عرض في مدينة تولوز ضمن مهرجان «سينما فلسطين» فيلم “عن الحب والسرقة ومشاكل أخرى” للمخرج الفلسطيني مؤيد عليان، ويبحث الفيلم في حياة الشاب موسى (سامي متواسي)، الشخصية عديمة الحيلة، والتي تحاول دائما البحث عن مخرج من واقع يزداد انغلاقاً، وآفاق حل تبتعد كلما اقترب منها.
موسى ابن أحد مخيمات الضفة الغربية، يعمل مع والده بالبناء في مناطق الـ48، وفي أول الفيلم يترك ورشة والده بحثاً عن حل يخرجه من فلسطين كلها، وقد باتت الحياة فيها خانقة لدرجة لا تحتمل. فيقرر سرقة سيارة وبيعها في الضفة، كي يتمكن من دفع رشوة تمكنه من الحصول على فيزا كعضو في فريق رياضي، لكنه سرعان ما يكتشف أن السيارة التي سرقها تبحث عنها إحدى الفصائل الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بجنون، حيث تحتوي بداخلها على جندي إسرائيلي تم اختطافه من أجل عملية تبادل أسرى، وهنا يقع موسى بورطة أكبر مما اعتقد، ومع مرور أحداث الفيلم يتمكن من بيع الجندي للفصيل، والتمكن من دفع الرشوة لأجل السفر، إلا أن كارثة أخرى تحصل مع نهاية الفيلم وهي أن حبيبته التي أراد لها الهرب معه تقتل زوجها، بعد أن فضحت المخابرات الإسرائيلية قصة حبها لموسى بالصور، رداً على عدم تعاونه معهم.
الحكاية المحكمة التي أعطت للفيلم متانته، والطريقة التي رتبت بها المشاهد، استطاعت إدخال المتلقي إلى عبثية الحياة ضمن المجتمع الفلسطيني، واستحالة أن كونها طبيعية يحكمها المنطق، ولإضافة بعد فنتازي آخر اختار المخرج مؤيد عليان لأول أفلامه أن يكون بالأبيض والأسود، مضيفاً غرابة فوق غرابة، واغتراباً فوق اغتراب.
هربُ موسى في البراري مع الجندي الإسرائيلي أصبح لعنة شخصية لموسى، مع إمكانية أن يشكّل الجندي مكسباً لكل الفلسطينيين وخصوصاً العجوز الضريرة التي مروا ببيتها، واكتشفوا وحدتها وفقدانها لبصرها قبل أن ترى ابنها الأسير المنتظر، هذا الهرب يعيدنا إلى طروحات مشابهة في السينما الفلسطينية، تدخل الشك إلى الملتقي الفلسطيني، وتخلخل مفاهيم ثابتة لديه أهمها هو عدم التساوي بين الفعل ورد الفعل، وبين المحتل وصاحب الأرض.
فكرة أن يتحول الجندي الإسرائيلي المخطوف إلى لعنة، ولو على مستوى حياة موسى الشخصية، وأن يساوي فعل الهرب بين طرفين متناقضين وحتى لو افترضنا جدلًا أنهما متساويان في الاستبداد، هما الفصيل الفلسطيني المسلح والحكومة الإسرائيلية، تبدو كما لو أنها سعي لمساواة غير عادلة، هذا الطرح هو بالضبط ما يعيدنا إلى أفلام مثل “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد، حيث رأينا شخصاً يرتدي حزاماً ناسفاً يريد أن يقوم بعملية استشهادية في إسرائيل، وبعد تعقيدات معينة، يعود بحزامه إلى فلسطين، فيتم تصوير الموضوع كما لو أن الحزام خطر على الدولتين، والمجتمعين، في فترة كان لهذا النوع من العمليات تأثيرها المباشر على إسرائيل. ولو أن فيلم مؤيد عليان يغوص بتفاصيل أعقد من هذا الطرح الذي كان واضحاً لدى أبو أسعد.
بانتقاد طريقة الطرح التي تسعى بشكل أو بآخر لإعلان وجهة نظر تسطّح الصراع، لا ننتقد السلام نفسه، إنما نبحث في أسسه وآلياته، ولا يأتي السلام من أسس غير صحيحة، فالفصائل الفلسطينية اليوم باتت فعلياً تالفة وغير منطقية وطاغية لدرجة الاستبداد، لكن هذا مبحث يتم تناوله بعيداً عن جمعها مع الاحتلال، الذي لا يجانبه شيء، كما أنه من غير الممكن في الوقت ذاته ربط مقاومة الاحتلال “بالخطر” بمعناه الأعم كما لدى هاني أبو أسعد.
ولأن كل مقارنة تُفقد الحالات الخاضعة لها خصوصيتها وفردانيتها، ما يهمنا هنا هو فيلم “عن الحب والسرقة ومشاكل أخرى” الذي تجاوز هذا المطب، بأن عاد الجندي للمقاومة التي أخرجت مقابله عدداً كبيراً من الأسرى، وأن مسار الفيلم بعمومه لم يبحث فقط في مقارنة عنف الفصائل والمخابرات الإسرائيلية، إنما جاء التركيز الأكبر على سؤال الحياة الفردية البسيطة لشخص عديم الحيلة لا يرغب سوى بحياة طبيعية خارج هذا العبث، الذي كلما حاربه ازدادت حدته.
عن الحب فهو حب ناقص غير مكتمل بعد أن اضطرت حبيبة موسى للزواج من شخص غني يستطيع أن يؤمن لها ولابنتها حياة كريمة، واضطرت لقلته قبل أن يقتلها بعد عدم وفائها له، وأما عن السرقة، فهي السرقة التي تظنها صغيرة وطبيعية لكنها تذهب بموسى إلى واحدة من أعقد القضايا: الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته بخطف جنود يتم تبديلهم بأسرى كسبيل خلاص يكاد يكون الأوحد لهم، حيث أن أحكامهم تتجاوز عدد سنوات حياتهم المفترضة بقرون. وعن الأشياء الأخرى فهي العمل والسفر والحياة الكريمة، كلها مواضيع استطاع مؤيد عليان في أول أفلامه الروائية أن يطرحها بحساسية ووعي، ينسيانك أنك أمام مخرج يصنع فيلماً للمرة الأولى، ويجعلانك بانتظار القادم من أعماله.