الآن، وتتكرر وقفتنا أمام آلة الاستعمار الوحشي في كل مشهد من هذه المشاهد. ننتهك، ونتفكك، ونُسلب الأدوات والمعاني، ونقترب أكثر من قلب آلة الاستعمار الأسود، وتقترب أيادينا من تحقيق المستحيل.
الثمن باهظ والتكلفة مدفوعة بدماء بنات وأبناء غزة.
لن نكون أبطالاً بعد انتهاء المهزلة،
لن نقول لكم، قُلنا لكم.
ربما
كان فناؤنا ممكناً، ولكن هزيمتنا مستحيلة.