مقدمة لرواية «مزرعة الحيوان» كتبها جورج أورويل (٢/٢)

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

04/01/2017

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

هذا القسم الثاني. لقراءة القسم الأول.. هنا

ترجمة: الطيب الحصني

المسألةُ المطروحةُ هنا بسيطةٌ جداً: هل يحق لكل رأي، مهما كان غير محبوب، بل حتى لو كان غبياً، بأن يُسمع؟ لو أنك طرحتَ الموضوع على هذه الشاكلة فإن كلَّ مثقف إنجليزي تقريباً سيجيبك بـ’نعم‘. ولكن أعطِ هذا الطرح صيغة أوضح، واسأل: ’وماذا عن مهاجمة ستالين؟ هل من حق هذا أن يُسمع؟‘ وسوف تأتيك الإجابة في معظم الأحيان: ’لا‘. والسبب أنه في هذه الحالة يوجد تحدٍ للأرثودكسية الحالية، وعندها يتلاشى مفهوم حرية التعبير عن الرأي. وبالتأكيد فإن المرء إذ يطالب بحرية الصحافة والتعبير عن الرأي فهو لا يطالب بحرية مطلقة. يجب أن يكون هنالك حد، أو على الأقل فإن بقاءه مؤكد، ما دامت المجتمعات المنظمة مستمرة. ولكن الحريّةَ، كما قالت روزا لوكسمبورغ هي “حريةٌ لذلكَ الآخر”، والمبدأ نفسه موجود في كلمات فولتير الشهيرة: “أنا أحتقر ما تقول، ولكن سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله”. إذا كانت الحرية الفكرية، وهي دون شك إحدى العلامات المميزة للحضارة الغربية، تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني أن للجميع حقاً في أن يقولوا ويطبعوا ما يظنّون أنه الحقيقة، والشرط الوحيد لذلك هو أن لا يؤذي بقية المجتمع بطريقة لا شك فيها. الديمقراطياتُ الرأسمالية والنُّسخُ الغربية من الاشتراكية تعتبر هذه الحرية مسلَّماً بها، وحكومتنا، كما وضحت آنفاً، لا تزال تظهر احترامها لهذا المبدأ إلى حد ما. والناس العاديون في الشارع لا يزالون يؤمنون على نحو مُبهَم بأنه: “أظن أنَّ لكل شخص حقاً في رأيه”، وقد يكون سبب ذلك في جزء منه هو أنهم لا يتبنون أفكاراً معينة بحيث يكونون غير متسامحين مع ما هو عكسها. وحدهم أعضاء الإنتلجنتسيا الأدبية والعلمية (أو على الأقل هم الرئيسون في ذلك) وهم الناس الذين يفترض بهم أن يكونوا حرّاس الحرية… وحدهم هم الذين بدأوا يكرهونها، في النظرية كما في الممارسة.

إحدى الظواهر الغريبة في زمننا هو الليبرالي المرتد. فعلاوةً على الادعاء الماركسي المعروف بأن ’الحرية البرجوازية‘ مجرد وهم، بات هنالك ميلٌ متفشٍ للقول بأنك لا تستطيع أن تدافع عن الديمقراطية إلا بأساليب شمولية. فإذا كان المرء يحبُّ الديمقراطية – كما يقولون – فعلى المرء أن يسحق أعداءها بأي وسيلة ممكنة. ومن هم أعداؤها؟ يتبيَّن دوماً أنهم ليسوا الذين يهاجمون الديمقراطية بوعي وعلى الملأ فقط، بل أولئك الذين يهددونها ’موضوعياً‘ عن طريق إفشاء عقائد خطأ. بكلمات أخرى، الدفاع عن الديمقراطية يتطلّبُ تدميرَ كلّ استقلالٍ للفكر، وقد استُعمل هذا المنطق لتبرير التطهيرات الروسية على سبيل المثال. إن أكثر المدافعين عن الروس حماسةً كان يدرك أن الضحايا ما كانوا كلهم مذنبين في كل ما اتهموا به: ولكنهم باعتناقهم آراء مهرطقة يتسبَبونَ بأذية ’موضوعية‘ للنظام، وبناءً على ذلك فليس من السليم إبادتهم وحسب، بل تشويه سمعتهم باتهامات كاذبة أيضاً. المنطق نفسُه استُخْدِمَ لتبرير الكذب الواعي جداً الذي جرى في الصحافة اليسارية بحق التروتسكيين وأقليات جمهورية أخرى في الحرب الأهلية الإسبانية. ومن ثم استُخدم للعواء ضد الحق في المحاكمة العادلة عندما أطلق سراح موزلي في 1943.

هؤلاء الناس لا يفهمون أنك عندما تشجع الوسائل الشمولية فقد يأتي اليوم الذي تُستخدم فيه ضدك وليس من أجلك. إذا جعلت سجن الفاشيين بلا محاكمة مسألة عادية، فإن الموضوع ربما لن يتوقف عند الفاشيين وحدهم. بعد وقت قصير من إعادة السماح بنشر ذا ديلي وركر، كنتُ أقدمُ محاضرةً في جامعة وركنغمنز في جنوب لندن. كان الجمهور معظمه من المثقفين من الطبقة الوسطى والطبقة الوسطى-الدنيا، وهو نوع الجمهور نفسُه الذي كان يلتقي في فروع نادي الكتاب اليساري. وكانت المحاضرة قد تطرقت إلى حرية الصحافة، وعندما انتهيت، فاجأني عدة مُسائلين وقفوا يسألونني: ألا تظنُّ أن رفعَ الحظر عن صحيفة ذا ديلي وركر كان غلطة كبيرة؟ وعندما سألتهم لماذا، قالوا أنها صحيفةٌ ذاتُ ولاءٍ مشكوك في أمره، ولا ينبغي التسامح معها في وقت الحرب. وجدت نفسي أدافعُ عن ذا ديلي وركر وهي الصحيفةُ التي اجتهَدَتْ غير مرة في مهاجمتي. ولكن من أين تعلم هؤلاء الناس هذا التوجه الشموليّ فعليّاً؟ من المؤكد إلى حد كبير أنهم تعلموه من الشيوعيين أنفسهم! التسامح والكياسة متجذران بعمق في إنجلترا، ولكنهما ليسا منيعَين، ومن الواجب المحافظة عليهما على قيد الحياة، وذلك ينبغي أن يكون في جزءٍ منهُ عبرَ جهدٍ واع. إنَّ نتيجةَ تكريس العقائد الشمولية هي إضعافُ الغريزة التي تستعملها الشعوب الحرة لمعرفة ما هو خطير وما هو غير ذلك. قضيةُ موزلي توضِّحُ هذه المسألة، كان من الصحيح جداً احتجازُ موزلي في 1940، سواءً ارتكب جريمةً من الناحية التقنية أم لم يرتكب، لأننا كنا في حالة دفاع عن أرواحنا وليس بوسعنا السماح لخائن محتمل أن يمشي بحرية. أما إبقاؤه أخرس، وبلا محاكمة، في 1943 فقد كان فضيحة. والإخفاق العام في فهم هذا الواقع دليل على سوء الحال، مع أنه من الصحيح أن التحريض ضد إطلاق سراح موزلي كان مُتصنّعاً في جزء منه، وتبريراً لاستياءات أخرى في جزء آخر منه. ولكن كم بالضبط من الانزلاق الحالي نحو الممارسات الفاشية يمكن أن نتتبع جذورَه إلى ’معاداة الفاشية‘ التي وجدت في السنوات العشر الأخيرة وقلة الضمير التي تبعتها؟

من المهم استيعابُ أن الهيستيريا الحالية حول روسيا ليست إلا عارضاً لإضعاف التراث التحرري الغربي بشكل عام. لو أن وزارةَ المعلومات تدخلتْ ومنعتْ صدورَ هذا الكتاب على نحو قطعي، فإن أكثرَ الإنتلجنتسيا الإنجليزية لن ترى ما يقلق في ذلك. يصادف أن الولاء الكامل للاتحاد السوفييتي هو الأرثوذكسية الحالية، وحيث تكون المصالحُ المفترضةُ للاتحاد السوفييتي معنية فهم ليسوا مستعدين لتقبل الرقابة والحذف وحسب، بل التزييف المتعمد للتاريخ أيضاً. على سبيل المثال أذكر قضية واحدة: عند موت جون ريد، صاحب كتاب عشرة أيام هزت العالم (وهو سرد حي لأحداث الأيام الأولى من الثورة الروسية) انتقلت الحقوق الفكرية للكتاب إلى الحزب الشيوعي البريطاني، والذي أعتقد أن ريد قد تركها لهم في وصيته. بعد بضعة سنوات قام الشيوعيون البريطانيون (بعد أن أتلفوا كل ما استطاعوا إيجاده من النسخ الأصلية) بإصدار نسخة مُشوهة حذفوا منها ذكر تروتسكي وحذفوا أيضاً المقدمة التي كتبها لينين. لو كانت هنالك إنتلجنتسيا راديكالية في بريطانيا حينها، لكان هذا التزوير افتُضِحَ واستُنْكِرَ في كل صحيفة فكرية في البلاد. لكن الذي حصل هو القليل أو لا شيء من الاعتراض. فقد رأى الكثير من المثقفين البريطانيين أنه شيء طبيعي، وأن القبول بهذا الافتراء الصريح يعني أكثر بكثير من أن الإعجاب بروسيا بات موضة رائجة في الوقت الحالي، فمن الممكن جداً أن هذه الموضة لن تدوم. وما أدراني، لربما مع حلول موعد صدور هذا الكتاب قد تكون وجهة نظري أنا هي التي أصبحت مقبولة بشكل عام. ولكن ما نفع هذا بحد ذاته؟ إن تبديل أرثوذكسية بغيرها ليس تقدماً بالضرورة. إن العدو في هذه الحالة هو عقل الجراموفون، بغض النظر عما إذا كان المرء يتفق مع الأسطوانة التي تصدحُ أصواتها من داخله في هذه اللحظة بالذات.

أنا على اطلاع جيد على كل الأقوال المُعترضة على حرية الفكر والرأي: تلك التي تدعي أن هذه الحرية غير قابلة للوجود، وتلك التي تقول بأنها لا ينبغي أن توجد، وأجيبُ عنها ببساطة بأنها لم تقنعني، وأن حضارتنا على مر أربعمئة عام تأسَّست على رأي مغاير لها. على مدى عقدٍ مر، كنت على اعتقاد بأن النظام الروسي القائم شيء شرير في معظمه، وأدعي حقي في أن أقول ذلك، على الرغم من أننا حلفاء مع الاتحاد السوفييتي في حربٍ أريدُ أن أرانا ننتصر فيها. ولو اضطررتُ لاختيار سطرٍ أبرر به نفسي، فإنني سوف أختار هذا السطر من ميلتون:

باسمِ القوانين المعروفة للحرية العتيقة.

إن كلمة عتيقة تشير إلى حقيقة أن الحرية الفكرية تقليد عميق الجذور، ومن دونه، فإن وجود ثقافتنا الغربية المميزة مشكوكٌ في أمره. وهذا التقليد بالذات هو الذي يدير له الكثير من مثقفينا ظهورهم بوضوح. لقد قبلوا المبدأ القائل بأن كتاباً ينبغي أن ينشر أو يُقمع، يُمدح أو يُشتم، لا بناءً على فضائله، بل حسبَ نفعيته السياسية، وهناك آخرون لا يعتنقون هذا المبدأ ولكنهم يصادقون عليه بفعل جبن محض. والمثال على ذلك هو إخفاقُ دعاة رفض العنف البريطانيين، الكثيرين وذوي الصوت العالي، في رفع صوتهم ضد العبادة المتفشية للعسكرة الروسية. فعلى حد روايةِ دعاة نبذ العنف هؤلاء: كلُّ العنف شرير، وقد حثُّونا في كل مرحلة من مراحل الحرب على الاستسلام أو، في أقل الأمر، على الوصول إلى سلام بناء على المساومة. ولكن كم من هؤلاء تجرأ يوماً في اعتبار الحرب شريرةً بنفس الطريقة عندما يشنها الجيش الأحمر؟  يبدو أن الروس لديهم الحق في الدفاع عن أنفسهم، بينما فِعْلُنا المثلَ خطيئةٌ قاتلة. ليس أمامَ المرء أن يفسّرَ هذا التناقض إلا بطريقة واحدة، وهي: رغبة جبانة في البقاء على اتفاق مع أكثرية الإنتلجنتسيا، والتي أصبحت وطنيتها موجهة نحو الاتحاد السوفييتي أكثر منها نحو بريطانيا. أنا أعلم أن الإنتلجنتسيا البريطانية لديها الكثير من الأسباب لجبنها وقلة صدقها، بل إنني أحفظ عن ظهر قلب المنطق الذي يبررون به أنفسهم، ولكن دعونا على الأقل نرفضُ سماعَ المزيد من الهراء حولَ الدفاع عن الحرية ضد الفاشية. إذا كان للحرية من معنى، فهي تعني الحق في أن نقولَ للناس ما لا يرغبون سماعه، والناس العاديون لا يزالون يؤمنون بهذه الفكرة على نحو مبهم، ويتصرفون على أساسها.  في بلادنا حال سيء، والأمور ليست بهذا السوء في كل البلدان: فهي لم تكن كذلك في فرنسا الجمهورية، وليست كذلك في الولايات المتحدة اليوم… إذْ في بلادنا: المتحررون هم الذين يخافون الحرية، والمفكرون هم الذين يشنِّعون على الفكر، ومن أجل لفت الاهتمام إلى هذه الحقيقة كتبت هذه المقدمة.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع