بالتعاون مع مكتبة السينما (سينماتيك) في تولوز كرّم مهرجان “سينما فلسطين” الممثلة الفلسطينية هيام عباس، وعرض المعهد بعد نقاش مع الممثلة، فيملين من إخراجها، الفيلم القصير “خبز”، والفيلم الروائي ” إرث”، بحضور المخرجة التي نقاشها الجمهور مطولاً بعد الفيلم عما جاء فيه.
يصور الفيلم حكاية عائلة فلسطينية في إحدى البلدات القريبة من الحدود اللبنانية أثناء حرب تموز 2006، عائلة أبو المجد الكبيرة، التي تضم داخلها أُسراً أصغر لأولاده، ابنه الكبير الذي يعمل بمجال المقاولات وبدأت الديون تنهشه بسبب المناخ الذي فرضته الحرب، وابنه المرشح للانتخابات والذي وجد بالتعاون مع الاحتلال الطريق الأسرع للفوز، والأصغر وهو طبيب اكتشف عدم قدرته على الإنجاب، وابنتين الأولى متزوجة من زوج اعتاش على ما قدمته له عائلتها في الوقت الذي لا يهمه منها سوى ما تثيره من فضائح، والصغيرة التي حملت خط الفيلم الأساسي عبر قصة حب بينها وبين شاب بريطاني، فيما يعتبر الجميع أن هذه الحكاية ستلطّخ شرف العائلة.
التصعيد الدرامي الناجم عن علاقة الشخصيات المشحونة واحتكاكها ببعضها، ضمن فضاء أكبر مليء بالضغوطات تعبر عنه طائرات الاحتلال التي تشن غاراتها تباعاً على لبنان، ورد حزب الله الناري أثناء الحرب، الذي أدى إلى تدمير بناية الابن الأكبر في آخر الفيلم، بين هذين الخطين الضاغطين، وفي مكان تتزعزع فيه الهوية بين الرغبة في القضاء على إسرائيل، والرغبة بمتابعة حياة اشتملت على عدد من الحروب المجانية، تصور هيام عباس مواقف شخصيات بدت كلها تعيش حالات قصوى من الضياع، وتعاني من عقد جلها آت من ظروف خارجية.
خط الحكاية الرئيسي هو أن “هاجر” الابنة الصغرى، مجايلة بنات أخوتها، تريد الزواج من ماثيو الإنكليزي، وعلى الرغم من كل المصائب التي تغرق بها العائلة إلا أننا نرى الجميع يتنطع للدفاع عن شرف مزعوم، مدعين أنه سيتلطخ فيما لو اختارت هاجر حياتها بعيداً عن العائلة، تتأزم الحكاية مع دخول الأب حالة سبات مرضية ناجمة عن إصرار هاجر على الزواج من ماثيو، وهنا تبدو عقدة الفيلم البعيدة عن مفهوم الحرب وضغوطاتها، فهاجر لا تريد أن تذهب مع ماثيو دون موافقة والدها الذي تحبه، وتريد أن تبقى علاقتها به طيبة، على الرغم من قدرتها على الهرب.
المأزق الأنثوي الذي يتفجر من هذين الحبين حيث يقمع أحدهما الآخر، العلاقة مع الأب، والعلاقة مع الحبيب، ووضع هاجر في موضع التخيير، مألوف جداً في مجتمعاتنا التي تضطر الفتاة فيها غالباً لنسيان الحبيب مقابل العادات والتقاليد التي لا تبالي بأكثر المشاعر صدقاً، إنما تهتم بالدرجة الأولى بما سيقال فيما لو تزوجت هاجر غريباً، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم تقف هاجر مع زوجة أخيها الطبيب، المسيحية التي اختارت زوجاً مسلماً دون أهلها، في ظل شرط مماثل، واكتشفت حديثاً عقم زوجها، تبدو فيه الفتاة الشابة قادمة للتحدث مع من يشبهها لكننا نرى أن ظروف الحياة نفسها لم تقف لصالح زوجة الأخ المسيحية التي لم تتمكن من نصح هاجر بأن تقدم على ما قامت هي به، لتحمل الحكاية ضغطاً أكبر، يصبح للدراما فيها معنى أكثر تعقيداً.
ومع تقدم الفيلم وإيغال الأخ الأكبر بالطمع في مال أبيه، واستغلال قصة أخته من أجل أن توقع له على توكيل عام يمكّنه من أموال أبيه، وضربها عندما ترفض، وإيغال الأخ الأوسط بالعمالة وإنشاء علاقة حميمة مع فتاة إسرائيلية على حساب أسرته، وعلى حساب زوجته التي تعاني شتى أشكال الظلم معه، وصولاً إلى الضرب الجسدي، وغرق الأخ الأصغر في مأساة عدم الإنجاب التي باتت حديث البلدة، وباتت هاجس زوجته التي خسرت أهلها والآن تخسر نسلها معه، ومع تطور كل الحكايا الصغيرة تقرر هاجر اللحاق بحبيبها في نهاية الفيلم وترك الأب لغيبوبة، تبدو بذلك كما لو أنها تجسيد لموت شعور مجتمع بكامله، وغرقه بحكايا صغيرة تبعد الحكاية الأكبر عن الواجهة وتبقيها في الظل: “القضية الفلسطينية والحرب مع إسرائيل”. فلا مكان هنا لجملة كبيرة بهذا الحجم، في مجتمع بات من الصعب جداً أن يحدد هويته في ظرف كهذا، بينما يدفع جزءاً من ثمن أي حرب مع إسرائيل، حتى لو كانت من لبنان لا من الداخل الفلسطيني.
بنظرة سريعة للشخصيات وحكاياها يبدو للمتابع أن القضية الفلسطينية هي قضية غير موجودة على الإطلاق في أراضي الـ48، وأن الحرب التي يعيشها الفلسطيني هناك هي معطى خارجي، علاقته فيه فقط هي أن تطاله بعض القذائف، أو يعكر الطيران الإسرائيلي حياته بطلعاته، إلا أن تحليل الضغوطات الناجمة يرينا أنه لولا الاحتلال لكان للمجتمع أن يتطور براحته كأي مجتمع آخر، لا أن يحاول الحياة بين حربين، وكلما أتت حرب جديدة انفجرت ضغوط المجتمع، وانتهت فرصه في النمو، كما نلاحظ أنه وعلى الرغم من أن الكل مخطئين إلا أنه ما من شخصيات مذنبة أو شريرة بطبيعتها، إلا المرشح العميل ربما، والذي تعرض لظلم أن تزوج قسراً وهو صغير، وبات هربه من حياته المفروضة عليه فرضاً هاجس يلاحقه.