لقراءة الجزء الأول من المقابلة.. هنا
الجزء الثاني:
في الموضوع السوري، هل للفلسفة وممارسيها ومنظّريها مكان وسط القتل والدمار والتهجير؟
من شأن الفيلسوف أمام هذا المشهد السوري أن يتخذ موقفين مترابطين لا ينفصلان أبدًا، الموقف المعرفي والموقف الأخلاقي ويعبر عن هذين الموقفين بخطاب واضح دون لبس، شأن الموقف من القضية الفلسطينية.
بل أقول الموقف الأخلاقي أولًا، وإذا كان الإنسان ذو الحس الطبيعي والمنطوي على الذكاء العاطفي مناهضًا بالضرورة للجريمة والقتل والاستبداد وتصفية الناس في السجون، فأولى بالفيلسوف والشاعر والأديب والفنان أن يتخذ الموقف الأخلاقي الأكثر راديكالية ضد إفناء الإنسان وتهجيره وتدمير بيوته من أجل الاستمرار في سلطة مستبدة. يجب أن نتذكر دائمًا قول كانط: “لو كانت سعادة البشرية كلها وقفًا على قتل طفل واحد لكان هذا الفعل لا أخلاقيًا” فكيف إذا كانت سعادة الطاغية وقفًا على قتل شعب بكامله. والموقف الأخلاقي للنخبة يعزز من قوة المدافعين عن الحرية والكرامة الإنسانية.
أما الموقف المعرفي الذي يجب أن ينهض به الفيلسوف فهو ضروري جدًا، لأنه يزود الناس بالوعي المطابق للواقع، ويطرح أمامهم جملة الممكنات القابلة للتحقق، فلا يعدهم بالمستحيل الطوباوي، ولا يطرح عليهم واقعية زائفة، ولا يبعث فيهم روح التشاؤم واليأس، بل يطرح عليهم الخطاب بأعلى درجات العقلانية مفعمًا بالعاطفة النبيلة التي لا تنفصل عن برودة العقل المفكر. إن اكتشاف الممكنات والدروب إليها هي مهمة الفلسفة، واكتشاف الأسئلة الصحية عن الواقع أمر في غاية الأهمية، حتى تكون الأجوبة الواقعية ناجعة.
كيف تفسر رد الفعل الأولي لرأس النظام وقياداته الأمنية إذ اعتقدوا مع اندلاع الثورات العربية واتساع رقعتها أنهم بمنأى عنها؟
ما أن يستولي الطغاة على السلطة حتى يصابوا بداء عضال لا براء منه على الإطلاق ألا وهو داء الصمم التاريخي. وهذا الداء فيروس قاتل يشل حاسة سمع الأصوات التي لا ترضي الطاغية. وتقوي حاسة سمعه للأكاذيب والمدائح. وكلما قويت حاسة سمعه للأباطيل تفاقم مرض فقدان حاسة السمع للواقع وللحقائق. ولمن لا يعلم، فإن التاريخ وفيٌّ لذاته، فلا يطيق توقفًا طويلًا أو قصيرًا، وإذا ما اعترضه عارض سرعان ما يدق ناقوسه الدائم معلنًا أن أوان جريانه قد حان، وأنه على وشك أن يجرف من أمامه كل ما يعيق مساره.
ولم يحصل أبدًا في التاريخ أن سمع الطاغية ناقوس التاريخ حتى لو كان ضربه ضجيجًا. ينمو التاريخ خفية، ويظن الطاغية أن السكون هو الحال. ويترافق داء الصمم التاريخي مع عماء القوة. وعماء القوة أشبه بعماء الألوان، حيث العين لم تعد ترى إلا لونًا واحدًا، وما عادت تميز بين الألوان وبخاصة اللون الأحمر. كان النظام مصاباً بداء الصمم التاريخي الناتج عن عماء القوة، عماء القوة المؤسس لاحتكار القوة، واحتكار القوة المؤسس للديكتاتوريات بكل أنواعها الملكية والجمهورية.
كانت الجماعة الحاكمة تعتقد بأنها عبر جيش كبير، وجهاز أمن سياسي واسع وقاسٍ إلى حد أنه قد خلق الرعب والخوف على امتداد عقود من الزمن، وعبر الإمساك بمفاصل السلطة كلها ومؤسساتها، قادر على أن يسحق أي محاولة تمرد مدني أو عنفي إن جرى، وكان في ذهنه أنه لن يجري شيئ. والحق بأنني كنت أرى القادم بكل وضوح وكنت أخشى حمق النظام. لن أذيع سرًا إن قلت لك مايلي: لقد ذهبت إلى الدكتورة نجاح العطار نائبة رئيس الجمهورية والتي تربطني بها وبزوجها الكريم علاقة صداقة عائلية، وقلت لها بالحرف الواحد وكان ربيع دمشق بأوله: “يا دكتورة نجاح، يبدو أن النظام ليس لديه إحساس بالواقع، اذهبي وقولي للرئيس بأن التاريخ هذه المرة لن يستطيع أحد أن يقف في وجهه، لقد قرع التاريخ الباب، فليفتح له الباب وليدع التاريخ يجلس في المكان الذي يريده، وإلا فإن التاريخ عنيد ولا يكترث بأحد، فإن أغلق الباب أمامه فإن التاريخ سيخلع الباب ويدخل وبالعنف وسيجلس في المكان الذي يريد ولكن بعد أن يدمر كل شيئ في طريقه”.
وحين سألتني ماذا عليه أن يفعل؟ كتبت لها ورقة تقول بالحرف الواحد: حل مجلس الشعب، جمعية تأسيسية سورية جديدة من النظام والمعارضة مناصفة، تُعقد برئاسة رئيس الجمهورية، وزارة وحدة وطنية، دستور جديد للبلاد، إلغاء أي تدخل من أجهزة الأمن في شؤون العباد، تقوية جهاز الشرطة، استقلال القضاء، تأميم شركتي الاتصالات “سيرياتل” و “م. ت. ن”، الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين لتحقيق المصالحة الوطنية.
ومن على مدرج جامعة دمشق أمام مئات الأساتذة -وكنت قد بُلِّغت من رئيس القسم بضرورة الحضور بناء على طلب الفرع- قلت في المدرج عام 2011: عليكم أن تسألوا الأسئلة الصحيحة حتى لا تنفجر البلاد، عليكم أن تسألوا: لماذا الطبقة الفلاحية بغالبيتها ضد النظام؟ لماذا الحراك سني؟ ماذا ستصنعون إذا تظاهر الله مع المتظاهرين؟ وكتبت مقالي الشهير “حين يتظاهر الله”. لم يستمعوا لأحد، أجل كانوا مصابين بعماء القوة وداء الصمم التاريخي.
مع هيمنة الأطراف المسلحة بأنواعها واتجاهاتها على مفاصل الحالة في سورية وما يبدو من غياب للحراك الشعبي، والتدخل المباشر والقوي للقوى الإقليمية والدولية في هذه البلد، إلى أين تتجه سورية برأيك؟
أنا لا أعرف ما الذي سيكون، لكن كل ما أعرفه هو التالي: إن السلطة التي أسسها حافظ الأسد عام 1970 بكل بناها، قد انهارت إلى غير رجعة، فالقوة توزعت على عدة جماعات، أي لم تعد السلطة محتكرة للقوة، والاقتصاد السوري الموحد صار في خبر كان، والولاء الشكلي قد انهار، وسيادة الدولة على أرضها لم يعد موجودًا، والدول الإقليمية وروسيا وأمريكا تعبث بالأرض السورية دون اكتراث بأحد، والوضع العالمي لم يعد باستطاعته أن يمنح النظام ورأسه الاعتراف مرة أخرى، وأمراء الحرب، من أمراء السلطة أو من أمراء الحركات الدينية، يتصارعون انطلاقًا من مبدأ الغنيمة. وأهداف الشعب السوري مازالت هي هي: دولة ديمقراطية – علمانية، تحفظ كرامة الإنسان وحريته، وهذا هو الذي سيتحقق في النهاية بهد أن تصل التراجيديا السورية إلى النهاية. أما أن الشعب قد غاب فهذا ليس إلا شكل مؤقت فرضه السلاح، إنه حاضر، وسرعان ما سيظهر مجددًا، لا يمكن أن يختفي الشعب بأهدافه.
هل لديك مخاوف من أن تتعرض سورية للتقسيم بعد كل ذلك؟ وما هو السبيل الواقعي للخروج من هذه الكارثة الإنسانية؟
التقسيم ليس خياراً شعبياً سورياً، التقسيم مصلحة سلطوية كخيار أخير، وشكل من أشكال استسلامه، وخيار إيراني، فإيران ضد أية دولة مركزية موحدة في الشرق، وخيار روسي لا يريد إلا المتوسط، وخيار داعشي إذا تمكنت من منطقة ما. طبعًا التقسيم أمر صعب التحقق لما هنالك من تداخل سكاني جغرافي أولًا وبسبب أنه لن يجد قبولًا لا على المدى القصير ولا على المدى البعيد، والتقسيم إن حدث فعلًا فإن سوريا ستعيش حالات صراع طويلة الأمد، لأن التقسيم لا ينفصل عن التهجير فعلًا.
قال أوباما قبل ثلاث سنوات “إنّ الصراع الكامن في سورية يعودإلى خلافات طائفية قديمة“. اليوم ومع تزايد الحديث عن “حرب أهلية سورية“، هل تراها كذلك فعلًا؟
أوباما رئيس جاهل بتاريخ الشرق، ويريد أن يظهر بمظهر المثقف العارف، ما هي الخلافات الطائفية القديمة التي حصلت في سوريا؟ فما خلا جبل لبنان والحرب بين الدروز والموارنة التي تعود أصولها إلى حرب طبقية أساسًا لم تشهد المنطقة حروبًا أهلية طائفية، والشام بلد تتعايش فيه الطوائف منذ مئات السنين، وإذا تحدثت عن سوريا الراهنة التي نشأت بفعل التقسيم الإستعماري لبلاد الشام فإنها تكونت وفق عقد وطني شاركت فيه جميع مكوناته كما شاركت في سلطة العقد الوطني، الآن مع تغول النظام واعتماده على مؤسسة عسكرية وأمنية ذات أغلبية طائفية ودخول الميليشيات الطائفية من العراق ولبنان وإيران حوّل النظام الحراك الشعبي السوري إلى معركة طائفية مع حركات جهادية سنية لا تمثل الأكثرية السنية السورية التي ما زالت تطرح الدولة الوطنية بعقد وطني وعقد اجتماعي جديدين. بل إن الشعارات التي رفعها السوري في الساحات ورددتها الحناجر المتظاهرة لم تنطو على أي مضمون طائفي. ولهذا فإن الطائفية الآن قشرة خارجية سرعان ما ستزول بزوال بنية النظام الحاكم.
هل ترى أن المعارضة السورية فشلت في تحويل قضيتها إلى مطلب عالمي؟
إن سياسة الدول الكبرى تجاه الثورة السورية لم تتحدد وفق إرادة المعارضة السورية، بل على العكس أرادت الدول الكبرى من المعارضة السورية أن تسلك وفق أجندتها هي، وربطت دعمها وموقفها من المعارضة بمدى استجابة المعارضة لها، أكبر خطأ ارتكبته المعارضة هو أنها وثقت بالغرب وأمريكا. وبالتالي يجب أن تصل المعارضة إلى مرحلة من الاستقلال بحيث تكون قادرة على توظيف قوة العالم لصالحها. يجب دراسة تجربة منظمة التحرير الفلسطينية وأبو عمار بهذا الشأن.
كيف ترى علاقة المثقف السوري بالثورة؟
ما زلت أعتقد بأن المثقف بعامة هو ضمير الأمة، ضمير الشعب، أو قل هكذا يجب أن يكون، الخطاب مسؤولية، مسؤولية في اللحظات التي يكون الشعب فيها في حالة تحقيق مصيره. لقد انتمى معظم المثقفين السوريين من كتاب وشعراء ومفكرين إلى الحراك الثوري السوري بلا تردد، وهذا واضح للعيان، وها أنتم ترون أن نخبة المفكرين والمخرجين والفنانين ورسامي الكاريكاتور والصحفيين قد وقفوا إلى جانب الثورة. وتشبه هجرتهم إلى بلاد الدنيا هجرة المثقفين الألمان أيام هتلر وما كتب خلال الخمس سنوات شيء عظيم. وبالمقابل ستجد بأن معظم من يقف إلى جانب المستبد هم من ظهرت انتماءاتهم الضيقة، انتماءاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الثقافية وهم في الغالب من ذوي النفسية الرعاعية والخالية من الموهبة.
إنك لتندهش من شاعر يقف مع الطاغية وهو يشاهد عشرات الآلاف يقضون ببراميله المتفجرة، يصيبك القرف من مثقفين وشعراء فرحين بالنازي الجديد بوتين وهو يدمر أحد أعظم مدن التاريخ. هذا السقوط الأخلاقي نادر في التاريخ. أما الصامتون في الداخل فهم بلا شك مع الثورة، ومعذورون أمام الخوف من همجية النظام بل هم أكثر شجاعة من الأبعد عن الخطر المباشر.
ماذا تغير برأيك في سيكولوجيا المواطن السوري بعد هذه المحنة المتواصلة لأكثر من خمس سنوات؟
دفع خوف السلطة الحاكمة أو الجماعة الحاكمة من الشعب إلى اعتماد سياسة إخافة الشعب، ولأنها خائفة على وجودها من المستقبل الذي يقع بالضرورة في تناقض معها فإن وعيها بالعالم قائم على زرع الخوف في نقيضها من المستقبل المعبر عنه بالقوى الجديدة الشجاعة التي تريد تجاوز الواقع والماضي معًا من أجل عالم أفضل أساسه الحرية. وكلما ازداد خوفها هذا ازدادت أدوات إخافتها للقوى الناهضة والنقيضة. فاستخدمت أعلى درجات القمع التي لا يتصورها العقل السليم. فالسجن والقتل والاغتيال وكم الأفواه وتحويل رجال الأمن إلى مصاصي دماء وتحطيم القيم وتدمير المعقول، كل هذا التهور من أجل إخافة قوى التجاوز من الخائف أصلًا الذي هو هي.
فتكونت نفسية الشعب الرافض في سريرته والخائف من بطش السلطة، فصار لدينا خائف باطش وشعب رافض خائف. حين تم الانفجار الثوري تغيرت نفسية الشعب الخائف إلى شر مقدام شجاع، فيما ظلت الجماعة الحاكمة خائفة، وهذا ما دعاها لاستقدام الوسخ التاريخي الميليشيوي الطائفي من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان.
ومع الثورة استعاد السوري وعيه بالإنتماء إلى وطن يسعى نحو التحرر، وبالتالي استعاد النفسية المليئة بالشعور الوطني والشعور بالكرامة الإنسانية التي حاولت الجماعة الحاكمة تدميرها.
بماذا تفسر وقوفك وفلسطينيين آخرين إلى جانب الثورة السورية، ونحن نعلم أن حال الفلسطيني في سورية كان أفضل مما هو عليه في دول الجوار؟
يعرّف اللاجئ الفلسطيني في سورية نفسه بأنه فلسطيني سوري، وهو نمط من التعريف لا يعرف فيه اللاجئ الفلسطيني نفسه في أماكن لجوء أخرى. وسبب ذلك هو أن الشعب السوري بكل تنوعه بما يتمتع به من شعور بالمركزية في بلاد الشام نظر إلى الفلسطيني على أنه جزء لا يتجزأ من نسيجه الوطني من جهة، وكذلك للقانون السوري رقم (60) الذي اتخذه المجلس النيابي السوري عام 1956 الذي ساوى بين السوري والفلسطيني بجميع الحقوق باستثناء ما يتعلق بالانتخابات والذي أَشعر الفلسطيني في سوريا بأنه سوري. هذا القانون سمح للفلسطيني أن يتواجد في كل مناحي الحياة السورية، بدءًا من المهن الإدارية في الدولة وانتهاءًا بالتجارة، مرورًا بالحرفة..
وحتى مع ظهور منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لم يغير السوري والفلسطيني من وعيه بالآخر، بل إن أكثرية أصدقائنا السوريين، حين قام النظام على الاعتداء على منظمة التحرير، وعلى حركة فتح بالذات وقفوا إلى جانب الفلسطينيين دون تردد.
بعد قيام الثورة السورية انسحبت حالة المواقف الشعبية السورية منها على الفلسطينيين، فقلة منهم وقفت إلى جانب النظام إلى حد تشكيل ميليشيا مسلحة تقاتل إلى جانبه، والأكثرية وقفت إلى جانب الثورة وإلى الحد الذي راح جزء منها يقاتل النظام إلى جانب الأكثرية السورية. وهذا أمر طبيعي، بالتالي لن ينفصل مصير الفلسطيني السوري عن مصير السوري.
وأنت تعلم أن الفلسطيني السوري جرى عليه ما جرى للسوري، وعاشوا معًا تجربة السجون في أقبية النظام، ويضاف إلى ذلك صور العداء التي أظهرها النظام للكفاح الفلسطيني، وبخاصة صورة العداء لأبي عمار الذي كان يشكل حالة رمزية لعموم الشعب الفلسطيني، ومحاولاته الدائمة لشق الصف، والفلسطيني لن ينسى الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي والأسدي على عدوان 1982باحتلال 40 كيلومتر مربع كما ورد على لسان الأسد حين أشار في كلمته بعد الحرب إلى ذلك بقوله: “قالوا لنا أربعين كيلومتر، فأين هي الوعود” وإخراج المنظمة من لبنان. هذه العوامل وغيرها هي التي تفسر وقوف الفلسطيني بعامة إلى جانب طموح الشعب السوري بالحرية.
أخيراً، أين تجد نفسك أكثر، إضافة إلى الفلسفة، في الكتابة الشعرية أم السياسية؟
كتبت مرة مقالة عن معنى الكتابة كما أعيشها فقلت: “يسألونك عن الكتابة، قل إن هي إلا نداء داخلي لا تستطيع معه رفضًا. فيض إن حوصر في صدرك قتلك. هاجس دائم بالحاضر والمستقبل، بالأشياء الصغيرة والكبيرة. الكتابة حضور للكاتب في الوجود. معناه الحقيقي، وحدة الكاتب الذي لا يتصوَّر نفسه على نحو آخر. مِنَ الفيلسوف الذي يمضي عمره باحثًا عن حقيقة يفترسها، إلى الشاعر الذي يجعل من لهب الأنا كلامًا”.
الكاتب فرح بوجوده على هذا النحو، بل أنا لا أرى وجودي إلا في الكتابة. في الفلسفة أجد نفسي في رؤية كلية للوجود، في معركة اكتشاف الأسئلة الكبرى ومعركة البحث عن الأجوبة الكلية، هذه الكتابة الفلسفية قاهرة للزمن الإنساني: فالأنا والذات والعقل والحريّة والعواطف وما شابهها من موضوعات اشتغلت عليها وأشتغل برؤية فلسفية خالصة وخاصة بي بعد أن قمت بقتل الآباء استعدت بها معنى الفلسفة الأول: “حب” الشعر الذي آوي إليه ويأويني لا ينفصل عن فلسفتي، بل قل شعري هو حدسي الفلسفي في إهاب شعري جمالي متحرر من قوة المنطق ومطالبه القاسية، لذلك تجربتي الشعرية خاصة جدًا. في الشعر أتحرر من التحليل والتعريفات وأذهب مباشرة إلى الحال. باستطاعتي أن أكتب نصًا فلسفيًا طويلًا عن الحزن معززًا بكل منجزات العلم، وقد فعلت ذلك في “الأنا” حين كتبت عن حزن الحنين، في الشعر أكتب شذرة شعرية أو قصيدة عن الحزن تختصر الحس الفلسفي بزي جمالي:
أيها الحزن الذي أزهرني
أنا لا أبكي الطلول
إنما حزني حزن لا يحول ولا يزول.
في الكتابات الفكرية المتعلقة بحاضر العرب ومستقبلهم أعلن انتمائي إلى الأمة ومشكلاتها بوصفي مثقفًا غرامشويًا، هذا ما فعلته في “العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ” و”دفاعًا عن الأمة والمستقبل” إلخ. في المقال السياسي انخرط في اليومي الذي يوحي لي بالأفكار. ولكن كل هذا الذي أكتبه مفعم بروح الفيلسوف وبروح الفلسفة.
أما أحمد برقاوي الأكاديمي فهو الأستاذ الجامعي الذي يقدم نصوصًا هاجسها تعريف الناس والطلبة خصوصًا بموضوعات أثيرة لدي: الفلسفة العربية المعاصرة، عصر النهضة العربية، وابن رشد معاصرًا، ودراسات في الموسوعات: الإبستيمولوجيا، الأيديولوجيا، الزمن، المدة، الأوطوبيا، ابن حزم في الرد على الكندي الفيلسوف، إلخ. لا شك بأن نفسي تحب الفلسفة والشعر أكثر من سواهما. لا تسألوا الكاتب لماذا يكتب، هذا أشبه بسؤال العاشق لماذا يعشق.