بحضور المخرجة مها حاج، والمنتج باهر إغرابية، عرض ضمن مهرجان «سينما فلسطين» في مدينة تولوز الفرنسية فيلم “أمور شخصية”. الفيلم الأول لمها حاج، والذي ينتظر جمهوره انطلاق عرضه الرسمي في صالات السينما، حيث أثار الفيلم جدلاً واسعاً حول تمويله الإسرائيلي، مع أنه ليس أول الأفلام الفلسطينية التي تساهم إسرائيل بتمويلها، إنما هو الفيلم الأول الخاضع لشرط صارم من الممول الإسرائيلي، يقول إن أي مناسبة يُعرض فيها الفيلم يجب أن يُعرّف عنه، رسمياً، كفيلم إسرائيلي.
أحدث التمويل صخباً واسعاً ومشروعاً، وأخذ وقتاً طويلاً في النقاشات بعد العرض في تولوز مع المخرجة مها حاج، التي قالت بعربية واضحة، وبلكنة فلسطينية “الفيلم فلسطيني غصب عن الكل، لغته عربية، وكل اللي اشتغلوا فيه فلسطينية”، لكن في الوقت ذاته كان تبرير مها حاج أنه أول أفلامها، وليس هنالك من منتج آمن بها، فشركات الإنتاج العربية لا تمول الفيلم الأول لأي مخرج، وشركات الإنتاج العالمية غير مهتمة بتمويل سينما فلسطينية، بل تتحاشاها قدر الإمكان، أما السلطة الفلسطينية فلا تمول أفلاماً من الأساس، ومن ناحية أخرى فإن المخرجة من فلسطينيي الـ 48، حيث دولة الاحتلال.
وبعيداً عن الصخب الذي أحدثه التمويل، فإن الفيلم المعروض ضمن مجموعة مميزة من الأفلام الفلسطينية، وبعضها لمخرجين كبار أمثال هاني أبو أسعد، لم يختلف اثنان في الصالة على أنه جوهرة الموسم، وأحد أفضل الأفلام الفلسطينية المعاصرة على الإطلاق.
إيقاعاً، ومونتاجاً، وزوايا لقطات، وأسلوب أداء… اقتربت جميعها بشكل لافت من أسلوب عمل المخرج الفلسطيني العالمي إيليا سليمان، الذي وجهت المخرجة شكراً خاصاً له في تترات نهاية الفيلم، وأتت على ذكره في نقاشها مع الجمهور، قائلة إنها تحب أعماله، وتستشيره كثيراً في عملها. لكن اللافت هنا أن استخدام أسلوب إيليا سليمان لم يفرض تكراراً لما جاء في أفلامه، بل على العكس فقد أدخلت المخرجة أسلوبها الشخصي بصوغ حكاية تأخذك من أول الفيلم لآخره، ما لم نعتد رؤيته بشكل واضح في بنية أفلام إيليا سليمان. فلدى سليمان مشاهد متناثرة تصاغ منها الحكاية، أما في “أمور شخصية” فلحكاية الشخصيات سطوتها التي فرضت ترتيباً منطقياً لمشاهد الفيلم.
أبو هشام وأم هشام زوجان وحيدان يعيشان في الناصرة، في منتصف الستينيات من العمر، يبدو أن علاقتهما تآكلت لدرجة بات الصمت يغزوهما، فلا ملجأ للرجل سوى التواصل عبر السكايب أو الهاتف مع ابنه هشام في السويد، وابنه طارق في رام الله، وابنته سمر المتزوجة والمقيمة في رام الله أيضاً، والشكوى الدائمة من عدم تفاعل أم هشام معه واكتفائها بشغل الصوف ومشاهدة التلفاز، الأمر الذي دعا طارق لزيارتهما في الناصرة لكسر إيقاع حياتهما القاتل، لكن ذلك لم يكن مجدياً، فشكل حياتهما بات عصياً على التغيير، وبعد عدة محاولات للإقناع، توافق أم هشام على السفر إلى السويد لقضاء إجازة مع زوجها وابنها الكبير على بحيرة جميلة، وهناك أيضاً لم يختلف شكل علاقتهما إطلاقاً، وظهرا كما لو أنهما يجلسان في الناصرة، في ظل إيقاع رتيب وممل، فيقرران الطلاق بجملة واحدة يقولها أبو هشام وتوافق أم هشام، فيبتسمان لأول مرة في الفيلم، وكأنهما تحررا من كل هموم الدنيا. من ناحية أخرى نشاهد مشاكل طارق، الابن الأصغر، مع فتاة تحبه، يرفض كم هي محافظة، كما يرفض شكل العلاقة التي تريدها، ما يجعل العلاقة بينهما عبارة عن مراوحة بالمكان للاثنين، الحدث الوحيد الذي يتطور في الفيلم، هو حب جورج زوج الأخت للبحر والرغبة برؤيته، حيث لا بحر في الضفة الغربية، ولا إمكانية لزيارته دون تصريح أمني إسرائيلي، الحصول عليه شبه مستحيل، إلى أن تراه مخرجة أفلام أمريكية فتطلب منه القدوم إلى حيفا وتتكفل موضوع التصريح، ومع وصوله لحيفا نراه يدخل البحر بواحدة من أكثر لقطات الفيلم حساسية متنازلًا عن الفيلم الهوليودي.
الحكاية الخانقة والمضغوطة، والشخصيات التي تراوح مكانها وعالمها، مهما تغير مكان إقامتها، فرضت بحواراتها جواً من الإضحاك، أغرق الصالة بالقهقهة طوال الفيلم. “أمور شخصية” وهو عنوان الفيلم، أرغم كل من شاهده على التفكير بأموره الشخصية، حيث أغرق المتلقي بتفاصيل ذاكرته عن أبيه وأمه وجدته، عن مزاجه العربي، وطبيعة علاقته بأصدقائه، وعن أمور شخصية أخرى مضحكة جداً، نبهتنا المخرجة إليها فجلتنا نغرق في الضحك على أمورها وأمورنا الشخصية.
كنت قد دعوت سيدة فرنسية لحضور الفيلم، وعندما رأيتها بعد انتهائه، أخبرتني أنها استنكرت كمية الضحك في الفيلم على الحكاية الحزينة والشخصيات، كما أنها تأثرت كثيراً من الحكاية، وأدركت كم أن فلسطين سجن لا يحتمل، ضحكت حتى عندما أخبرتني عن رأيها الذي لم أكن أتوقع أنه على هذا القدر من الرومانسية، وأخبرتها أن الفيلم أضحكني كثيراً، لأن التفاصيل المذكورة تذكرني بأمور شخصية مضحكة بالفعل.
بعد هذا النقاش السريع أدركت معنى جملة مها حاج، كم أن الفيلم فلسطيني رغم أنف الجميع. فمن أين لفيلم إسرائيلي أن يمس تفاصيل حياة الملتقي العربي/الفلسطيني بذكاء كهذا، ويضحكه منها، ومن أين له أن يشرح لمتلقي لا يعرف شيئاً عن المزاج العربي أن فلسطين سجن كبير يحتوي على سجون أصغر، وهل هذا فعلاً ما تسعى شركات الإنتاج الإسرائيلية لتقديمه لنا وللفرنسيين؟!