منذ آذار 2011 حتى الآن يعزز نظام القتل ثقافة الموت في الحياة السورية وحياة الإنسان السوري، ومع استمرار الحياة في العاصمة السورية دمشق رغم كل ثقافة الموت التي تشيعها آلة حرب النظام على الحياة السورية ذاتها قبل قتل الإنسان السوري ذاته، ينبغي العمل على إثبات أن الحياة مستمرة بكل صنوفها، مع الموت والدمار المحيق بالأرض والإنسان السوري من مبدأ مواجهة ثقافة الموت بثقافة الحياة التي تدعو إلى الجمال الإنساني المستمر في دمشق وغيرها من المدن السورية، جاء معرض الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي في صالة كامل في حي المزة، يدعو إلى الحياة والجمال وتمجيد الإنسان رغم الموت والدمار. وإذا كانت وظيفة الديكتاتورية والنظام وماكينته الإعلامية، تمجيد الحرب والموت من أجل استمراره، فإن وظيفة الفن في مناطق سيطرة الديكتاتورية هي الدعوة للحياة والجمال، ولنا مثال حي في لوحة “الغرنيكا” للإسباني بيكاسو في ظل الحرب والجنرال فرانكو، فإذا كانت لوحات مَعارض عبدلكي السابقة قد غطت قضايا الشهيد والشهيدة وأم الشهيد والشهيدة، فالآن من دمشق المحاطة بعسكر الديكتاتورية تنطلق الدعوة لمقاومة القبح واللاجمال بالفن والحياة.
خرق النمط (رؤية من الداخل):
اعتاد الفنان عبدلكي العمل على لوحته من خلال الفحم والظل والنور وأشكاله الخاصة الكلاسيكية، ويحتل اللون الأسود في لوحته المساحة الأكبر، وذلك عبر لمعان داخلي يؤكده حضوره، ويظهر الظل ودرجاته برؤية داخلية وصبر وعناد خاصين به، ومن تابع مسيرة عبدلكي الفنية يعرف آليات عمله على مفرداته بدقة عالية “وروده، أحذيته، أسماكه، جماجمه، عظامه، جلسات الشاي، أوانيه، أعضائه، صدفه، وكؤوسه”.
إن أعمال عبدلكي السابقة قبل ثورة الشعب السوري أظهرت شخصياته العسكرية، لكن ثورة الشعب السوري. خصوصاً في بداياتها، ظهرت في لوحاته عبر تجسيد معاناة الشعب من خلال لوحات “الشهيد، أم الشهيد، أخت الشهيد، والشهداء..الخ”.
لكن المعرض الأخير الذي أقامه الشهر الماضي خرق فيه الأنماط السابقة التي عملها، فهو في هذا المعرض يقدم مشروعاً فنياً متكاملًا للأجساد الأنثوية العارية، في وضعيات مختلفة منها ما يظهر الجسد الأنثوي في جزئه العلوي، من الثديين المشدودين إلى صدر ممشوق في انحناءة خفيفة للظهر، والرقبة ذات العنق الأخاذ، ووجه ذي ملامح جدية، ولوحات أخرى يظهر فيها الجسد الأنثوي من جهة جانبية حيث الأفخاذ المثنية والجذع والظهر مع الجانب ونظرة جانبية للوجه، مع الشعر المرسل إلى الخلف. ولوحة أخرى تظهر كامل الجسد في وضعية الجلوس على صوفا، ولوحة ثانية تظهر الجسد الأنثوي جالساً مع حركة يدين ترتبطان ببعضهما مع ثديين مشرئبين نحو الأمام، وإغماضة من العينين، ولوحة ثالثة تظهر فتاة تخلع بلوزتها، وهي في منتصف ظهور اليدين والرأس بينما الصدر عارياً، وكذلك والفخذين أو وسط الجذع مغطى بالجزء الداخلي من الثياب الداخلية لها، ورابعة تظهر فتاة عارية سوداء، وكذلك لوحة “البوستر” الإعلاني للمعرض…
أثارت عاريات عبدلكي موجة شديدة من الاستياء، عبر السؤال: هل هذا وقت عري أمام تهجير أكثر نصف الشعب السوري خارج البلاد؟
لنقر أولاً أن ما جرى في كل البقاع السورية، لا تتحمل عاريات يوسف عبدلكي مسؤوليته، وإنما النظام السوري، وكذلك القوى المضادة للثورة. فما ذنب المشاريع الفنية لدى السوريين، وخصوصاً أن موقف يوسف عبدلكي من النظام واضح، وهل اعتقال يوسف في العام 2013، جاء نتيجة لوحة فنية؟ لقد جاء نتيجة نشاط سياسي معارض، ومتابعة تنظيمية، وليس نتيجة لوحة رسمها.
نعود للمعرض، لم يقدم عبدلكي أجساده العارية بحالة فرح غامر تحيطها المباخر وأجواء ألف ليلة وليلة، والمتماهية مع الرمان والتفاح والشهوات الأنثوية والذكورية كما يقدمها الفنانون الآخرون، وإنما قدمها عارية يحيط بها السواد، حتى إن بعضها يوازي السواد في اللوحة سواد الحياة واللا أمل، لكن الحياة تستمر حتى في أحلك لحظاتها سواداً.
إن الجسد الأنثوي هو حامل الحياة والخضب الإنساني في كل الظروف، وتمجيد الجسد الأنثوي من دمشق الآن، دليل آخر على استمرار الحياة رغم الديكتاتورية والحرب والموت الذي يحيط بالإنسان السوري في أماكن وجوده، والذي لا يرغب بقراءة سوى الرسالة السياسية من زاوية التوقيت فليقرأ كما يشاء..
قديمه المستمر:
حمل” البروشور” الإعلاني للمعرض مزهرية مليئة بالورود ذات اللون الأبيض وتدرجات الأسود في الفحم، هذه المزهرية محاطة بالمسامير المقيدة على سطح الطاولة الموضوعة عليها، وفي لوحة غصن مجموعة أوراق تنتمي إلى الحياة الخضراء، ولوحة أخرى لجمجمة تضرب فيها المسامير من ثلاث اتجاهات إلا الجهة التي تستند على السطح، وصدفة تستند إلى قطعة قماش في حالة تطابق مع السطح وتتراوح ألوانها ما بين الأسود وتدرجاته إلى لون الصدف الأسود المبيَض. ويضاف إلى هذه اللوحات لوحة تحيّة إلى نذير نبعة.
إن لوحاته ذات الاستمرارية القديمة ما قبل الثورة السورية تعني أن الحياة مستمرة ويجب العودة إلى استمراريتها ومفاتيحها في كل الأرض السورية.
إن الموت الماثل في لوحة الجمجمة الراقدة على منضدة الموت السوري القائم في كل لحظة من لحظات الحياة السورية سواء في دمشق أو غيرها من المناطق الأخرى، وأيضا في لوحة نذير نبعة نجد الصدفة المعلقة في فضاء اللوحة تعبيراً عن الموت في فضاء إنساني يخالف الموت بأدوات الحرب السورية.
إن من يتابع قراءة لوحات عبدلكي في المعرض الأخير بدمشق يجد أن الدعوة إلى الحياة واستمرارها في الجسد السوري ماثلة رغم الموت المنتشر حول السوريين، وتكون مرافقة للدعوة إلى الحياة والخصب والإنجاب، فمن غير المعقول والمقبول استمرار الموت السوري المجاني القائم في حالة الحرب، ومن هنا جاء تقدّم الشعار السياسي “وقف الحرب” على كل الشعارات السياسية الأخرى، حتى على شعار الحل السياسي.