حين أمطرت السماء لاجئاً وأنبتت الأرض مقهورين

أم من مضايا . Madaya Mom

مازن معروف

كاتب وصحافي فلسطيني آيسلندي

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

31/01/2017

تصوير: اسماء الغول

مازن معروف

كاتب وصحافي فلسطيني آيسلندي

مازن معروف

مواليد بيروت 1978

إذا كان سوبرمان أشهر لاجئ عرفه التاريخ، فإن باتمان هو أشهر يتيم. لكن “هالك” أو الرجل الأخضر، كان بين أبرز من جاء بعدهما. كانت سمتُه الأبرز، الغضب. إضافة إلى أنه البطل الخارق الذي يسيء العالمُ فهمه، وبسببه يظهر الجيش الأميركي منتصف ستينات القرن المنصرم، في صورة الشرير لأول مرة. كان “هالك” تعبيراً عن قبح و”إشكالية” ما يمكن أن تنتجه التجارب الذرية وإشعاعات “غاما”. ظهوره أتى بعد عام واحد على ولادة “المذهلون الأربعة”، الذين تجسدت عبرهم فكرة البطل الخارق الكاره لذاته (“الشيء”)، واعتبر ذلك يومها انعكاساً للحرب الباردة. 

لكن اللاجئ واليتيم ظلّا، رغم امتلاء السوق بالأبطال الخارقين، محتفظين بمكانتهما في مخيلة القراء. شرط أن يثبتا في كل قصة بأنهما مواطنان صالحان. كان يمكن للاجئ في بعض القصص أن يتحول وغداً، أما اليتيم فلا. اليتيم مختلف. فهو أميركي المولد في نهاية المطاف، بشخصيته التي لا تخلو من سوادوية وشر يتركّزان في إثارة الرعب في نفوس منتهكي القانون. أميركا لم تعرف نسبياً أهوال الحرب العالمية الثانية. هوجمت ببضع غارات نفذها اليابانيون والألمان بما في ذلك محاولات فاشلة للتجسس والتخريب. لكن ذلك كان كافياً لجعل الرسامين يتخيلون حرباً هائلة تحدث في عمق الولايات المتحدة الأميركية. في موازاتها تخيلوا سلسلة طويلة من الأبطال الخارقين. ما إن أمطرت السماء أول لاجئ، حتى أنبتت الأرض نماذج أخرى من المقهورين الذين تحولوا أبطالاً، أرضيين كانوا أم فضائيين. 

أسّس هؤلاء الخارقون ومن خلفهم كتيبة الكتاب والرسامين، لما يمكن أن نسميه بـ”أدب الكوميكس” الذي سرعان ما غزا أوروبا بوصفه صناعة أميركية خالصة. إلا أن صراعاً خفياً دار بصمت بين فنّاني دي سي كوميكس وفناني مارﭬـل كوميكس. حتى أن مارﭬـل استطاعت انتزاع “كابتن مارﭬـل” (شازام) من دي سي كوميكس في معركة قضائية. كانت تلك الحادثة تأكيداً على جدية مارﭬـل ونجاعة أبطالها الخارقين (هالك، الرجل العنكبوت، كابتن أميركا، كابتن مارﭬـل، الرجل الحديدي، ثور، الأرملة السوداء، ميدوسا، العاصفة، المرأة هالك، الآنسة مارﭬـل، المنتقمون، حراس المجرة، رجال إكس.. إلخ). عيب هذا الفريق الأبرز كان افتقاره لبطل خارق أفرو-أميركي (بالمعنى الحرفي لكلمة بطل خارق)، إلى حين قررت، ولأول مرة التصدي لواقع التمييز العنصري في الولايات المتحدة. فأطلقت “بلو مارﭬـل” تجسيداً لشخصية رجل أفريقي يكتسب قوى خارقة بعد تعرضه لتجربة فيزيائية تتعلق بالنواة والطاقة والمادة. أتى ذلك متأخراً جداً، عام 2008.

المؤلف كيفين غريفيوكس، وجد أن لا بد من وضع الشخصية في سياق درامي يبرر ظهورها المتأخر. أعادها إلى عمق التاريخ الأميركي الحديث: في ستينات القرن المنصرم، يطلب الرئيس جون كينيدي من بلو مارﭬـل وخلال حفل منحه وسام الحرية الرئاسي، التنحي كبطل خارق. السبب، هو انكشاف هويته كسوبر هيرو ذي أصول أفريقية أمام المجتمع الأميركي الذي لن يقبل به لأسباب عرقية. يواجه بلو مارﭬـل أيضاً كراهية بعض الأفرو-أميركيين لنأيه عن استخدام العنف لقمع العنصريين البيض. فيغيَّب حوالي أربعين عاماً، قبل أن يظهر مجدداً كمخلّص لأميركا من تهديد أعداء متخيلين، وبصفته بطلاً خارق في بلاد عالجت أخيراً مسألة العرق، فيما كانت مكتباتها على أرض الواقع، منشغلة بنبش إرث جيمس بالدوين الفكري للدلالة على عمق الأزمة. 

قد تكون مارﭬـل نجحت في كسر الإشكالية المتعلقة بالكوميكس – أو تجميدها – والمتمثلة في كون الأبطال الخارقين بيض البشرة دوماً. إلا أن الإختبار الحقيقي الذي وضعت نفسها فيه، وأخفقت، تمثل في منازلتها للواقع السوري. كان ذلك عندما نشرت إلكترونياً، وعلى غير عادتها، قصة مصورة بعنوان “أم من مضايا” وبالتعاون مع قناة “آي بس سي نيوز”. هذه المرة، ليست أميركا هي أرض المعركة، ولا الحدث فضائياً. أيضاً لا شخصيات متوهمة. إننا ببساطة في الفصل الأخير من الحرب العالمية الثالثة، والحدث سورياً ولا أبطال خارقين. والقصة أن قريةً (مضايا) تحولت بفعل الحصار إلى معسكر اعتقال. أما الشخصية الرئيسة فهي أم. أم سورية، بوصفها آخر نموذج عن الأبطال الخارقين (بلا أية قوى عجائبية طبعاً) في سلسلة مارﭬـل. 

انسحبت مارﭬـل إذن وبشكل صارخ، نحو الواقع. في خروج عن تقاليدها بنشر حكايات تتعلق بالأبطال الخارقين حصراً. وفي انحياز للإنسان وقيم أسمى (العدالة الاجتماعية، الحريات، الحقوق المدنية)، وأن تقول إن قوى البشر العظمى تتمثل في الصبر والقدرة على التحمل والحكمة والتضحية والبصيرة، وأن لا مكان لأية قدرات خارقة في واقع شائك وشديد التعقيد. جاءت القصة برسوم بالأبيض والأسود. مكتوبة بصوتين: مراسلي “إي. بي. سي” وصوت الأم. على شكل يوميات بفراغات زمنية بينها. خطوط ذكّرت بالتعبيريين الألمان إبان الحرب العالمية الثانية. إخفاق مارﭬـل هنا جاء على مستويين. الأول تقني، يتعلق بالقصة نفسها، كشريحة منمنمة عن الواقع، التي ولدت باهتة وصادمة في آن. دون فانتازيا، أو جماليات في السرد. وايقاع بطيء ولا حدث رئيس. إنها قصة تلتصق بالخبر الصحافي ما يجعلها تقع في فخ التقريرية في غير مرة، فيحال وجودها إلى ضرب من البروباغاندا. وينتظر القارئ حدوث شيء ما. 

اتجهت مارﭬـل إلى قارئ أرادته مُعطلاً، سلبياً. أن يحاكي قدر الإمكان مشاعر الأم التي تنتظر تحولاً ما ينقذ أطفالها. و”أم من مضايا” اعتراف مكبوت من مارﭬـل بلاجدوى الأبطال الخارقين. وأن الواقع لا يحتمل أي ترفّع فانتازي أو تنكر للمأساة أو التوهم بأن النصر آت. الجدير بالذكر هو أن ابطال مارﭬـل (كما دي سي كوميكس) تظهر قواهم فقط من خلال حروب متخيلة، حروب تضرب نيويورك وغوثام وشيكاغو وغيرها من المدن الأرضية والفضائية. أيٌ من هذه الحروب العملاقة لا يحدث على أرض الواقع، لكن ما يحدث على أرض الواقع يكون أسوأ. في الحروب المتخيلة يولد الأبطال الخارقون. أما في الحروب الحقيقية، فينكفئون. 

اللافت في قصة “أم من مضايا”، هو أنه لا حضور للاجئ أو اليتيم أو الغاضب. هناك فقط “الجائع” الذي، بطبيعة الحال، لا يمكن تحويله إلى بطل خارق. سيكون الأمر سخيفاً ومتعالياً. حرب فيتنام كانت تجربة أزاح عنها فنانو الكوميكس أقلامهم لأسباب سياسية وتفادياً لأي جدال وسوء فهم. يومها اختارت الكوميكس إبقاء نفسها خارج جدلية دخول أميركا غمار الحرب. موقفها الحيادي لم يكن لصالحها في ذروة الاحتجاجات أواخر الستينات. غير أن خيار مارﭬـل اليوم، وضعها أمام الصورة الحقيقية للاجئ والغاضب واليتيم. لقد هزم الواقع السوري كل جهود الأميركين في تصنيع وإعادة تصنيع الأبطال الخارقين. وحل اللاجئ واليتيم والغاضب مكان سوبرمان وباتمان وهالك. أما الشارع فلم يعد قادراً على انتاج شخصية تحاكي مثلاً الليبرالي والراديكالي الفجّ “السهم الأخضر” والأقرب تفكيراً، كبطل خارق، إلى الماركسيين. اليوم، بات بإمكان اللاجئ واليتيم الغاضب السوري، لا أن يحل فقط مكان سوبرمان وباتمان وهالك وحسب، بل أن يطرح كذلك السؤال الذي طرحه مواطن أفرو أميركي في أحد أعداد الكوميكس بداية السبعينات، على “الفانوس الأخضر”: ماذا الذي فعلتَه من أجلي حتى هذه اللحظة؟”. 

الكاتب: مازن معروف

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع