بعد أن غادر مخيم اليرموك قسراً قبل ثلاثة أعوام، لم يهدأ الفنان الفلسطيني/السوري هاني عباس أو يستسلم لقدر اللجوء الذي فُرض عليه، بل راح يعمل على مشاريع فنية في مكان إقامته في سويسرا، تسعى إلى إيصال صوت الإنسان إلى العالم، كان آخرها عمله على الإسفلت كمادة خام لصنع لوحاته. عن مشروعه الفني، والكاركاتير، وفلسطين واليرموك واللجوء كان لرمّان معه هذا الحوار..
من الإسفلت الطبيعي والأيقونات/الأشخاص الصفراء صنعت لوحاتك وأقمت معرضاً فنياً هو الأول من نوعه في العالم، هل يمكن اعتبار هذا العمل أنه يتخطى أعمالك السابقة نحو جديد لم تحدد معالمه في مسيرة أعمالك، أم أنه كما عبرت سابقاً عن لوحتك “صرخة سورية” التي رسمتها فور وصولك إلى جنيف وانتشرت بشكل كبير، بأنها كانت “أقرب إلى الفن التعبيري منها إلى الكاريكاتير”؟
طبيعة رسام الكاريكاتير الحقيقي هي التفكير الدائم وملاحظة الأشياء التي لا ينتبه لها أحد عادة، والبحث عن التفاصيل الدقيقة، والفكرة الخام. خلال الفترة الماضية كنت أحاول أن أعطي للأفكار القوية حقها، وأسعى للابتعاد قدر ما استطعت عن الاستهلاكية في الأفكار، وهذا ترتب عليه تركي لعدة منابر كنت أعمل بها.
إعطاء الفكرة حقها يتطلب الذهاب بالتفكير بعيداً مهما كانت صعوبة تنفيذ بعض الأفكار، شيء يشبه البحث العلمي وهو تماماً ما حصل معي في إنتاج هذا المعرض إذ بقيت أكثر من سنة ونصف وأنا أحاول إيجاد الإسفلت الطبيعي الذي يمكنني أن أصنع منه عملاً فنياً، كما قمت بالعديد من التجارب وجربت عدة خامات ومواد وأدوات للعمل.
فالفكرة هنا تصبح أكبر من المجال المتخصص به، وتكمن حريتك بالخروج عن المألوف والإطار العام، وتدفعك للمضي بعيداً خارج إطار تخصصك لتصل لتحقيقها.
هذا ما حصل تقريباً في لوحة “صرخة سورية”. الفكرة كانت أكبر من أن تنفذ بصيغة كاريكاتورية. تطلبت وقتاً طويلاً لتكون عملاً فنياً يعبر بشكل أصدق عن الحالة، ودائماً هنالك قاعدة أعتمد عليها وهي أن تعطي الأفكار القوية حقها تقنياً.
فكرة محاكاة الأيقونات الصفراء للأشخاص الحقيقين بوضع مرآة في رأس الأيقونة على اختلاف أشكالها، فيرى الشخص صورته ويبقى الجسم هو الأيقونة، ما يعني وضع الأشخاص في مواقف وأجسام قد تكون بعيدة جداً عنها (كمن يعترض دبابة) وقد يسبب ذلك ما يشبه الصدمة للزائر، لرؤيته لنفسه بعيداً عن (أناه)، ماذا تقول في ذلك؟
أحاول التركيز في هذه الحالة على قضية التشابه. التشابه بين البشر وجمادات أخرى موجودة حولنا. أرى أنه من الجيد بين فترة وفترة أن يعود الإنسان إلى حقيقته المجردة، ربما تكون صدمة ولكن يجب التأمل بها جيداً، واستشعار الكونترول الضخم الذي يتحكم بالملايين من البشر، وهم بالنسبة له ليس أكثر من أشياء تشبه هذه الأيقونات الصفراء، بلا اسم وبلا إرادة، يحركها الكونترول كما يشاء، وهم بالنسبة له بنفس القيمة، بلا قيمة، مجرد أشكال تؤدي وظيفة معينة أو أرقام على جداول البورصة أو الناخبين أو الضحايا.
تتميز تلك الأيقونات بالسكون وعدم الحركة من جهة والصمت من جهة أخرى، يمكننا اعتبار ذلك واحدة من مقولات هذا النوع من الفن عبر إسقاطه على الواقع في ما يحصل من قتل وتدمير للإنسان وصمت آخرين على هذا القتل؟
هذه الأشياء تشبهنا إلى حد بعيد ويمكن إسقاطها على حياتنا بشكل عام، وليس على منطقتنا فقط، الإنسان يتم تدميره في كل مكان، الشركات الكبرى تحتل العالم شعوباً وحكومات، والإنسان لديهم ليس أكثر من مستهلك لمنتج أو عميل لمصرف أو رقم إحصائي أو حقل تجارب لسلاح جديد!
هنالك قيادة وحشية لهذا العالم، آخر همها القيم والمفاهيم الإنسانية، ولهذا ركزت على نقطة التشابه في عملية الدعس على هذه الأيقونات الصفراء، مع أنها تقوم بعمل محدد لها، تقوم بعملها.
هل يملك اللون الأصفر دلالة محددة أخرى في هذا العمل، بعيداً عن دلالة اللون الذي نعرفه؟
لا، لا توجد دلالة معينة أكثر من أن الأيقونات البشرية الصفراء تُرسم عادة على الطرقات باللون الأصفر لجذب انتباه الناس.
ذكرت في تعريفك للمعرض أن طيف فكرته راودك قبل ثلاثة أعوام أثناء مرورك في أحد شوارع سويسرا، في المقابل عبّرت منذ فترة قصيرة على حسابك في الفيسبوك عن بعدك عن الشرق/موطنك الذي هُجِرتَ منه، منذ ثلاث سنوات أيضًا، كيف أثر عامل الزمن هذا في أعمالك؟
نعم حدث ذلك بعد وصولي إلى سويسرا بعدة أيام، عندما شاهدت الأيقونات منتشرة على الأرض وتصور في بعضها شكلاً من أشكال حياتنا… لفتت انتباهي بشكل كبير جداً، أثرت بي كثيراً.
هنالك عدة عوامل أثرت في عملي وعمل الكثير من الرسامين السوريين، الزمان والمكان والأحداث. لا يمكن أن تكون منفصلاً عما يجري في مكانك الأصلي وبنفس الوقت عليك أن تدرك بأنك الآن في مكان آخر له متطلباته الحياتية أيضاً، من الصعوبة أن تكون في مكان ما وكل تفكيرك وإحساسك في مكان آخر، صراع المكان الحقيقي والمكان المعيش داخلياً، أما الزمن فيمضي بطيئاً وثقيلاً من عبء الذاكرة، ما نفقده في الواقع، يضاف إلى الذاكرة لتحمله… فتخيل كم تحمل هذه الذاكرة!
بُعدَك عن مخيم اليرموك وسورية وفلسطين، وما رافق ذلك من معارض وجوائز وعالمية استحقيتها بسبب التزامك الإنساني في فنك وعدم تأثرك بالتجاذبات السياسية الحاصلة. كيف أسهمت وتسهم تلك العالمية في نقل مأساة الشعب الفلسطيني والسوري لما حل بهم خلال سنوات خلت، وكيف استفدت من فرصة وجودك في مكان يحترم الإنسان والفن والإبداع؟
أنا دائماً أبحث عن المادة الخام، الفكرة الخام، حتى في طريقة تفكيري أركّز على القضايا البدهية والبسيطة بعيداً عن التعقيدات، أبتعد عن التجاذبات السياسية لأني لا أحب السياسة ولكن هذا لا يعني أنني لا أتخذ موقفاً، وموقفاً صارماً تجاه ما يجري، أقله أنني أسمي القتلة وأتباعهم ومؤيديهم، ولدي موقف واضح تجاه من يدعي الثقافة ويتخذ موقفاً سلبياً تجاه المجزرة الكبيرة التي تحصل سواء في فلسطين المحتلة بلدي الأم، أو في سورية.
الالتزام الإنساني متأصل بالنسبة لي وهو لا يعني الحيادية إطلاقاً. قول الحقيقة وكشفها، والحرية في قولها والتعبير عنها هو جزء أصيل من الإنسانية. الشعوب في العالم تناضل وتصرخ من أجل أبسط حقوقها وتفتخر بنضالاتها في سبيل ذلك وتفتخر بدفاعها عن قيمها وأراضيها، وتحاسب بقسوة كل متسبب بأي أذية صغيرة لمكتسباتها، فالإنسانية أيضاً لا تعني السكوت عن الحق أو المطالبة به.
هذه الأشياء تشبهنا إلى حد بعيد ويمكن إسقاطها على حياتنا بشكل عام، وليس على منطقتنا فقط، الإنسان يتم تدميره في كل مكان، الشركات الكبرى تحتل العالم شعوباً وحكومات، والإنسان لديهم ليس أكثر من مستهلك لمنتج أو عميل لمصرف أو رقم إحصائي أو حقل تجارب لسلاح جديد!
مخيم اليرموك حيث ولدت ونشأت، له الجزء الأكبر من الذاكرة بأمكنته وناسه، حياة كاملة عشتها هناك، ولا زلت متأثراً بما يجري على المدنيين فيه بالتأكيد، من حصار استمر لأكثر من ثلاثة أعوام، واعتقال وقصف متكرر، بالإضافة لما يجري بداخله من عملية قتل منظم للإنسان يتحمل مسؤوليته الكبرى مَن يحاصر المخيم، ناهيك أن الجرائم البشعة التي تُرتكب داخل المخيم هي نتيجة لهذا الحصار والقهر الممارس، ولا تقل بشاعة عن بشاعة الحصار.
المخيم هو المؤقت، وفلسطين هي الدائم. العلاقة الجدلية الكبيرة بينهما تفضي إلى صراع نفسي بين المؤقت والدائم. التمسك بالمؤقت لأجل الدائم أو تخطي المؤقت والمضي نحو الدائم لتصل إلى خصوصية كل مكان في قلبك وفكرك. وإن كان صحيحاً بأن المخيمات هي حدث مؤقت، إلا أنها كانت نواة لتكوين طريقة تفكيرنا ونظرتنا تجاه الدائم/الدائمة فلسطين.
هل ما زلت تمارس تدريس الفن في مدارس جنيف وما هي النتائج التي حققتها خلال تدريسك؟
نعم، لازلت أقدم حصص الرسم في مجموعة مدارس جنيف الدولية بنظام الحصص، هنالك نتائج على الصعيد الشخصي وهي التواصل مع جيل جديد من الطلاب وملاحظة الفروق في إدراك طبيعة الأشياء والنظرة إلى الحياة بيننا عندما كنا في أعمارهم وبينهم أو بينهم وبين أبنائنا الآن.
أيضاً هنالك إعادة تنشيط لدماغي عندما أتواصل مع طلاب أدمغتهم لا تزال نقية وصافية وجريئة في طرح الأسئلة وعرض الأفكار، ناهيك أن إيجاد مكان للعمل في هذا المكان هو أمر مهم جداً بالنسبة لي.
أنا الآن في السنة التعليمية الثالثة لي هنا وهذه نتيجة إيجابية بالنسبة لي أن الإدارة مستمرة معي للمرة الثالثة وهو مؤشر لنجاح في هذا العمل إلا أنني أرغب في تطويره بشكل أكبر.