رمان الثقافية: زهرة وبقايا حياة وساعة حرية

Samia Halaby, Surprising Pathways, 2019. Courtesy of the artist

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

ليست صدفةً أن رمّان لم تقدم فكراً يسارياً هشاً أو متنازلاً للديكتاتوريات العربية؛ فحتى عندما كان الصراع على الكلمات، لم تُعِد رمّان طرح سؤال الجدوى، بل حاولت تجاوزه بالاستمرار في العمل. ولربما أرشيف الكاتب والمفكر الفلسطيني سلامة كيلة في المجلة هو أقرب مثال، خاصة بعد ترحيله من سوريا

للكاتب/ة

رمّان اليوم تجدد نفسها، تستأنف قدرتها على القول، وفي هذا تحدٍ لا تهم نتائجه، طالما ما زلنا نحلم ونكتب ونعيش. وهذا دور القارئ أكثر من الكاتب، في قدرته على تحرير نفسه، وقراءة مصيره، وإعادة بناء قدرته على النقاش

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/11/2024

تصوير: اسماء الغول

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

المعتصم خلف

صدر له كتاب "أقرب من البعيد بقليل"

ثمة مقطع من رواية “السفينة” للكاتب جبرا إبراهيم جبرا، يستعيد شاعرية الخسارة وعلاقتها بالكتابة، ويشبه إلى حد كبير الزمن الذي تعيشه مجلة “رمان” الثقافية في عيدها الثامن. يقول جبرا في المقطع: “الفلسطينيون كلهم شعراء بالفطرة. قد لا يكتبون شعراً، ولكنهم شعراء، لأنهم عرفوا شيئين اثنين هامين: جمال الطبيعة والمأساة، ومن يجمع بين هذين لا بد أن يكون شاعراً”(1). إعادة روح الكتابة إلى جمال عناصر الطبيعة ومزجها بحكايات الناس وخسارتهم، وكأن الكتابة ماء يروي من فقدوا أرضهم وحاولوا فهم مأساتهم. إلّا أن الشاعرية هنا لا تكمن في المأساة، بل في وسائل مواجهتها، كون الاقتباس الذي جاء على لسان وديع عساف في الرواية سبقته سياقات تشرح ما نفعله اليوم. يتدفق الكلام من وديع وكأنّ الغرق بداخله، ليس في الماء الذي تطفو عليه السفينة. يشرح لجاكلين، الفتاة الفرنسية، المعنى العميق للحقيقة. فكل من يدّعي أنه يقول الحقيقة دون أن يعيش المأساة، هو إما واهم لا يعرف، أو كاذب. لماذا؟ يقول وديع: “لأننا قلنا الصدق حتى بُحّت حناجرنا، وأضحينا لاجئين في خيام. توهمنا الصدق في أمم العالم، وإذ نحن ضحية سذاجتنا. وقد عرفنا ذلك كأمة، وعرفناه كأفراد”(2). في تاريخ 19/8/2016، لم يترك سليم البيك، محرر المجلة، مجالاً للتأويل؛ فقد قدم المجلة في مقالتها الافتتاحية “أن تكون زهرة في هذا المشرق“، بتقاطُع السياسة بالثقافة، جاعلاً من احتمالات المأساة الفلسطينية والسورية، وصور تأثيرها على لبنان، وسيلةً لطرح المزيد من الأسئلة حول واقع مأزوم، يخوض أصحابه تجربتهم لفهم علاقاتهم المعقدة مع أنفسهم ومع العالم. ثيمة الحلم وإعادة بناء خطاب يجمع بين السياسة والثقافة في عام 2016 كانت تعني بناء سردية لهوية تعيش آثار الربيع العربي، بل ما بعده: الهجرة، وأشكال الهزيمة، وسؤال معنى الوطن، وسياق القضية الفلسطينية، وخيالنا المحكوم بالأمل بعالم أفضل، ومحاولة بناء سرديات لتأمل التجربة. بدأت مجلة “رمّان” في هذه اللحظة الفارقة التي تجمع الحلم بالمأساة، وكأنّ الكتابة كانت وسيلتنا لاستعادة قدرتنا على الرؤية. لذلك، إذا كان هناك ما يميّز “رمّان” منذ بدايتها، فهو أنها لم تحاول الوصول إلى إجابات مؤقتة، بل حاولت إعادة ترتيب الأسئلة التي تحرّرنا من توقعاتنا المسبقة حول الزمن الذي نعيشه. لكن ما هي الكتابة إن لم تكن محاولة لتجاوز الهشاشة؟! مهما بدا السؤال مستمراً حتى اليوم، إلّا أن “رمّان” حاولت أن تجعل من مسارات الحرية للشعوب العربية وسيلةً لفهم القضية الفلسطينية؛ حتى عندما تنازلت نخب ثقافية عن أسئلة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، تجاوزت “رمّان” الفوارق الهشّة بين قضايا التحرر من الاستبداد والتحرر من الاحتلال، من خلال تجاوز الصمت، وبناء علاقات متكافئة بين جميع قضايا التحرر؛ لأن السؤال الأول لــ “رمّان” لم يكن مبنياً على أيديولوجيا نرجسية تؤسس لفردانية تروي سبيل نجاتها المضطرب، تمييعاً لمشاعرنا المتداخلة، بل كان نضالاً جماعياً، متشابكاً، لا يبني علاقاته على أساس التنازل، بل على أسس تجعل من النضال وسيلةً للتحرر. مهما بدا سليم البيك حالماً في مقالته الافتتاحية، إلّا أن على هامش الحلم لم يتم الرهان على انتصارات سياسية أو ثقافية؛ بل كان هناك نزق في رؤيته، خاصةً وهو يتأمل فداحة صنعة الكتابة وهي تتحول إلى فعل بناء من خلال كتّاب كانت رؤيتهم لا تقل جسارةً في تحليل تطور أساليبنا الثقافية وفهمنا للسياسة. ولكن الأهم أن “رمّان” كانت وسيلةً لطرح الأسئلة. ليست صدفةً أن “رمّان” لم تقدم فكراً يسارياً هشاً أو متنازلاً للديكتاتوريات العربية؛ فحتى عندما كان الصراع على الكلمات، لم تُعِد “رمّان” طرح سؤال الجدوى، بل حاولت تجاوزه بالاستمرار في العمل. ولربما أرشيف الكاتب والمفكر الفلسطيني سلامة كيلة في المجلة هو أقرب مثال، خاصة بعد ترحيله من سوريا. هذا قد يساعدنا اليوم على فهم أننا يجب أن لا نكتب لكي يُعجب بنا العالم، بل يجب أن نكتب ما يجب أن نقوله للعالم؛ لتكون الكتابة وسيلة للكشف عن المشوّه فينا، عن التناقض العميق بين ما نريده وما نصل إليه دائماً. هنا تكمن الخفة، بعدم التنازل والإقرار المباشر، رغم التمويل المقتضب، بأن “رمّان” كانت دائماً ضد الاحتلال وضد الديكتاتوريات العربية وأنظمتها. لتكون جدلية الاعتراف المستمرة تكمن في النضال، من دون انتهازية مباشرة، ولا حتى بمداراة أسس المواجهة، بل بالبوح، بأن تقول وتكتب فنياً وثقافياً وسياسياً. أربع سنوات أمضيتها مع “رمّان”، بعد وهن طويل من السذاجة، أدركت معها أن من لم يعترف بسذاجته لا يمكن أن تحرره أفكاره. وأنا كنت ساذجاً ومفلساً، قادماً من إسطنبول إلى بيروت، ولا أعرف ماذا سوف أفعل، أو إلى أين يجب أن أذهب. اقترح اسمي يومها الرفيق الوليد يحيى للمحرر سليم البيك لأكون مستكتباً ضمن المجلة. كان مدهشاً بالنسبة لي الكتابة في مجلة بلا شعار، فقط الاسم: “رمّان”. لا أعرف حتى اليوم كيف اختير هذا الاسم للمجلة، وقد أُسلّم أنه لا يوجد مقارنة بين الزيتون والبرتقال كونهما رمزين فلسطينيين مباشرين، إلّا أنني في صف الرمان، ببذوره الحمراء والبيضاء الكثيرة، وأعماله الكاملة وسيرته الذاتية، التي جعلت منه رمزاً للخصوبة. إنه زهرة كبيرة، أكبر من اللازم، تغنينا بها في ثقافتنا الشعبية الفلسطينية: تبعثر يا حبّ الرّمّان… تا منّي ألمّك… تبعثر يا حبّ الرّمّان يا البورازاني مطرّز اسمك على الشّال قلبي ينده قلبك منّي ميل ومنك ميل يا عويد الرّيحان أهلك ناويين الشّيل قلبي يحبك غيرك والله ما حبّيت يا الأسمراني رمّانك يا حبيبي يا حبيب قلبي ونصيبي رمّان صديرك فتّح يا ريتو من نصيبي أربع سنوات وأنا أحاول مع سليم البيك جمع حبات رمّانة هذه الحكاية، حبات صغيرة بيضاء وحمراء، مبعثرة في الكتب وعلى خشبات المسارح، في الأفلام، وفي عدسات المصورين. في كل حبة كان لدينا سؤال، وفي كل سؤال كنا نحاول أن نلمّ ما فاتنا من انتباه. لم نكن نعمل لننتصر لشيء، أو لنؤكد أي شيء، أكثر من أن الكتابة يمكن أن تكون فعل بناء. لا توجد أي بطولة هنا، ولا أي ادعاء باكتشاف الحقيقة، بل كنا نكتب لأننا نحب، نحب أن نتحسس مدى حريتنا وقدرتنا على استعادة أصواتنا، وفي هذا تحديداً شيء من المقاومة، وكأننا بالكتابة نصنع ما سوف نصيره. لقد كتبت مع مجلة “رمّان” ما يقارب 43 مقالاً، بين المقابلات والمراجعات. كتبت أغلبها في عطل نهاية الأسبوع، أحياناً على طاولة المطبخ، متحرراً من طاولة المكتب والكتب، لأنها، “رمان”، هي المساحة الوحيدة التي تشبه نفسها، والتي نستأنف فيها البوح هرباً من الهرمية التي تدّعي غياب المركزية، والخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها في مساحات أخرى. هنا في “رمّان” لم تتم مراجعة أي رأي شخصي كتبته، ولم يسقط سليم نفسه على أي نص أو مقالة. هنا فقط كان بإمكاني أن أقول إنني ضد الاحتلال ومع مواجهته، وضد الديكتاتوريات العربية. أما الشتائم، فقد كان سليم البيك يتذمر من الشتائم التي كنت أكتبها كما هي وأنا أفرغ المقابلات التي أجريها، شتائم معبرة. كان يقول لي دائماً “نحن لا ننشر الشتائم في المجلة”. إلا أنني كنت أرى أنها جزء من النص، من ثقافتنا، وفيها تحرر مدهش من اللحظة. لربما أعذب شتيمة حذفها سليم البيك كانت للكاتب إلياس خوري، عندما كنا نتحدث عن المواقف المبدئية والأخلاقية للكتّاب العرب. وبعد أن قال لي الكاتب إلياس خوري إنه يفتقر للمواقف المبدئية، بجدية أحبها، أنهى جوابه بشتيمة إلى نوع من المثقفين هي أقرب ما نسمعه ونقرأه منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم. دخلت مجلة “رمّان” الثقافية عامها التاسع في مرحلة يجب أن نحرر فيها خيالنا من شاعريته، وأفكارنا من الغثّ والهزل. في زمن أصبحت فيه الحقيقة لها ثمن، والحجب فعلاً مكرساً لمحو الآخر. “رمّان” اليوم تجدد نفسها، تستأنف قدرتها على القول، وفي هذا تحدٍ لا تهم نتائجه، طالما ما زلنا نحلم ونكتب ونعيش. وهذا دور القارئ أكثر من الكاتب، في قدرته على تحرير نفسه، وقراءة مصيره، وإعادة بناء قدرته على النقاش.  
  1. جبرا إبراهيم جبرا، السفينة (بيروت: الآداب، 1979)، ص 17.  
  2. المرجع نفسه. 
الكاتب: المعتصم خلف

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع