مؤخراً تصفحت صفحة الفيس بوك التي تخص السيدة سعاد قوادري زوجة المرحوم الروائي عبد الرحمن منيف. ثمة كتابة بقلم الأستاذة سعاد تعقّب فيها على مقال نشر في صحيفة عربية تصدر في أوروبا يزعم كاتب المقال فيه أن الروائي عبد الرحمن منيف انتحل روايته «الآن هنا… أو شرق المتوسط مرة أخرى» (1991).
وجهة نظر كاتب المقال أن قسماً من الرواية هو تفريغ أشرطة معتقل سياسي عاش تجربة الاعتقال وأراد أن يدون ما مر به، وأن عبد الرحمن منيف لم يشر في روايته إلى اسم صاحب التجربة الحقيقي. ببساطة يريد صاحب المقال أن يقول إن الرواية رواية السجين لا رواية الكاتب، وأن الأخير انتحل الرواية. السيدة سعاد قوادري ردت على المقال الذي ادرجته على صفحتها مفندة ادعاءات المدعي، ومتسائلة في الوقت نفسه عن أسباب صمت صاحب الأشرطة هذه المدة الطويلة -تعني منذ العام 1991 حتى اليوم- ومتسائلة أيضاً عن السبب الذي لم يدفع بصاحب التجربة الإعلان عن الأمر أو الخوض فيه في حياة الروائي الذي توفي في العام 2003، أي بعد 12 عاماً من صدور الرواية.
تساؤلات السيدة سعاد قوادري تساؤلات مشروعة وهي في مكانها، ولو لم تثرها هي لأثارها قسم من القراء المتابعين. حقاً، لماذا تثار القضية الآن، ولماذا لم تثر يوم صدرت الرواية؟ ولماذا لم تثر في حياة الروائي؟ ولماذا تثار في صحافة تابعة للمملكة العربية السعودية؟
في رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط» (1975) يفكر رجب في كتابة رواية عن تجربته ويصمم لها شكلاً ويهرّب أوراقه من السجن إلى أخته أنيسة. لم نقرأ أوراق رجب وإنما قرأنا رواية عبد الرحمن منيف. وكان السؤال الذي يراود القاريء هو: هل الأوراق حقاً أوراق حقيقية أم أن الأمر لعب روائي؟ وكان هناك سؤال آخر يراود القاريء: هل سجن منيف فكتب عن أجواء السجن التي عاشها؟ وأين تحضر تجربته في الرواية وما هي حدودها؟ ماذا أضاف الروائي إلى تجربته وماذا حذف منها؟ وما مقدار حضور رفاقه السجناء وما نسبة كلامهم في النص؟
وسيرى قراء كثيرون ممن قرؤوا «شرق المتوسط» أن الكاتب لم يكتب عن تجربته وأن الرواية ليست رواية سيرية. بل إن بعض قراء الرواية من الكتّاب، ممن كتبوا عن أمكنة لم يعيشوا فيها ولم يزوروها ولم يعرفوها معرفة حقيقية، سيستشهدون بالرواية هذه لدحض آراء النقاد الذين عابوا عليهم الكتابة عن أمكنة لا صلة لهم فيها وسيقول الكتّاب: إن عبد الرحمن منيف كتب عن السجن رواية متميزة دون أن يكون سجينا. سأعرف أن الكاتب سجن 4 أشهر وأن كلام والدة رجب في الرواية هو كلام والدة الروائي. في الجدل القائم حول رواية «الآن هنا… أو شرق المتوسط مرة أخرى» يثير المرء أسئلة عديدة منها الأسئلة التي أثارتها السيدة سعاد قوادري.
من المؤكد أن البنيويين لن يكترثوا بالأمر اتكاء على مقولة “موت المؤلف” ومقولة أن كل كتابة هي كتابة على الكتابة وأن الأدب هو نشاط لغوي، وقد يرون في إثارة الموضوع ضرباً من العبث، وقد يرددون مقولتهم “ليس المهم الحكاية. المهم كيف تروى الحكاية “وعليه فإن الذي روى الحكاية وألّفها هو من كتبها وقدمها في شكلها النهائي. وهناك عشرات، إن لم يكن مئات، بل آلاف، الحكايات التي تتشابه، وحكاية صاحب الأشرطة قد تكون رويت عشرات الآلاف من المرات، وميزة رواية منيف عنها هو البناء الفني الذي أقيمت عليه. وعليه فإن الرواية، في النهاية، هي رواية من كتبها -أي رواية الروائي عبد الرحمن منيف- وقد يضيف أحدهم: “مع العلم أن المؤلف ما عاد الالتفات إليه مهماً”. أذكّر بمقولة رولان بارت “موت المؤلف”. أصحاب دور النشر سيسرون لهذا حتى لا يدفعوا حقوقه.
في النقد الأدبي العربي القديم غالباً ما كانت عبارة “ما أرانا نقول إلا معاداً مكرورا” غالباً ما كانت تجري على ألسنة المهتمين بالنقد. والذي يأتي بالجديد هو من يلتفت إليه. والجديد قد يكون على صعيدين: المحتوى والشكل. والسؤال هو: هل كرّرت روايتا منيف روايات سابقة على صعيدي الشكل والمضمون؟ ربما وجب أن تُدرّسا في ضوء منهج “برونتير” أيضاً. أين هما من روايات أدب السجن في العالم العربي؟
أنجزت روايات كثيرة قبل “شرق المتوسط” عن عالم السجن، ولكني لا أعرف رواية ضاهتها من حيث البناء الفني أو تصوير عالم السجن. وبعد صدورها سنقرأ سيراً ذاتية ممتعة لسجناء مروا بالتجربة مثل الفلسطيني معين بسيسو في «دفاتر فلسطينية» والأردني يعقوب زيادين في «البدايات» والمصري طاهر عبد الحكيم في «الأقدام العارية» وهذه تبقى سيراً ذاتية لا روايات وهي صوّرت عالم السجن من الداخل غالباً.
لدى الأديب الألماني غوتة القول الفصل، لا شك أن محبي عبد الرحمن منيف سيجدون في آراء غوتة ما يشبه الخبر اليقين. إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام. يأتي غوتة على علاقة اللاحق بالسابق وما يضيفه المتأخرون زمناً إلى المتقدمين زمناً، ويبدي رأيه في الأدباء الكبار-وعبد الرحمن منيف كاتب كبير- فيقول: “ليس الأدباء الكبار أدباء كباراً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، وإنما هم أدباء كبار لأنهم أظهروا الأشياء كما لو أنها تظهر لأول مرة “. كما لو أن غوتة بنيويٌ. كما لو أنه يرى أن الكتابة كتابة على الكتابة. كما لو أنه يؤمن بأولوية الشكل.
اعتماداً على مقولات البنيويين ومقولات النقاد العرب القدامى، ورأي غوتة في الكتّاب الكبار، فإن الضجة التي تثار حول انتحال الكاتب عبد الرحمن منيف رواية «الآن هنا… أو شرق المتوسط مرة أخرى»، لا أهمية لها، ولن تقدّم في الأمر شيئاً، وهي عموماً ضجة أُثير مثلها الكثير، بل إن مثل هذه الضجة غدت حيلة أدبية يلجأ إليها روائيون كثر. من علي بدر في «مصابيح أورشليم» مروراً بيوسف زيدان في «عزازيل» وليس انتهاء برواية إلياس خوري الأخيرة «أولاد الغيتو… اسمي آدم».
كنت في العام 1997 لجأت إلى الحيلة نفسها في نصّي «خربشات ضمير المخاطب» وزعمت أن هناك من أعطاني أوراقه التي شكلت مادة النص، وحتى الآن ما زال كثيرون يرون أنني انتحلت الكتابة وأن هناك شخصاً آخر غيري هو صاحب الأوراق.