يمرُّ اليوم عام على عملية “طوفان الأقصى” التي تبعها عدوانٌ على قطاع غزّة، وهو عدوان غير مسبوقٍ في تاريخنا الحديث، وما زلنا نعايشه. وعلى الرغم من أن هذا الحدث كبيرٌ وممتد، ولم تُعرف خواتيمه بعد حتى يُتمكّن الإلمام به، إلّا أنه في ظلّ حربٍ طرحت بتجلٍّ مسألة الشرِّ المطلق، أدرك عزمي بشارة “حدود موقعه” في الأزمنة الصعبة، مجسّدًا “الانحياز للحقيقة” فيه، في كتابٍ عنوانه “الطوفان: الحرب على فلسطين في غزّة“، الرؤية الشمولية في قراءة العدوان المستمر على قطاع غزّة وتحليله وفهمه، ضمن إطار استهداف كامل فلسطين التاريخية التي ما القطاع إلّا جزءًا منها. وهو ما قدّمه بشارة بتحليلٍ نقديّ وموضوعيّ شامل، ارتكز على الأبعاد السياسية والعسكرية والقانونية والقضايا الأخلاقية، مع تفكيك الأحداث والربط بين واقع غزة والسياسيات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين.
يتكوّن الكتاب من أربعة فصول، تبدأ بتحليل مشهد طوفان الأقصى؛ من الدوافع إلى التنفيذ، وحتى التداعيات وحديث “اليوم التالي”، ثمّ ينتقل بشارة إلى نقاش القضايا الأخلاقية من حيث أفعال المقاومة وأفعال الردّ عليها، التي تحيل تلقائيًا إلى إزدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين، تلك المعايير التي كشفت عنها غزّة بوضوح. خصّص بشارة الفصل الثالث لطرح ثالوث السياسة والأخلاق والقانون الدولي، في إطار تضمّن “الإبادة الجماعية”. وختم كتابه بفصلٍ شمل توصيفًا للحرب على غزة وتحليلًا لها، مع طرح ما أسماه “أسئلة المرحلة”. يستعرض هذا المقال ويناقش أبرز القضايا التي كتبها وحلّلها ونقدها بشارة بأفكارٍ وتوثيقات أطّرت لفهم خلفية “الطوفان” وأبعاده على مختلف الأصعدة، إلى جانب ما يطرحه من تساؤلات.
“لم يَغمُر الطوفان الأرض من العدم”
يفتتح بشارة كتابه بفصلٍ مخصّص لنقاش خلفية الطوفان بإيجازٍ، غير أنه إيجازٌ مكثّف، وفيه خطٌ ناظم للقارئ، ينتقل معه من تفنيد المقولة الإسرائيلية التي تسوّق عدم احتلال القطاع بدعاية الانسحاب أُحاديّ الجانب في عام 2005، التي بها يغيب أي مبرر لأهليته بالعمل المسلّح ضدّ إسرائيل، وذلك عبر مرتكزين: الأول يستند إلى أن القطاع ليس وطنًا، وإنّما جزء من الوطن (فلسطين)، والانسحاب منه لم يعنِ نهاية الاحتلال؛ والثاني يكمن في أن الانسحاب لم ينزع عن القطاع الاحتلال، وإنّما استبدلته إسرائيل بصورٍ أخرى من خلال التحكّم بمنافذها وسكّانها وحصارها. وبذكر تداعيات هذه الأخيرة وتحليلها من مختلف الجوانب والأبعاد، يؤطر بشارة لمشهدية القطاع ودورها في بواعث الطوفان، ثمّ ينتقل إلى الأجزاء الأخرى، فيصف حالة الضفّة الغربيّة نتيجة تكثيف الاستيطان، واستهداف مجموعات المقاومة، وتفاقم معاناة الأسرى في السجون الإسرائيلية. ويربط هذا كلّه بحكومة نتنياهو التي تشكّلت في أواخر عام 2022 بطابع يمينيّ، والأكثر تطرّفًا في تاريخ دولة الاحتلال. ثمّ يبيّن بشارة تزامن هذا المشهد الداخليّ مع واقع تهميش القضية الفلسطينية المتمثّل بالتطبيع العربي-الإسرائيلي الذي تجتهد أمريكا فيه. ويرى في هذا كلّه شروطًا لفهم الطوفان وتفسيره، ما قد يكون محاولةً من قيادات حماس في ” تغيير قواعد اللعبة”، يمكن فهمه ليس بطبيعة الفعل الميدانية فقط، وإنما في حال أدركنا البُعد السردي والرمزي للعملية وتعبيرات الغضب ونزع الحق بوصفها أفعالًا رمزيةً في الفعل العسكري للعملية.
أمّا عن التنفيذ، يؤكد بشارة أن الحسابات كانت “خاطئة” لمن قرّر وخطط، على الرغم من التحوّل الكبير في طبيعة المقاومة الفلسطينية المنعكس في عملية الطوفان التي امتازت بالسِمَة العسكرية والنظامية إلى حدٍّ ما، وببيان قدرة حماس بصفتها فصيلًا مسلّحًا على إطلاق “عملية حربيّة” فيها تجاوزٌ “للمنطق الدفاعي الردعي” الذي ترتكز عليه استراتيجية الكفاح المسلّح. ويحيل بشارة ذلك الخطأ (بأن تكون الاستراتيجية “هجومية”) إلى ميزان القوى بين حركات المقاومة في فلسطين وإسرائيل والأوضاع الإقليمية. غير أنه يبيّن أن هذا الرأي ينبع من الناحيتين السياسية والاستراتيجية، مع التأكيد على أن الردّ الإسرائيلي على الطوفان لم يكن متوقعًا، وافتراض توقّعه يعني أن الحركة بادرت بهجومٍ “انتحاريّ” لها، الأمر الذي يُعتبر مستحيلًا. وبهذا كلّه وازن بشارة بين مشروعية المقاومة والحاجة إليها، وتعريضها لنقد بنّاء.
ردّات الفعل والتغطية الإعلامية: بين الدعم والتواطؤ والحرب على الوعي
لم تقتصر جبهات الحرب على الساحة الميدانية للقتال والعدوان، فمنذ اللحظات الأولى للطوفان شكّلت الساحة الإعلامية، وما زالت، جبهة لا يستهان بها لإدارة الحرب وتشكيل الوعي بها والرأي عنها، ثمّ المواقف منها وحولها. وانطلاقًا من هذه الأهمية للإعلام، كذلك محوريّتها وبُعدها الوظيفي، عمل بشارة على نقد التغطية الإعلامية ودور انحيازها المسبق لآلة الدعاية الإسرائيلية في تشكيل السياسة الدولية؛ إذ ربط بين الدعاية الإسرائيلية والسيطرة على الرواية الإعلامية العالمية، لخلق تحيّز إعلامي ضد الفلسطينيين وسرديتهم (دعشنة القطاع)، ثمّ بيّن التحول في المواقف الشعبية الغربية التي بدأت تنفصل عن التفافها حول ما هو رسميّ، وتشكّل حراكات تضامنية وتظاهرات واحتجاجات مبتكرة وعابرة للقوميات وللحدود، وهو ما بدأنا نتلّمسه منذ أدركنا تأثير الإعلام البديل، أو الإعلام الاجتماعي (السوشيال ميديا)، في نشر الرواية الفلسطينية وإعادة تشكيل الرأي العام الدولي والوعي العالمي بمجريات الحرب وبالقضية الفلسطينية، وبالسرديات التقليدية حول المقاومة الفلسطينية. وقد ساهم ذلك في إنتاج خطاب داعم على الساحة الدولية، مستندًا إلى الحقائق التي بدأت تزعزع الاستراتيجية الدعائية لإسرائيل، المعتمدة على استخدام التضليل و”الذاكرة التاريخية المؤدلجة” و”الخوف الوجودي” للتعبئة وتجييش الإسناد والتضامن.
أدت الساحات العربية دورًا في الحراك، وشكّلت حدًّا فاصلًا بين التضامن الشعبي مع الفلسطينيين، ومقارنته بردّات الفعل الرسمية للدول العربية، وكيفية تعامل كلٍ منهما مع الأحداث. وبالنسبة إلى الساحة الإيرانية، قدّم بشارة تحليلًا تفصيليًا للدور الإيراني ودور الفاعلين من غيرها من الدول في الدعم وفتح جبهات الإسناد، إلى جانب دور أوروبا والولايات المتحدة في العدوان المستمر، ودعمهما المطلق لإسرائيل، ذلك الدعم الذي ما زال يشجّعها على تنفيذ استراتيجياتها المتبعة في الهجوم، التي لم تقتصر على القطاع، وإنّما (بعد نشر كتاب بشارة) وصلت إلى الضفة الغربية بكثافة أكبر، وامتدّت إلى قلب طهران باغتيال إسماعيل هنية، ثمّ اتّسعت، فارتفعت وتيرة التصعيدات بين إسرائيل وحزب الله، حتّى حوّلت إسرائيل جبهة لبنان من جبهة إسناد إلى جبهة حرب شاملة اليوم، على الأقل من طرفها، بعد أن نفذت سلسلة اغتيالات استهدفت الهيكل التنظيمي للحزب حتّى رأسه، الأمين العام حسن نصر الله، وقررت بدء الهجوم البري في لبنان.
ومن جهة أخرى، ذكر بشارة الاستراتيجيات الإسرائيلية المتّبعة في الهجوم، مع تبيان أهدافها من منظور السياسات الإسرائيلية الأوسع تجاه القضية الفلسطينية، التي بكشفها يمكن فهم العنف الإسرائيلي الممنهج ضدّ الهوية والمقاومة والصمود الشعبي، باعتبار أن العقوبات الجماعية ضدّ كامل الشعب، بالحصار والتجويع والنزوح والدمار البيئي والخدماتي والعمراني وتفاقم الأزمة الإنسانية، تُعدّ استهدافًا استباقيًا لتحييد أي محاولات مستقبلية على غرار الطوفان، من خلال كيّ وعي الشعب وإيمانه بجدوى المقاومة، ما إن قورنت بتداعياتها. كما أنها محاولة لاستعادة هيبة الردع التي قوّضتها حماس في السابع من أكتوبر باستهدافها الرمزي والعسكري لمنظومة الأمن الإسرائيلية وتفوقها الاستخباراتي.
التحديات الأخلاقية والقانونية وإعادة تعريفها في زمن الطوفان
استعرض بشارة مفاهيم أخلاقية ومعايير وقيمًا إنسانية في ظلّ الحرب، وقدّم نقاشًا يحاول الموازنة بينها وبين الضرورات السياسية للمقاومة الفلسطينية، في حرب يرى في زمنها “طمسًا لحدود الأخلاق في غمرة التجييش والاستقطاب السياسي والهويّاتي”. وفي هذا السياق، حلّل كيفية تشكيل هذه الحرب للهويات الوطنية للجانبين، الفلسطينيين والإسرائيليين، في إطار الكيفية التي تعيد بها تشكيل الوعي الوطني بما ينعكس مباشرةً في الخطابات السياسية والإعلامية والأممية.
كما عمل بشارة على وصف الأحداث وتشخيصها بتبيان كيفية انطباق مفاهيم “الإبادة الجماعية” و”الجرائم ضدّ الإنسانية” عليها، بناءً على الوقائع المثبتة؛ ففي إطار نقد تفاعلات المجتمع الدولي مع ما يحدث من انتهاكات صريحة، يجادل بشارة أن الممارسات والسلوك الإسرائيلي يعدّان شكلًا من أشكال “الإبادة الجماعية”، طالما هناك خطط ممنهجة ومنظّمة لاستهداف الهوية الوطنية الفلسطينية. ووافق بشارة بين تعريفه للمصلحات التي استخدمها والتعريفات النظرية لها في القانون الدولي.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب وتمتد في الجبهات الأخرى في المحور، لبنان خاصةً، ومع فشل المحاولات السياسية والدبلوماسية في كبح آلة القتل الإسرائيلية، وعلى الرغم من التصاعد السريع في الأحداث على نحو غير متوقّع، فإن الجوانب الأخلاقية والقانونية التي قدمها بشارة لا تزال تُقرأ في إطار الأحداث الجارية من وقت نشر الكتاب في مايو 2024، حتّى اللحظة الآنية. ولا تزال إسرائيل توظّف مفهوم “اللاسامية و”حق الدفاع عن النفس” في تشريع انتهاكاتها كافة، والممتدة من الفلسطينيين إلى اللبنانيين واليمنيين والسوريين والعراقيين. مهما فاق حجم الردّ الفعل ذاته.
خاتمة
ربط عزمي بشارة في كتابه بين عملية الطوفان والمشهد السياسي الفلسطيني والدولي والإقليمي، وكيف ساهمت في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية وتغيير استراتيجيات المواجهة بين إسرائيل ومحور المقاومة، وحاول تقديم فهم عام للديناميات الجيوسياسة في المنطقة. كما نقد السياسات التي اتّبعتها الأطراف المختلفة في تحليل ردّات الفعل، من دون أن يغفل دور الانقسام السياسي الفلسطيني في تقويض المقاومة واستثمار جهود بناء دولة، الأمر الذي يجعل من الكتاب مرجعًا مهمًا في وصف الأحداث وتشخيصها وقراءتها، بمزيج يجمع بين الأبعاد الأخلاقية والسياسية والقانونية والتاريخية، بما يحقق موازنة وتكاملًا بين الخلفيات المتعددة للحدث وتداعياته، ويضعنا جميعًا أمام انكشاف مع الذات في مواجهة أنفسنا بأسئلة المرحلة.