في التجربة الإنسانية الإبداعية لا تبتعد الكتابة عن الرسم كثيراً، فهما وإنْ اختلفا في أدوات الخلق ووسائل التعبير وطرق الانتشار، إلا أنهما ينتميان إلى عوالم إبداعية متقاربة ذات خصوصية تخاطب الوجدان والروح، ويسعيان إلى الكشف عن جوهر الأشياء بأكثر المواد هشاشة ورقّة: الحبر واللون. وكثيرة هي تجارب الكتاب المبدعين التي برهنت على هذه العلاقة الأليفة التي تربط بين الكتابة واللوحة: فعالميًا هنالك فيكتور هوغو، وأنطونان آرتو، وهنري ميشو… وعربيًا هنالك جبران خليل جبران، وفاتح المدرس، وأدونيس… وفلسطينيًا هنالك جبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم نصر الله، وفاروق وادي، وغسّان كنفاني…
ولقد عبر صاحب «عائد إلى حيفا» في كل ما أنتجه من إبداع، عن معاناته ومعاناة شعبنا الفلسطيني، وربما لا يعرف سوى المهتمين أن كنفاني كان إلى جانب إبداعه الصحفي والقصصي والروائي، ودوره النضالي السياسي، فناناً تشكيلياً مبدعاً أيضاً. وذلك جانب هام من رحلة عطائه، جانب فسح له المجال واسعاً لتفريغ ما حمل من فكر وهم ورؤيا، على سطوح بيضاء لتكون لوحات يحاكي من خلالها الآخرين.
وكان غسّان أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. في كل منجزه الأدبي والفني، كان عدسة نقية تنقل بصدق وبحس مرهف صورة الواقع الفلسطيني المؤلم بكل مرارته وقساوته وما يمتزج به من إرادة التحدي والتغيير.
ولا يختلف اثنان على ما ذهب إليه الفنان التشكيلي الفلسطيني عبد الله أبو راشد، من أن أهمية ومكانة غسّان كرسّام لا تقل عن أهميته ومكانته الأدبيّة والفكريّة والسياسيّة، كما لا تقل أهمية لوحاته الفنيّة عن نصوصه المسرودة والمكتوبة في كافة ميادين الأدب والنقد والسياسة، إذ هي لا تفارق مساحة تفكيره وكتاباته، مندمجة في كافة معابره الإبداعية، إلا أن قصور كافة المؤسسات والهيئات الفلسطينية لهذا الجانب الإبداعي عند صاحب «رجال في الشمس»، عرضها للإهمال وعدم التوثيق، فالكثير من لوحاته ورسومه ما زالت مجهولة حتى على أهله ورفاق دربه وجمهوره ومحبيه.
لوحة العودة، الطريق نحو فلسطين
يقول والد غسّان في مذكّراته إنه: “بتاريخ 12/2/1950 أرسلت تحريراً إلى وزير خارجية إيطاليا بشأن ميول غسّان. وأنا شخصياً لا أشك بأن المستقبل باسم وزاهر أمام غسّان، خصوصاً في الرسم والخط والأدب العربي سواء في نطقه أو كتابته أو ارتجاله…” وأضاف: “عودنا غسّان أن تكون هداياه لنا بالمناسبات أو الأعياد الدينية والوطنية رسائل أو لوحات يرسمها”.
وهذا ما أكده لي شقيقه الأصغر الكاتب عدنان كنفاني لدى زيارتي له قبل عامين، في البيت الذي عاش فيه غسّان مع أسرته في حي الميدان الدمشقي، ومن حسن حظي أنه قدم لي عدنان يومها نسخة من اللوحة الأصل لما عُرف بـ “لوحة العودة” والتي تُعد من رسوم غسّان (1962)، والتي أرسلها لشقيقته فايزة المقيمة آنذاك بالكويت، وكانت فايزة قد أهدتها بدورها لشقيقها عدنان.
ومما يذكر عن بدايات غسّان في عوالم الرسم، أنه ذات صباح وقد كانت الشمس تلقي بأشعتها السّنبلية لتلج غرفة الصّف عبر النافذة، وقف غسّان أمام التّلاميذ الذين رأى فيهم قامة الوطن، ونظر إليهم متأملاً وقال: ارسموا تفاحة، أُخذَ بضوء الشمس فرأى الحقيقة، تحول الوطن إلى خيام، تتبعها، أبصر ما يجب أن يبصر.
استدرك، قال بأعلى صوته: “لا، لا ترسموا تفاحة”، واخفض من وتيرة صوته قائلًا: “بل ارسموا خيمة”. ومنذ تلك اللحظة رسم الخيمة… الثورة، وتعاقبت السنون عليه فرسم للوطن، للشعب والأرض.
كان غسّان يومها لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وكان حينها مُعلماً لمادة التربية الفنية (الرسم والأشغال الفنية) في مدرسة «معهد فلسطين» في حي الأمين بمدينة دمشق القديمة، التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
وهكذا شكل درس الرسم الشهير عن “التفاحة والخيمة” بدايات صاحب «أرض البرتقال الحزين» في عالم اللون، يحرّض أنامل الأطفال وأقلامهم، شاحذاً هممهم للعودة لأرض الآباء والأجداد، رسم لهم ليرسموا معه الطريق نحو فلسطين.
وقد مكّنه عمله كمعلم فنون من السفر إلى الكويت عام 1956 والعمل مُجدداً معلماً للتربية الفنية والرياضية في مدارس العاصمة الكويتية الرسمية، وكان أن شكلت هذه المرحلة سِفْر البداية لنشر كتاباته الأدبية في الصحافة الكويتية تحت أسماء مُستعارة.
توثيق سبعة عشر لوحة رسمها غسّان
قضى غسّان كنفاني حياته القصيرة (36 عامًا)، مناضلاً، وصحافياً، وكاتباً، وسياسياً، وروائياً، وقاصاً، وكاتباً مسرحياً، وناقد أدبياً، وباحثاً، ودارساً، وفناناً تشكيلياً، على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية.
ويقال إن “غسّان كنفاني الذي عاش زهاء ستة وثلاثين عامًا، رسم أيضًا ستة وثلاثين عملاً زيتياً وملوناً”، وهو ما لم يستطع شقيقه (عدنان) تأكيده لي عند زيارتي اليتيمة له، والثابت هنا أن ما استطعت جمعه – حتى تاريخ نشر هذه المقالة – هو سبعة عشر لوحة فقط، بما في ذلك رسومه على بطاقات المعايدة أو مغلفات رسائله لعائلته في الكويت، إضافة لتصميم من الأسلاك جمع بين خارطة فلسطين وبندقية.
أما الأعمال التي أنجزها غسّان بالفحم أو بتقنيات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة، إذ كان ينشرها بمحاذاة النص القصصي أو القصيدة في النشرة الملحقة لصحيفة «المحرر» في ستينات القرن الماضي عندما كان يعمل في الصحيفة.
أما الأعمال التي أنجزها غسّان بالفحم أو بتقنيات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة، إذ كان ينشرها بمحاذاة النص القصصي أو القصيدة في النشرة الملحقة لصحيفة «المحرر» في ستينات القرن الماضي عندما كان يعمل في الصحيفة.
ومعروف عن غسّان أنه كان ينفذ الرسوم التوضيحية لقصصه التي كان ينشرها في صحيفة “الفجر”، ومجلة “الرائد” التي كانت تصدرها جمعية المعلمين الكويتية.
ومنذ أن بدأت مجلة “الهدف” بالصدور في بيروت عام 1969، كان لـه اليد الطولى فيها إذ كان رئيس تحريرها ومخرجها ومصمم غلافها ورسّام (موتيف) الرسومات الداخلية المناسبة للموضوعات وخاصة الأدبية منها.
كما أنجز في بيروت أكثر من لوحة تعبيرية تحوّل عدد كبير منها إلى ملصق ثوري، وهو فن ازدهر في تلك الأيام التي لجأ فيها شعبنا الفلسطيني إلى الكفاح المسلح سبيلاً لتحرير أرضنا المغتصبة.
وفي معظم لوحاته التي عثرنا عليها، برزت الوجوه ذات التعابير الصارمة والتصميم الذي لا يلين قوية متحدية في ما بدا استمراراً لتلك الرسوم التوضيحية التي كان يرسمها لتنشر مع قصصه في صحيفة “الفجر” ومجلة “الرائد”.
وفي واحد من أشهر هذه الملصقات رسم غسّان فتاة رقيقة فشل الفقر وثوب اللجوء في طمس معالم الجمال البادية على وجهها، وبدت وهي تحتضن خارطة فلسطين بحنان أشبه بأم تحدب على ابنتها، ومن يتأمل في وجه تلك الفتاة التي نشرت على غلاف ديوان “حبيبتي تنهض من نومها” للشاعر الراحل محمود درويش الذي كان لا يزال في ذلك الوقت يعيش في فلسطين، فإنه سيلاحظ أن وجه الفتاة الشاحب الحزين والجميل في الآن نفسه في هذه اللوحة، يذكّر كثيرا بشخصية زينب، تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي كثيراً ما كررها الشهيد ناجي العلي – الذي كان غسّان أول من نشر له رسومه في صحافة الثورة – في أعماله الكاريكاتورية العديدة في مراحل أخرى من تطوره الفني.
قصة أم سعد والمسيح الناصري
استمد غسّان عناصر لوحاته من الواقع فتراه أكثر من رسم قبة الصخرة كرمز لفلسطين والحصان كرمز للثورة، ذلك أيام كان ما يزال طالباً، كما رسم حيثما وقعت يده ونالت من ورق لا يشغله كلام أو صورة أو رسم. أما الوجوه فقد انتقاها من الوسط المحيط به والمألوف لديه وبتماس مباشر معه تماماً مثلما انتقى شخصيات نصوصه القصصية.
قليلون هم من يعرفون أن “أم سعد” هي لوحة تشكيلية قبل أن تكون عملاً أدبياً.
ولقد احتلت أم سعد حيزاً مميزاً من رسومه ولوحاته، راسماً إياها في مواقف تصويرية وتعبيرية متعددة بألوانه الزيتية الحافلة بنشيد البكاء والأمل في آن معاً.
وبحسب النقاد فإن الناظر للوحاته يلمس أن فرشاته كانت تجد متعة في تفريغ ملامح القسوة المنتشرة فوق تضاريس الوجوه المعانقة لطبقات لونية متراكمة، يفوح منها على الدوام الأزرق الذي يميل للخضرة، مع الأبيض، وجه امرأة يشي بالمعاناة ويحمل هموم السنين.
امرأة من نساء المخيم تتدثر بالغطاء (النقاب) الأبيض، مُتدلياً على الكتفين ومُغطياً الصدر بأناقة تعبيرية حافلة بأنفاس الاتجاهات الواقعية والانطباعية والرمزية في الفن. كما تأخذ منه قصة السيد المسيح الفلسطيني (الناصري) مساحة رمزية متسعة ومفتوحة على المساءلة والتأمل من خلال لوحته الزيتية (رجل مصلوب بالوقت) وأنه مُتبصر ومُتوقع لمآل مصيره واكتشاف قدره المرسوم، شأنه في ذلك شأن ضحية مصلوبة كالسيد المسيح، باختلاف الأدوات والأزمنة والأوقات.
ومن أعماله الفنية المعروفة، لوحة “فلسطين” التي احتلت موقع الصدارة بين ملصقات الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها وحتى يومنا هذا، ولوحة “إمرأة من نساء المخيم”، ولوحة “الحصان والبردة”، ولوحة “جبال وذاكرة”، ولوحة “عنترة”.
ويذكر الفنان التشكيلي الفلسطيني عدنان أبو زليخة أن ريشة غسّان أنجزت أيضاً لوحة تنتمي للمدرسة الواقعية، وهي لوحة «رجل يرتدي قمباز»، وهي تعكس ما يختلج في أعماقه من أمواج، يضرم بحر الوجد، يسعره شوقاً للوطن وحنيناً له فتنطلق تلك الدفائن الداخلية لتطفو على المحيا فترسَم بريشته لتتجسد كحركة من أعضاء الجسد أو ملامح تغمر الوجه لتنبئ عن مقدار الشقاء والحرمان ومرارة التشرد والأسى والحزن على الوطن.
وهناك لوحة أخرى لوجه غير واضح المعالم ملفوف بكوفية، يعبر عن حالة الضياع والحزن والحيرة التي يعيشها الشعب معتمداً بذلك على القليل من الألوان أبرزها اللون البني الداكن الذي طغى على الوجه واليد، ولم يفت الفنان غسّان كنفاني أن يرسل الأمل في أجواء اللوحة من خلال ألوان الشروق في زاوية اللوحة العليا عن اليمين.
ومثلما كانت حياة غسّان شاهدة على وحشية وهمجية الاحتلال الصهيوني، كانت كتاباته ورسومه وكذلك استشهاده الشاهد الحي على أن “الكلمة الرصاصة… الكلمة المقاتلة” أمضى على أعدائنا من السلاح.
رابط لبعض الأعمال الفنية المتعلقة بكنفاني من موقع “أرشيف ملصق فلسطين”