قبل ثلاثة أسابيع زرت الشاعر أحمد دحبور في بيته. أتعبه المرض وغسيل الكلى، وزاد الطين بلة أنه فقد زوجته أم يسار وهو في أمس الحاجة إليها. ومن المؤكد أن طموح الشاعر، الآن، يختلف عن طموحه يوم كان شاباً أو يوم كان مكتمل الرجولة.
أردت أن أسأله عن طموحه الآن، إن كان له طموح، فخجلت. كان مرهقاً ومنهكاً، ومن المؤكد أن سؤالي سيتعبه أكثر، وأنه لو كان قادراً على السخرية لسخر مني: أهذا سؤال يوجه إلي الآن، وبالتمام الآن؟
عادت بي الذاكرة إلى قصيدة قديمة له كتبها وهو في تونس في ١١/٣/١٩٨٥، ونشرها، ابتداءً، في مجلة “الكرمل”، ثم أعاد نشرها في ديوانه “هكذا” (١٩٩٠)، الديوان الذي أهداه إلى معلمه في المدرسة ومعلمه فن الشعر (موريس قبق). يومها كان الشاعر في الأربعين -أعني يوم كتب القصيدة- فهو من مواليد حيفا في ١٩٤٦. وفي الأربعين يكون المرء قوياً كما لو أنه حصان أصيل يجوب البراري. ماذا كان طموح الشاعر أحمد دحبور في حينه؟
لنقرأ قصيدته “سجل الطموح”:
هذا سجل طموحي:
أن أشرب الشاي فجراً، وأستقل المدينة
إلى كنوزي الدفينة
وأن أراسل من رافقت جراح نزوحي
حتى أحقق هذا، أحتاج -أول شيء- إلى مدينة روحي.
وما مدينة روحي؟
وقت، وأرض أمينه
وذكريات، وشارع
ماذا؟ أهذا كثير؟ وأنني غير قانع؟
أم غامت الأرض
حتى تراجع البحر،
حتى لا بر لي أو سفينة؟
من أجل فنجان شاي
ودفتر،
وطوابع
لا بد لي من قلاع، وعسكر، ومدافع
في ذلك الوقت -أي في العام ١٩٨٥- لم يكن طموح الشاعر ليختلف عن طموح الفلسطينيين في المنافي: العودة إلى الوطن.
تحيل قصيدة “سجل طموحي” قارئ الأدب الفلسطيني إلى رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” (١٩٦٩). في الرواية يطمح “سعيد. س” إلى العودة إلى بيته في حيفا واسترجاع ابنه خلدون الذي كان تركه، في غمرة الحرب وفوضاها، رضيعاً. لا يستعيد “سعيد. س” ابنه ولا يستعيد بيته، ويقرّعه ابنه خلدون/دوف على ما جرى. هنا يدرك “سعيد. س” أن تسوية الأمر يحتاج إلى حرب “تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب.” والحرب تحتاج إلى عسكر وقلاع ومدافع .
طموح الشاعر أحمد دحبور، في حينه، كان طموحاً مشروعاً، وما زال، وهو طموح الفلسطينيين في المنافي، وما أخشاه هو أن يربح الطرف الآخر مع مرور الزمن ونخسر طموحاتنا البسيطة.
في الفترة التي كتب فيها الشاعر أحمد دحبور قصيدته، أصدر الشاعر محمود درويش ديوانه “هي أغنية…هي أغنية” (١٩٨٥)، وكان ينشر قصائده في الصحف والمجلات. من بين قصائد الديوان قصيدة عنوانها “نزل على بحر” استوحاها الشاعر من حالة التشرد التي ألمت بالمقاتلين بعد حرب بيروت (١٩٨٢)، وفيها يكتب درويش عن الخروج من بيروت وتشتت الفلسطينيين في هذا الزبد، أي العالم العربي. كان الفدائيون مرهقين، بخاصة بعد قتال دامٍ استمر ثلاثة أشهر. ماذا كتب الشاعر عن تطلعات الفلسطينيين في المنافي؟
كتب:
ونريد أن نحيا قليلا، لا لشيء
بل لنرحل من جديد
لا شيء من أسلافنا فينا ولكنا نريد
بلاد قهوتنا الصباحية
ونريد رائحة النباتات البدائية
ونريد مدرسة خصوصية
ونريد حرية
في حجم جمجمة وأغنية
ويتابع:
ونريد أن نحيا قليلاً كي نعود لأي شيء
أي شيء
لبداية لجزيرة لسفينة لنهاية
لأذان أرملة لأقبية لخيمة
وفي تلك الأثناء كتب درويش قصائد ديوان “ورد أقل” وفي قصيدة “رأيت الوداع الأخير” قال:
ولكنني لا أرى القبر بعد،
ألا قبر لي بعد هذا التعب؟
طموح الشاعر أحمد دحبور، في حينه، كان طموحاً مشروعاً، وما زال، وهو طموح الفلسطينيين في المنافي، وما أخشاه هو أن يربح الطرف الآخر مع مرور الزمن ونخسر طموحاتنا البسيطة. للشاعر أحمد دحبور السلامة. لعل هذا هو طموحه الآن.