الذات الراقصة والكتابة الراقصة
في الكتاب الذي خصّصه الأديب خالد خليفة (1964-2023) لرؤيته في أمور الكتابة وأساليبها، بعنوان “نسر على الطاولة المجاورة: دفاتر العزلة والكتابة” (2022)، يشبّه الكاتب، في أكثر من موضع، بين عملية الكتابة والرقص؛ الشذرة الأولى تقارن بين الكتاب ولاعبي الأكروبات، وفي شذرة أخرى يشبّه الكتابة بعملية الرقص: “كتابة الرواية تشبه الرقص. يبدو هذا التشبيه غريباً، إلّا أنه حقيقي بالنسبة لي. الرقص انطلاق من الثبات إلى الحركة، وعودة إلى الثبات مرة أخرى، ضمن فضاء يحكمه الإيقاع. وكتابة الرواية انطلاق من البياض إلى السواد، والعودة مرة أخرى إلى البياض، في فضاء أيضاً يحكمه الإيقاع”. ويحدد خليفة مواصفات الكاتب الماهر – راقص الإيقاع، والكاتب الهاوي – منفعل الإيقاع: “الكاتب المحترف كما الراقص المحترف، يستطيع أن يبدأ الرقص فور سماع أية موسيقى، لكنه يحتاج إلى لحظة يُشرق فيها جسده وتطير روحه، عندها يصبح المتفرجون غير موجودين، يتلاشون رويداً رويداً ويختفون من حوله. أما الكاتب الهاوي، كما الراقص الهاوي، لا يرقص إلّا إذا استبدّت به الرغبة الشديدة، فيبدو مندفعاً، حاراً، غير مكترث بالإيقاع الذي يلاحقه، ومهما حاول، لا يستطيع خلق إيقاعه الخاص لسرعة مروره على البياض، وتخطّيه للحظة الرغبة، يبقى الآخرون بالنسبة إليه موجودين، يحيطون به ولا يستطيع الإفلات من نظرات إعجابهم واستهجانهم”.
ومن هذه العلاقة الثلاثية، بين الكتابة والرقص والإيقاع، تتشكّل ملامح حضور الفنون والموسيقى في أدب خالد خليفة. في روايته الأولى “حارس الخديعة” (1993) التي تتشكّل من نصٍّ شعري طويل، يتخلله حدٌ أدنى من الحكائية. وفي هذا النصّ المروي على لسان السارد، يأتي فن الرقص باعتباره أداءً يسمح بالتخلص من ثقل الذات: “من يهل عليّ بما نسيته من طعم الغيم ودروب عفرين، من رذاذ النهر ورائحة المرأة الكردية، وغيوم أبي الصدئة؟ من يفتح البوابات، بوابات دمشق أمام قدمي، ويجعل القرون السبعة أرماث ذكرى بعيدة غير جديرة إلا بالبصاق وتفتق الخواصر من الضحك؟ من ينذرني لرقص حول نار مجوسية تمتد من الفجر الأول إلى آخر فجر، ويخلع عني أسمالي، أسمالي المثقلة كاهلي المشذبة أطرافي المشاغبة؟ من أيتها القفار؟ التراب في فمي، في مسامي وكلي تراب، أسير إلى جزئي باحثاً عن تفاصيلي، فلا تهرب الغيوم ولا تقف فوق رأسي، لا تتدلى قناديلها ومشربيات سقوفها لتجعل خاتمة النهار ليلاً ساطعاً بالبهجة”.
اللوحات للتواصل مع الروح الهائمة
مع رواية “دفاتر القرباط” (2000) تحضر شخصية الرسام “أحمد الجمل”. تنطلق حكايته حين يرسم للمرة الأولى غنمة بيضاء يربطها عند المغارة، وبدت كاللوحة بوجه امرأة جذّابة معلّقة بجانب الفراشات والأنواع العديدة لأحجار الصوّان وأذيال الحمير. ويحلم أحمد بالبحث في دفاتر الرسم والتشريح أن يصل يوماً إلى أن يحنّط امرأة: “على الطاولة كتاب باللغة الفرنسية مفتوح على صفحة 187، وفي الصفحة المقابلة صورة من القرن السابع عشر، رجال في مشرحة وأمامهم على الطاولة جثة مفتوحة. أحمد يدخن ويحدثني عن حلمه بتحنيط امرأة”. وتصبح علاقة أحمد مع الرسم المؤشر الأساسي الذي يستعمله السارد لإخبار القارئ عن مشاعر أحمد الداخلية وباطنه: “الضوء الخفيف المنبعث من لمبة الكاز ورائحة الاحتراق تجعل الهواء ثقيلاً ومملاً وممتلئاً بالإحباط، تشممته بكلمات أحمد، وقرأته بالسواد المطلوس على لوحة معلقة، حيث تبدو نقاط لامعة، قال إنها آخر ما رسم، وإن هذه النقاط اللامعة هي ما تبقى له. كانت العناكب في الزوايا تمتد وتستطيل دون أن تستأذن وتضفي على المكان بهوتاً وإحساساً بالفراغ والهجر. خارجاً من كهف أحمد الجمل، من منزله، من مرمسمه، وهو ما زال متمدداً يمارس غواية الملل، نجوم باهتة وقمر لا أراه، ألمح ظلاله ودروب العنابية أزقة مرسومة بعناية مهملة”.
تعجّ رواية “دفاتر القرباط” بقصص عن ملوك وأمراء من الماضي الغابر وتحضر أرواحهم. ويبتكر الروائي حضوراً فانتازياً، يسميه “الروح الهائمة”، تتواصل مع السارد الفتى وتحيط بتهيؤاته. وهذه الروح الهائمة تحضر مع الفنون؛ في المرة الأولى تحضر الروح الهائمة مع موسيقى الخال، وهو يعزف على آلة الناي، وفي المرة الثانية تحضر الروح الهائمة في لوحات “أحمد”: “أحمد يرسم والروح الضائعة تتجلى رويداً رويداً على القماش، وتضحك هازئة من أحمد الذي يحاول أن يمسك بشيء يفلت منه على اللوحة، وأرى حركة يده العصبية في ملاحقة مزج الألوان، الأزرق مع البرتقالي، وخط على صدر القماش الأبيض. الروح الضائعة تنزل عن الحجر وترحل، تتسرب عبر الباب المفتوح، تقول لي قبل أن ترحل: تعرف أين تجدني. أحمد ينظر إلى الحجر فيرى الفراغ، يظل يرسم، يقهقه، ويواصل الرسم. يهدأ قليلاً ويبدأ بالرسم هادئاً، كأنه أصبح معلماً، اختفت أخطاء البدايات ورأيت أصابعه تتحرك على اللوحة كأنها تعزف”.
لا بد من الاعتقاد بالعلاقة بين الرسم والتقاط الماورائي في رواية “دفاتر القرباط”؛ لأن الرسام أحمد يقرر أن يرسم وجه الله: “أحمد ينظر إلى الحجر فيرى الفراغ، يظل يرسم، يقهقه، ويواصل الرسم، يهدأ قليلاً ويبدأ بالرسم هادئاً، كأنه أصبح معلماً، اختفت أخطاء البدايات ورأيت أصابعه تتحرك على اللوحة كأنها تعزف. ثم قال: هل تعرف لون السماء. قال: السماء هي وجهنا. أحمد يترك اللوحة، يجلس إلى جانبي، يراني متمداً مكانه على الأريكة، ويقول أنه سيرسم الله ووجه عنّاب”. وفي فقرة تالية يُؤكّد على طموح أحمد برسم وجه الله: “يعود أحمد بكأسين من الشاي الثقيل، ويمد يده لي وسيجارة أخذها منه، ويتأمل اللوحة من بعيد، ويقول لي أنه يرسم وجه الله منذ ثلاثة أيام، ولن ينتهي من هذه اللوحة طوال حياته”. وتصبح الحكاية متعلقة بقدرة أحمد على تحقيق ذلك من عدمه، إضافة إلى أن وجه الله على بياض اللوحة يعمي بصره: “وقال له إن وجه الله الذي يرسمه لن يستطيع إكماله، وخطوط الحاجبين كانت خطأً كبيراً. قال أحمد إنه سيرسم وجه الله ويستطيع إكماله، والبياض الذي يتحداه لن يطول حتى يتلون”.
اللوحات في التعبير عن الفئات المهمشة
ترصد رواية “لم يصلِّ عليهم أحد” (2019) السيرة الذاتية لفنان تشكيلي، وتبدأ حكاية “وليم عيسى” حين يقرر ترك العمل والتفرّغ للرسم واللوحة الأولى: “لن يقضي عمره موظفًا خاف من المغامرة، ولن يسعى لكسب مودة معلميه ومديريه. أكمل طريقه إلى جيهان كير، اشترى مواسير ألوان زيتية، ورِيَش رسم جديدة، وقماشاً معالجاً من محل صغير يبيع مستلزمات الرسم والخط. أغلق الباب، وجد نفسه أمام بياض اللوحة. لن يخرج من غرفته”. ومن خلال الغوص في ذاكرة أخته “سعاد”، نتعرف على اللوحات الأولى التي حققها الرسام: “شجعته سعاد على الرسم، روت من ذاكرة طفولتها أشياء كثيرة عن لوحات مدهشة رسمها خلال دقائق، خاصة لوحة قاربه الورقي الذي أرسله في النهر. وفي رسالة أخرى ذكّرته برسمه وجهاً جميلاً لامرأة حزينة على طائرتها الورقية المحطمة. ذكّرته حين طلب منها الجلوس على كرسي في أرض الدار، امتثلت، رغم كآبة ظلال قلم الرصاص. ما زالت سعاد تحتفظ بلوحته معلقة في غرفتها، وبقربها لوحة لأم الخير ولمارغو تقرآن القرآن والإنجيل”. وتتعاظم براعة “وليم عيسى” بالرسم، وتصبح تقنياته مثيرة للإعجاب، إلّا أن معلمه يخبره بأن رسوماته تكتفي بالمظهر الخارجي للشخصيات المرسومة، من دون الغوص في بواطنها: “كان بإمكان وليم، خلال ساعات قليلة، أن يرسم أي شخص بملامحه الحقيقية. لم تعجب البورتريهات الأولى معلمه الذي قال له: تأمل المخفي في البشر، الوجوه مسطحة ولا تعني شيئاً لأعماقنا. أثنى على مهارته التقنية وخطوطه القوية”. ومن بعدها، سيصبح “وليم عيسى” هاوياً في مجال تصوير الفئات الاجتماعية المهمّشة؛ أطفال الشوارع، الصيادون أثناء العمل، والرجال المهملون في الأسواق وشوارع المدينة. حتى حين يزور مدينة الجمال، استانبول، فإنه يكتفي برسم صور وجوه الأطفال والبحّارة السكارى. وتصف الرواية كيفية تعامل أصحاب الغاليريهات والمعارض مع لوحاته: “كان أصحاب الغاليريهات بعد إلقاء نظرة واحدة عليها، يلوون شفاههم، وينصحونه برسم معالم استانبول بدلاً من رسم وجه الفتى التركي، أو البحّارة الروس السكارى، أو وجه الفتاة الغامضة التي تشبه إحدى فتيات الدعارة المصابة بالسل. هذه الموضوعات لا تناسب أحداً من مقتنيي الفن في هذه المدينة، حتى هواة المجموعات الأجانب كانوا مولعين بلوحات الحياة العثمانية السرية؛ نساء في حمام عمومي، أو مجموعة حواة ينفخون النار أمام أحد السلاطين”.