نافذة صغيرة من غزة: ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف؟ 

Medusa, Caravaggio, 1597 (Detail)

محمد الزقزوق

كاتب من فلسطين

وجود تموت وعيون مصفرّة مطفأة وأجساد هزيلة يعتبرها نقصان فادح في الوزن لسوء التغذية، وثياب متسخة وأقدام متغبرّة ومتشققة من صلافة الطريق، هكذا بدا مشهد المّارة المتجولون بين الخيام، مسير محبط بائس يركض في دوائر مفرغة من المعاناة والعوز فيما تُلاحقها نيران القذائف من مكانٍ لآخر، أيُ حجيمٍ هذا؟ أي حجيم. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/07/2024

تصوير: اسماء الغول

محمد الزقزوق

كاتب من فلسطين

محمد الزقزوق

وباحث من مواليد خانيونس عام 1990، درس اللغة العربيّة وآدابها في جامعة الأقصى، يكتب في العديد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، عضو ناشط في عدد من التجمّعات والأجسام الأدبّية والثقافية الفاعلة في المشهد الثقافيّ بقطاع غزّة، وكان منسّقًا عامًّا للتجّمع الثقافيّ لأجل المعرفة "يوتوبيا، يعمل في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي منسقاً في برنامج المكتبات المجتمعية والفرق الشبابية، حصلت مجموعة الشعرية " خانني العرّافون" على جائزة على الخليلي للشعر، ضمن مسابقة ملتقى فلسطين الثقافيّ الأولى للكتّاب المبدعين والمبدعات لعام ,2018".

“جئتُ إليك من هناك
نهاية العام، عامُ النهايات”.

سركون بولص، آلة الزقوم.                                                                         

لم يخطرْ على بالي وقت سَماعي لقصيدة “آلهة الزقوم” للعراقي سركون بولص، أنَّها ستكون النص الشِعريّ العربيّ الأكثر صدقاً ودقةً وذكاءً وتجسيداً لحقيقة الحياة داخل غزة في الحرب المُشتعلة منذُ اكتوبر من العام الماضي، حينَ عُدتُ لسماعها بعد أول فرصة توفرَ فيها انترنت بسرعةٍ جيدة يسمح للنص بأن يتدفق دونَ قطع في سيرورته، قلتُ: يا إلهي، أنه يقول ما أريد قوله تماماً، أيُ تطابقٍ هذا؟ كنتُ أريد سماعها تحديداً لا قراءتها، كان ثمة موسيقى تصويرية تُلازم النص ضمن إيقاع زمني يُترجم مزيح المشاعر الذي يتضمنها: اليأس ثم السؤال ثم الصراخ فاللامبالاة.

دحرجَ النص وموسيقاه بطريقة ما جلمود المشاعر المُتحجّرة التي كانت تُثقِلُ روحي وتُقيّدُها بأصفاد الخوف والقلق والنزوح والدهشة، ولا حزن سوى حجارة رصينة في قاع الروح دحرجها النص إلى حزنٍ بدا دافئاً وعميقاً يسرى كما السر وصوت الوشوشات عميقاً في ثنايا الجسد وينهار على هيئة دموع.

“ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف
ماذا فعلوا بعينيك وحق الله؟ .

سركون بولص، آلة الزقوم.                                                                         

  تملتُ وجهي صدفةً في مرآةٍ كانت على ناصيةٍ في زقاقٍ صغير بينَ تَجمّع ٍكبيرٍ من خيام النازحين، كانَ وجهاً شاحباً ومُصفرّاً، وفيه عينين تماماً كما يَصفها سركون بولص، منطفئتين كأن شيئاً ما سرقَ ضياءهما، دُهشت وتَمَسمرتْ قدماي، وشعرت للحظة أنني لا استطيع المسير، لولا تدافع الناس في أزقةِ مخيمات النزوح بمنطقة مواصي خانيونس، والذي أَجبرني على الاستمرار في المسير مُتجاوزاً صدمة ما عكستهُ المرآة لوجهٍ بدا وجهاً لشخصٍ آخر.

كنتُ إلى حينَ مغادرتي لبيتي نازحاً منهُ للمرّة الأولى لم أرَ وجهي مُطلقاً، فلا مرايا في الخيام، ولم يكن مهماً بالنسبةٍ لي وأعتقد لغيري كثيرين مُراعاة وجود مرآة بين الأغراض التي يأخذونها معهم في رحلة النزوح، كنتُ قد رأيتُ وجهي مرّة قبل مغادرتي البيت، ولم يكنَ ما عكسته المرآة وقتها مطمئناً، على الرغم أنني في حينها لم أكن قد عشتُ تجربة النزوح بعد.

كانَ وجهاً شاحباً مُصفرّاً فيما ترتخي تحت العينين هالتين كبيرتين من السواد، بينما يتقوّس على جانبي الوجه بمُحاذاةِ الأنف من الجانبين خطين مقوسين يختفيان حين يعتري الوجه أية إيماءات حيث لا يمكن تميزها عن الإيماءات الأخرى، فيما يظهران بوضوح حين يكون الوجه ساكنا، في أعلى الوجه ظهرت خطوط إضافية في الجبهة، كان يُمكنني ملاحظتها بوضوح كوني كنتُ فيما قبل الحرب أعي وأُراقب وجودها جيداً، أما بقية الجسد فيعتريه الهُزال والنُقصان الواضح في الوزن.

بعدها بعدةِ أسابيع رأيتهُ مجدداً في عيون آخرين، كنّا ثلاثة أصدقاء لم نتمّكن من لقاء بعضنا البعض منذُ ما يزيد عن خمسة أشهر، تفرّقنا بفعلِ النزوح إلى أماكن مختلفة وسط جغرافيا بدت لنا جديدة، فلقد صاغت تجمعات الخيام كلَّ جغرافيا الساحل الغزيّ صياغةً جديدة مخنوقة وضيقة، ولذا تضاءلت كثيراً فرص أن نلتقي، حين إلتقينا للمرّةٍ الأولى بعد انقطاع دام ما يزيدُ عن خمسة أشهر، شَعَرَ كلٌ منّا بشعورٍ ما من الخجل تجاه الآخر، شعور سخيف ومؤذي من الانكماش والتواري وكأن كلَّ واحدٍ منّا يرغبُ في تجاوز ما شاهدهُ في وجهِ الآخر من قسوة، كلُّ وجهٍ من الثلاثة وجوه كانَ يختزل الحرب داخله: وهج الشمس، ضجر الانتظار، شقاء المسير في الطرق الوعرة، الهُزال والخوف وغيرها الكثير الكثير، وعزَّ على كلّ واحدٍ منّا أن يرى الآخر على هذه الشاكِلة، إلا أننا بعد دقائِقٍ ثقيلة مرّت كأنها دهر، تمكنّا من تجاوز تلك الحالة، بخليط من عباراتِ المواساة والسخرية.

سرنا في الطريق بينَ حشود النازحين المُتدافعة، نحاول أن نصل إلى أي مكان يُمكن أن نجلس فيه للحديث، إلى جانب الطريق كان ثمة ميزان على الأرض، ميزان كبير من تلك الموازين التي تُستخدم لوزن البضائع، كان أحد النازحين وفي محاولة لإيجاد طريقةٍ ما لكسب المال، قد وضعهُ على جانب الطريق معلّقاً فوقَهُ لافتةً صغيرة من الكرتون مكتوبٌ عليها بخط اليد:

“اعرف وزنك على واحد شيقل” ولأن الناس جميعهم وبعد هذه الشهور المتتالية من الحرب وبسبب فداحة المأساة فيما يخص وفرة الأغذية بالإضافة إلى المجهودات اليوميّة الشاقة التي كانوا يتكبّدونها في جلب مياه الغسيل والشرب والمشي كيلومترات على الأقدام وغيرها من أنماط الحياة اليومية الشاقة والمضنية، كانوا قد فقدوا جزءً كبيراً من وزنهم، وجدَّ من فكرَّ في وجود ميزان إلى جانب الطريق، أنَّها ربمّا تكون فكرة جيدة، فالجميع على الأغلب يرغبُ في أن يعرفَ كم من الكيلوجرامات قد فقد بعد كل هذه الشهور، أثار الميزان فضول ثلاثتنا تجاه معرفة وزننا، وبدأنا تباعاً نقف على الميزان واحداً تلو الأخر، ثم نُدهش حينً نعرف ما فقدناه من أجسادنا خلال شهورٍ قليلة، كانت قيمة أقل واحد فينا خسارةً بالوزن هي عشرة كيلو جرامات، صُعقنا من حجم الخسارة التي لا يمكن حدوثها إلا إن كنّا في حالة إضراب عن الطعام، وأطلقنا ضحكة ساخرة عملاقة من كل برامج الحميات الغذائية والروجيم، لا يوجد برنامج أكثر فعالية من هذا، فقط حرب كهذه كفيلة بإن تُحدث المعجرات.

كانت ليالي القصف وتشنجات الخوف وخفقات القلب وارتعاشات اليد، وما جال في الرأس من وساوس، وما اختبرته الأعصاب من مشاعر، وموجات الكآبة والحزن، بالإضافة إلى لفح أشعة الشمس في طوابير الانتظار، ومشاهد الدمار ورائحة البارود وأصوات الانفجارات وغيرها الكثير الكثير قد فعلت أفاعيلها وأحدثت في الجسد والوجه ما أحدثت، فيما بقي ما أحدثته في الوعي والوجدان والنفس أكثر قسوة وإيلاماً وإن أخفاهُ الجسد خلف الجلد والعظام والأوعية الدومية.

وكنتُ كلما نظرت إلى وجه المّارة في سيارات النقل أو بين الخيام أجدّ وجوهاً تموت، قلت محدثاً نفسي ما الذي جرى؟ أنَّها وجوه تموت يا إلهي، أنها وجود تموت، تأكلها الشمس وتخطف نضارتها الكآبات، أنها ملامح متشنجة، تشنجت بهول الصدمة وبشاعة المأساة وتراكمت عليها الآلام والأسئلة.

وجوه تحملُ ألم كثيف مُعتصر ومُركز تركته الأيام الماضية، خوف مهيمن يُغطي اللحظة الراهنة، وقلق وأفكار وهواجس لا حصر لها حول توقع ما هو أسوأ في قادم الأيام.

وجالت في رأسي وساوس وأفكار لا حصر لها، عن الوجوه التي تموت في أجسادٍ حيّةٍ تتحرك وسط مشاهد الخراب والدمار، أنها وجوه الناس في غزة، الذين كلّما سألناهم عن أحوالهم، أجابوا: أنهم بخير إجابة سريعة ميكانيكة يكشف زيفها فقط أول نظرة تصطدم بالوجه الميت، وكنتُ حينَ أسير في الطرقات أُواجهُ صعوبةً كبيرة في التعرّف على وجوه أصدقاء جمعتني بهم سنوات الدراسة والعمل، بعد أن نحتت الحرب ووجوههم كما تُنحت الصخور، بأزاميل الخوف والفقد والخسارة، بعضهم كان يُحاول أن يتجنب أن يراه أحد، يمشي بذات الوجه الميت فيما يحاول الابتعاد عن مصادفات قد توضّح لأحدهم حجم المعاناة التي كابدها خلال أشهر قليل فقط، وآخرون يمرون دون أن أتمكن حتى من معرفتهم.

وجود تموت وعيون مصفرّة مطفأة وأجساد هزيلة يعتبرها نقصان فادح في الوزن لسوء التغذية، وثياب متسخة وأقدام متغبرّة ومتشققة من صلافة الطريق، هكذا بدا مشهد المّارة المتجولون بين الخيام، مسير محبط بائس يركض في دوائر مفرغة من المعاناة والعوز فيما تُلاحقها نيران القذائف من مكانٍ لآخر، أيُ حجيمٍ هذا؟ أي حجيم.

الكاتب: محمد الزقزوق

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع