تطرح مشاركة عدد كبيرٍ من الأفلام اللبنانية في الدورة الـ 13 (7 – 14 ديسمبر 2016) لـ”مهرجان دبي السينمائي الدولي”، وفوز 4 منها بجوائز مختلفة في المسابقتين الرسميتين (“المهر الطويل” و”المهر القصير”)، سؤال النتاج اللبناني وكمّيته، ومدى التزامه الشرط الإبداعي في صناعة صورة سينمائية، في مقابل الاستمرار في تحقيق أعمالٍ بصرية استهلاكية بحتة، لا يزال بعضها يلقى رواجاً شعبياً، متفاوت المستويات.
والسؤال، إذْ ينبثق من وفْرةٍ إنتاجية تتوزّع بين التجاري ـ الاستهلاكي والجمالي غير التجاري (إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا)، يستعيد نقاشاً متداولاً في المشهد الثقافي ـ الفني اللبناني، منذ البداية الملتبسة للسلم الأهليّ الهشّ (1991)، بعد 15 عاماً من حربٍ أهلية مفتوحة على تدخّل محيطٍ عربيّ والغرب معاً (1975 ـ 1990). نقاشٌ يواكب الارتباك الحاصل في “صناعة” الصورة السينمائية اللبنانية، على مدى 25 عاماً (1991 ـ 2016) من ارتباكٍ آخر، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام والفنون والنشاط المدني؛ ويحاول تقديم أجوبة تتعلّق بأشكال الأفلام ومضامينها، كما بأنواعها وعلاقاتها بجمهورٍ يميل، غالباً، إلى المبسّط والأسهل.
تنويعات سينمائية
لكن الحضور السينمائيّ اللبناني في مهرجان دبي الـ 13 لن يكتفي بإنتاجاتٍ لبنانية بحتة، أو بأفلامٍ لبنانية منتجة بمشاركات عربية وأجنبية، لأن شركات ومؤسّسات لبنانية عاملة في مجال الإنتاج، بأنواعه المختلفة، تُساهم في تحقيق أفلام روائية ووثائقية عربية، تُشارك في الدورة نفسها. فإلى جانب 11 فيلماً لبنانياً مُشاركاً في مسابقتيّ “المهر الطويل” و”المهر القصير”، بالإضافة إلى برنامج “ليال عربية”، هناك 6 أفلام عربية، موزّعة على المسابقتين والبرنامج أيضاً، للبنان حصّة في إنتاجها.
معظم هذه الأفلام قابلةٌ لقراءاتٍ نقدية تتلاءم وجمالياتٍ مختلفة في صناعة صُوَرها، ومعالجاتها الدرامية والفنية والتقنية. أفلامٌ تغوص في أعماق الانفعال الذاتي ـ الفردي، وفي متاهات العلاقات الإنسانية المرتبكة والملتبسة، وفي أروقة الروح وتشعّبات أسئلتها المتعلّقة بالانتماء والهوية والعلاقة بالآخر. أفلامٌ تستعيد تاريخاً من الثورات والنضالات، وتواكب أحوال حراكٍ شعبيّ مدنيّ حاليّ، يواجَهُ بالقتل والحروب والخراب والتهجير وصناعة المنافي. أفلامٌ تمتلك شرطها السينمائي، في مقابل أعمال تكتسب شيئاً من الاشتغال التلفزيوني، وهذا سؤال مستقلّ بحدّ ذاته، لأن أعمالاً عديدة ـ مُنتَجة في الأعوام الـ 25 السابقة ـ تندرج في الإطار التلفزيوني البحت، شكلاً وآلية إنجاز ومعالجة درامية.
في مقابل التجاريّ ـ الاستهلاكيّ البحت، المكتفي بعروضٍ محلية في صالاتٍ عديدة، لأوقات قليلة نسبياً؛ وبعيداً عن النمط التلفزيوني في تحقيق أفلامٍ توصف، خطأ، بأنها “سينمائية”، وتُعرض ـ هي أيضاً ـ في صالاتٍ تجارية عديدة، وتختارها مهرجانات عربية ـ دولية لأسبابٍ غير معلومة؛ تكتسب “صناعة” الصورة السينمائية اللبنانية صفاتٍ متنوّعة في جمالياتها الفنية والتقنية والدرامية، في النوعين الروائيّ (الطويل والقصير)، والوثائقي (أو غير الروائي، كما يحلو للبعض تسمية هذا النوع المعروف، دولياً، باسم “دوكيو دراما”، أي “الوثائقي الدرامي”). صفات تشي بحيوية اشتغالٍ في تكثيف الحبكة، والاهتمام الفني بموقع الصورة في البناء الدرامي.
في الشكل والمضمون
وإذْ يزداد الوثائقيّ اللبناني إبداعاً وتميّزاً سينمائياً عن الوثائقي العربيّ، مستفيداً من الجماليات الروائية المختلفة؛ فإن الروائيّ يستكمل اختبارات سابقة، وإنْ يكن عددها قليلاً، تتمثّل بتثبيت موقع الصورة في البناء الحكائي ـ الدرامي، وبالخروج من رتابة القصّ إلى التصوير الجمالي لحالات ومناخات وانفعالات وتأمّلات، وبالانقلاب على كلاسيكية السرد. الوثائقيّ مهموم بالتنقيب الأفقي في ذاكرة فردية تنفتح على الجماعة، وبالبحث في راهنٍ مُسرفٍ في الانهيار والتمزّق، في شتّى أمور العيش والعلاقات، وبتفكيك الممنوعات لولوج المبطّن والمخفيّ في التاريخ والآنيّ معاً. وهذا أساسيّ في الروائيّ أيضاً، وإنْ يتّخذ شكلاً آخر في التعبير والكشف والبوح.
والإنتاج اللبناني المشترك مع مؤسّسات عربية وأجنبية لن يخرج، كثيراً، على العناوين الأساسية لصناعة الصورة السينمائية الجديدة، إنْ يصحّ وصفٌ كهذا. فالأفلام العربية الـ 6، المُشاركة في مهرجان دبي الـ 13 (“النسور الصغيرة” للمصري محمد رشاد، و”زينب تكره الثلج” للتونسية كوثر بن هنيّة، و”خارج الإطار أو ثورة حتى النصر” للفلسطيني مهنّد يعقوبي، و”ذاكرة باللون الخاكي” للسوري الفوز طنجور، و”رجلٌ يعود” للفلسطيني مهدي فليفل، و”الولد والبحر” للسوري سامر عجوري)، لن تختلف كثيراً عن توجّهات عامّة لصناعة كهذه، إذْ تتناول مواضيعها أحوال أفرادٍ يواجهون مصائرهم وأقدارهم، ويبحثون في ماضيهم وراهنهم، ويُقارعون تحدّيات العيش في عالمٍ مضطرب وعنيف. وفي مقابل اتّخاذ بعضها شكليّ الروائي والوثائقي (دوكيو دراما)، فإن للتحريك حضوراً لن يقلّ أهمية سينمائية عن أنواعٍ أخرى، وهذا منسحبٌ على أفلام لبنانية أيضاً، تستحقّ قراءة نقدية مستقلّة، لبراعة بعضها في تحقيق تقنيات التحريك ضمن مستويات درامية وجمالية راقية.
4 جوائز أساسية في مسابقتي “المهر الطويل” و”المهر القصير”، تحصل عليها 4 أفلام لبنانية: في المسابقة الأولى، ينال “مخدومين” لماهر أبي سمرا جائزة أفضل فيلم غير روائي، و”ميِّل يا غزيِّل” لإليان الراهب جائزة لجنة التحكيم الخاصّة، وجوليا قصّار جائزة أفضل ممثلة، عن دورها في “ربيع” لفاتشي بولغورجيان. وفي الثانية، يُمنح “صبمارين” لمونيا عقل جائزة أفضل فيلم قصير.
أسئلة الراهن
لن تعكس الجوائز الممنوحة أهمية سينمائية لأفلامٍ، ربما لا تمتلك شرطها السينمائيّ. هذا أمرٌ محسومٌ من قِبَل نقّادٍ، يُدركون أن الفوز، بهذه الجائزة أو تلك، انعكاسٌ لتوافقٍ حاصل بين عدد قليل من المُحكِّمين. والعكس صحيحٌ أيضاً. هذا ما تُثبته نتائج مسابقات رسمية كثيرة، في مهرجانات عديدة، بعضها منتمٍ إلى الفئة الأولى. لكن، يُمكن اغتنام فرصة فوز هذه الأفلام، والاستعانة بها كنماذج قليلة، تقول شيئاً من حيوية النتاج السينمائي اللبناني، إذْ تلتقي عند مسألتين أساسيتين، تُشكّلان معاً جزءاً من الفضاء ـ الدرامي والإنساني والثقافي والأخلاقي ـ الذي تتناوله صناعة الصورة السينمائية في لبنان: الإمعان في تفكيك الراهن، اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً؛ والاستمرار في سجالٍ متنوّع مع الهوية والذاكرة والانتماء.
أن يختار ماهر أبي سمرا موضوعاً متداولاً، في تحقيقات صحفية وتقارير تلفزيونية وأفلام سينمائية (وإنْ بتفاوتٍ ملحوظٍ في كيفية التناول والمُقاربة)، كموضوع الخادمات الأجنبيات في لبنان؛ فهذا يؤشّر إلى حيوية السؤال في الاجتماع اللبناني، وتأثيراته المختلفة في الثقافة والسلوك التربويين، وفي كيفية التعامل القانوني والمعاملة الإنسانية معهنّ. وأن تذهب إليان الراهب إلى مُزارِعٍ مسيحي ستينيّ لبنانيّ، مقيم في قريته الشمالية المتاخمة للحدود مع سوريا، فهذا يعني مقاربة سينمائية لمآزق عيشٍ موزّع على المحليّ والإقليميّ، وكيفية التعامل اللبناني معها، في ظلّ الانقلابات المختلفة التي يشهدها لبنان وسوريا معاً. وأن يغامر فاتشي بولغورجيان في رحلة إلى الماضي، بحثاً عن أجوبة متعلّقة بالأصل والانتماء والهوية، فهذا يعني أن الحرب عاملٌ فاعلٌ ومؤثّرٌ في الوجدان والوعي والانفعال، بعد مرور ربع قرن على نهايتها الملتبسة.
أما مونيا عقل، فتتناول أزمة راهنة (النفايات المنزلية والعضوية)، وتتوغل عبرها في مسالك لبنانية، تتمثّل في لامبالاة لبنانيين بخرابٍ يعتمل فيهم وحولهم، تفرض (اللامبالاة) عليهم هروباً بدلاً من المواجهة.
أهمية المضمون تتكامل، إلى حدود بعيدة، وجمالية أشكالٍ سينمائية، تضع الوثائقيّ في مواجهة مباشرة مع أسئلة الصورة في مقاربة حساسية اللحظة الراهنة، وتشعّباتها الخطرة. كما أنها تجعل الروائيّ أشبه بمرايا تكشف وتفضح وتبوح، أو تحاول أن تعكس شيئاً من وقائع عيشٍ مرير، على تخوم الموت والخراب، في ذات فرد، أو على مستوى جماعة.