تنتشر في الأيام الأخيرة حمى الكلام عن المخيمات الفلسطينية لتملأ الصحف والمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، فنجترها، ونجتر أنفسنا، وماضينا، وتفاصيلنا، ثم نعود لحياتنا البطيئة أكثر قدرة على البلادة.
أبقى مستيقظاً لثمان وأربعين ساعة، وكأن عدد الساعات يشير لتاريخ معين تبدأ منه الحكاية، لا أريد أن أذكره عمداً فقد أنهكه ابتذال النشطاء الفلسطينيين السوريين، نجوم مواقع التواصل المسؤولة عن بعض التفسخ الاجتماعي، أقول: ليصحح أجدادنا ما بدؤوه، نحن أعجز حتى من أن نصحح حاضرنا، وهربا من أسئلة باتت أشبه بالكليشيه بهرسها المتكرر لتلافيف أدمغتنا، أهرع إلى نوم يكاد يكون سباتا مع أن الشتاء لم يحل بعد، ومع أن السبات تم إقراره على الذكريات لا على البدن، أستيقظ بعد وقت طويل على هاتف من صديق خرج حديثا من سورية، يريد مني نصاً عن خان الشيح، المخيم الذي “أعرفه جيدا” كما قال، حتى الكلام مع هذا الصديق صعباً بينما تتحضر لهجرتك التي لا تستطيع تحديد رقمها بالضبط، فيما تصحو من نومك، فتبارك له هجرته الجديدة وتعده بأن تحاول الكتابة على قدر استطاعتك.
أحضرُ قهوتي، أشعل سيجارة، أستهل نهاري بالموسيقا المحرضة على الذكريات، فأعود إلى المخيم خَجِلاً من هذه الطقوس الرخيصة التي تشكل حلماً للخائفين هناك، أطفئ الموسيقا بسيجارتي، وأطفئ سيجارتي بالقهوة، وأطفئ قهوتي بإهمالها، ثلاثتنا يعمل كفرِق إطفاء تافهة بينما تنسكب النار على أرواح علّي أكتب عنها. أهرب للتفكير في هجرتي الجديدة بعد أيام، وفي عروض العمل “المحترمة” التي سأقطفها فور وصولي هناك، أراها مجسدة كأشخاص من خارج العالم يسخرون مني بكثرة اهتمامهم، بينما أهتم بتفاصيل أخرى، أكثر إنسانية حسب تعريفي لها، فأبتسم مغشياً على عيني وأعود للمقال.
وما حصلت عليه هاتفياً هو جملة أجمل من كل ما يمكن أن يقال، تعال إلى أوروبا، لنقِم سهرةً كما كنا نفعل في المخيم، ونرى إن كانت السهرة نفسها لم تتغير علينا. ولنترك لأنفسنا وللعالم مراقبة المسكوت عنه في كل ما قد قيل، وما سوف يأتي.
أتصل بأصدقاء لي من المخيم لا أحد يعلم أسماءهم، ولا هم يريدون، قدموا كل ما يملكون في سبيله وقد وزعهم حب المخيم أخيراً على أوروبا، والسجون، والمقابر، فجعل الحصص متساوية، مع انتفاء العدل، كما العادة، ليستمر التاريخ بمهزلته، لكنهم مازالوا يحبون المخيم، فالذنب ليس ذنبه.
نستهل مكالماتنا بالاطمئنان، نكذب جميعنا بشأن الصحة، والسعادة، وراحة البال، وصبر الأحبة في الداخل، وبعد أن يبدأ الصمت لعبته أكسر الحديث ببعض الذكريات التي تقودنا دائما لسهرات كنا نقيمها بعد نهار شاق، لا نتحدث عن النهار الشاق، لأننا نخجل من كلام المآثر، جميعنا يستعيد كم كنا بلهاء حين اعتبرنا أن الأسد إن وجه صاروخاً واحداً إلينا سيدخل هذا الصاروخ من (القصور) أول مناطق خان الشيح، ويخرج من (الخان) آخر المخيم، ليحيله ركاماً، كنا نراهن دائما على رداءة البناء، وما يفاجئنا اليوم أن أهل المخيم، جملته العصبية، كانوا رباطه في عصر انهيار الأعصاب. أعصاب حمت عظم البيوت من التداعي بدءاً من القصور وصولاً إلى الخان.
أبناء المخيم المنسي، الأصليون كأمي وأصدقائي، وحديثو الهوى مثلي، كلما نظر أحدنا إلى الآخر ضحكنا، لن يفهم العالم خصوصية نكاتنا في هذه البقعة من الكوكب، ولا ضير، لا يهمنا صراحة، بالنسبة لنا يكفي أن نضحك نحن. أبناء المخيم الذين سخروا من نظام الأسد وخافوا مكره، وسخروا من الجيش الحر وتعاطفوا معه، وسخروا من أحلامهم، وأشكال أهاليهم، والجوار، فلسطينيتهم المؤجرة، وسوريّة الآخرين المؤلمة أحيانا، والمبتذلة أحيانا أخرى، لا يهمهم حقيقة إن تعاطف العالم معهم أو لا، فما معنى التعاطف؟ ويدركون قبل كل شيء، أن كتابة مقال عن مخيم خان الشيح، ككتابة رواية عن الحب، لن تزيد أو تنقص في عدد العشاق إطلاقا، بل ربما تبكي من رحل عنه العشق، بصمت، ودون أن يشعر به المحبون. انتهت المكالمات التي أجريتها من أجل المقالة دون أن أذكر كلمة واحدة عنها. فحال الجميع كان يقول: تم الخذلان، وأي مناشدة تنفع الآن؟ وما حصلت عليه هاتفياً هو جملة أجمل من كل ما يمكن أن يقال، تعال إلى أوروبا، لنقِم سهرةً كما كنا نفعل في المخيم، ونرى إن كانت السهرة نفسها لم تتغير علينا. ولنترك لأنفسنا وللعالم مراقبة المسكوت عنه في كل ما قد قيل، وما سوف يأتي.
اترك اختلاط مشاعري وأتبع شعوراً يقودني بشكل شبه يومي لسماع مرثية أحمد الطحان (زينب) التي أخاف من اعتناقها، وأقرّب المسمع إلى المقطع:
هو دة الإنسان؟
لأ.. دي الآلة
هي دي الأوطان؟
لأ.. دي سفالة
هي دي الأحزان؟
لأ.. دي بقالة
نقفل الدكان.. ثم نحارب
عز الطلب موتِك
والموت ما بيعزّش
هز السما صوتِك
والعرش ما اهتزش.