إذا كان بيرنشتاين يعتبر بأن ماركس باستخدامه جدل هيغل كان لا زال يحمل “بقايا هيغلية” لا بدّ من إزالتها، فقد عانى الجدل من تشظي بعد إنجلز الذي كان قد نظّر له، خصوصاً في كتاب “ضد دوهرنغ”. حيث دافع بليخانوف عن الجدل الهيغلي والماركسي ضد بيرنشتاين، لكنه في الوقت ذاته رفض أن يتضمن هذا الجدل “الثلاثية”، أي مبدأ (أو عنصر) الفريضة/النفي ونفي النفي، معتبراً أن الجدل يعني مبدأ التراكم الكمي والتغيّر النوعي فقط.
هذا المنظور حكم ستالين الذي حذا حذو بليخانوف (وكان تلميذه النجيب)، وحكم تابعيه. وبهذا فقد ساد منظور تطوري، يرى الواقع يتقدم إلى الأمام، وفي تقدمه يحقق انتقالة نوعية، تفرض التقدم إلى الأمام من جديد لتحقق انتقالة جديدة. بمعنى أن منظوراً تطورياً بات يحكم هذا “الفهم الجدلي”. فالتاريخ يسير إلى الأمام من نمط إلى آخر، وهو يتقدم بفعل التراكم المتحقق في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لينتقل من نمط إلى آخر. ومن خلال ذلك جرى تكريس الصيغة التي ذكرها كل من ماركس وإنجلز في “البيان الشيوعي” كصيغة حكمت التاريخ العالمي، حيث كانت تُظهر الانتقال من نمط إلى نمط أرقى.
وإذا كان بليخانوف يرفض الثلاثية (التي كان ستالين قد شطبها) فقد ظهر أنه يتجاهل مبدأ (أو عنصر) التناقض، ليتمحور الجدل في مبدأ (أو عنصر) واحد هو مبدأ التراكم الكمي والتغيّر النوعي. والذي به يبدو التاريخ صاعداً وفق “خط مستقيم”، وبحتمية مطلقة. وبهذا يظهر الطابع الأحادي لمنظور بليخانوف وستالين، حيث تتلخص الظاهرة في عنصر وحيد هو الذي يحدث التراكم داخله ليصل إلى لحظة التغيّر النوعي. وهي العملية التي تعني “الارتقاء المستمر”، التطور المتتالي، الانتقال من حالة إلى حالة أرقى في مسار مستقيم.
الظاهرة هنا “صمّاء” بالضبط لأنها “كتلة ساكنة” بلا تناقض داخلي، لهذا نجدها وفق هذا المنظور تتضمن التراكم الذي يحقق التحوّل النوعي فيها. هنا ليس من فريضة ونفي، ليس من أ و ب، بل هناك فريضة يجري التراكم فيها لتتحوّل، هناك أ يجري التراكم فيها لكي تصبح ب. هنا ليس من جدل، بالضبط لأن الجدل يعني وجود الفريضة التي تحوي تناقضها الذاتي، وهذا التناقض يفضي إلى النفي. وبالتالي فإن التراكم يتحقق في عنصري التناقض وليس في واحد منها فقط، لكن يتحقق النفي حين يصبح التراكم أعلى في طرف ليتحقق النفي. ولكن يفضي هذا “الانقسام” إلى إعادة التركيب في صيغة أعلى. والتراكم مغروس في كل هذه العملية، وهي عملية لا تقود بالضرورة إلى تطور تراكمي، إلى مسار تطوري، بل ربما تفضي إلى انهيار كما أشار ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي.
لقد ضرب بليخانوف مثالاً لتأكيد فكرته حول التطور التراكمي، حيث أشار الى أن التراكم في اقتصاد السوق الحرة يفضي إلى الاحتكار الذي يحلّ محلّ السوق الحرة. حيث أنه يعتقد بأن التراكم الكمي في بنية السوق الحرة يفرض تحقيق النقلة النوعية التي هي الاحتكار. ولا شك في أن الاقتصاد الرأسمالي سار في هذا المسار، لكن ما غفله بليخانوف نتيجة منظوره الأحادي هو أن الاحتكار يتحقق في ظل السوق الحرة ذاتها وليس خارجها أو على أنقاضها. فإذا كانت السوق الحرة هي الفريضة، فإن الاحتكار هو النفي، لكن مجمل هذه العملية تتم في ظل سوق حرة، أي أن الاحتكار عاد لكي يتضمن في السوق الحرة وليس خارجها. هنا نحن إزاء الثلاثية الهيغلية التي نفاها بليخانوف، بالضبط لأنه ركّز على قانون واحد في الديالكتيك هو قانون التراكم الكمي والتغيّر النوعي. بينما يقوم الجدل المادي على ثلاثة عناصر (أو مبادئ) كما أوضحنا، هي: التناقض، التراكم الكمي والتغيّر النوعي، ونفي النفي. وهي عناصر الصيرورة، الحركة التي يتطور الواقع بها.
الديالكتيك ليس عملية تراكم تفضي إلى نقلة نوعية، هذا منظور تطوري ربما أتى متأثراً بنظرية داروِن، وهو منظور مبسط، سطحي، يحيل إلى المنطق الصوري. فهو يقطع بين “الشيء” الذي يتحقق التراكم فيه والتحوّل النوعي الذي يحدثه هذا التراكم. بينما نلمس أن أ (الذي هو الشيء) يتضمن في داخله تناقض، ولا يمكن أن نعتبر أنه ساكن، وهذا التناقض هو الذي يقود إلى ب، التي هي النقيض (النفي)، لكن “وحدة الضدين” تعيد إنتاج أ متضمناً ب، وهو ما يسمى نفي النفي (أو التركيب). وهنا سنلمس بأن في كل هذه العملية يتحقق تراكم، وهذا التراكم هو الذي يسهم في تحقق النفي، ومن ثم نفي النفي. لتكون أ هي أ ولا أ في الوقت ذاته. وكل هذه العملية هي الصيرورة التي يسهم الديالكتيك في معرفتها.
إن الانطلاق من مبدأ (أو عنصر) التراكم الكمي والتغيّر النوعي سوف يقود إلى ملاحظة أ وتحولها إلى ب فقط دون لمس التركيب الذي هو وحده الموجود في الواقع. ولقد أشرت إلى فكرة بليخانوف حول السوق الحرة والاحتكار، حيث ليس من احتكار خارج السوق الحرة في الاقتصاد الرأسمالي. بينما إذا أخذنا الأمر من منظور التراكم الكمي سنصل إلى أن السوق الحرة كانت هي الواقع وانتفت لمصلحة الاحتكار، أي لم تعد هناك سوق حرة، وهذا مخالف للواقع ذاته. حيث تناقضات السوق الحرة التي وصفها ماركس بتفصيل تقود إلى نشوء الاحتكار، لكن هذا الاحتكار يظل “غارقاً” في السوق الحرة ذاتها، فهو لا يلغي هذه السوق بل يتشكّل وضع جديد يتحكّم الاحتكار فيه بالسوق الحرة.
إن ابتسار الأمر إلى سوق حرة/احتكار هو عين المنطق الصوري، حيث سيكونان على طرفي نقيض دون “وحدة” بينهما، وهذا مخالف للواقع. حيث أن التراكم الكمي الذي شهدته السوق الحرة لم يقد فقط إلى نفيها لمصلحة الاحتكار، بل أن تشكّل الاحتكار كنفي للسوق الحرة قاد إلى تشكيل جديد هو الاحتكار في إطار السوق الحرة، فقد عادت الفريضة متضمنة النفي حسب مصطلحات هيغل.
بالتالي ليس من الممكن أن نعزل عنصر (أو مبدأ) التراكم الكمي عن مجمل عناصر (أو مبادئ) الديالكتيك لأن ذلك يعيد إنتاج المنطق الصوري في شكل منظور تطوري تراكمي. الديالكتيك هو هذه العناصر (أو المبادئ) الثلاثة معاً. ولقد لمسنا كيف أن ابتسار الأمر في عنصر (أو مبدأ) يقود حتماً لتكريس المنطق الصوري، هكذا الأمر مع عنصر (أو مبدأ) التناقض، والآن مع عنصر (أو مبدأ) التراكم الكمي والتغيّر النوعي. وحده عنصر (أو مبدأ) نفي النفي، بالضبط لأنه يقوم على العنصرين (أو المبدأين) هذين. لهذا هو خلاصة الجدل.