«الفصول في كوينسي: أربعة بورتريهات لجون بيرجر» (2016) هو نتيجة مشروع امتد لخمس سنوات لتيلدا سوينتون وكولين ماكبي وكريستوفر روث لإنتاج بورتريه عن المفكر والكاتب جون بيرجر. العمل من إنتاج ديريك جارمان لاب، والموسيقى التصويرية لسيمون فيشر تيرنر.
جون بيرجر (1926-2017) الشاعر والروائي والمسرحي والفيلسوف والإعلامي والسياسي الماركسي، وناقد الفنون التشكيلية، والذي يرى الكثيرين أنه أهم مفكر بريطاني في الخمسين سنة الماضية. هو الوحيد الذي حاول دمج بين التحليل الاقتصادي وعلم الأخلاق والسياسة والجماليات، وهو الأمر الذي كنا في حاجة شديدة له، ولا نزال. تخلى بيرجر عام 1973 عن العيش في المدينة، وذهب للحياة في قرية صغير بجبال الألب هي “كوينسي”. أدرك بيرجر أن عملية الزراعة التي يقوم بها فلاحون في حياة متقشفة هي ما كانت دوماً تحرِّك مسارات التاريخ. قرر بيرجر أن يقضي بقية حياته يتأمل ويشاهد هذه الحياة التي قاربت على الاختفاء، بل ويشارك فيها.
وفي ثلاثيته الفذّة “على تعبهم”، ينقل لنا بيرجر الحياة الرعوية، وكيفية لجوء الفلاحين إلى السرد، ورواية الحكايات والأقاصيص، كواحدة من ستراتيجيات تمثيل الحياة واستدامة ثرائها.
الفيلم الذي يحمل الكثير من ملامح العمل الوثائقي في ثيماته، صُوّر كلّه في كوينسي، بإيقاعها خلال فصول السنة الأربعة فيها. حين كان الهدف الأساسي من جمع الأجزاء الأربعة (طرق في الإنصات، الربيع، أغنية للسياسة، الحصاد) هو تصوير أبعاد حياة بيرجر، والأجواء التي يعيش ويكتب ويعمل فيها.
تنفيذ مُحبِط لفكرة واعدة
نجد في كل جزء أسلوب ومخرج، وفريق عمل مختلف. لكن الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون كانت الشخص الحاضر دائماً وراء الكواليس وأمامها أحياناً. هي صديقة لجون بيرجر منذ وقت طويل. ظهرت في الفصل الأول، وأخرجت الفصل الأخير.
يغلب على الفصل الأول (طرق في الإنصات)، حديث وديّ بين سوينتون التي ولدت في اليوم نفسه الذي ولد فيه بيرجر، ووالدا كليهما قد خدما في الحرب العالمية الثانية. يظهر شتاء كوينسي، بينما سوينتون تحكي عن طفولتها وهي جالسة إلى طاولة المطبخ في بيت بيرجر، وفي الوقت نفسه تعمل على تجهيز كعكة التفاح.
تبرز، أكثر من مرة، في الفصل الأول من الفيلم، صورة محمود درويش معلقة على جدار بيت بيرجر من الخارج. لم يكن خفيًا أن بيرجر صديقًا للقضية الفلسطينية، وله كتابات كثيرة في نقد إسرائيل، وتناول مظاهر مختلفة من حياة الفلسطينيين اليومية، وترصّد الوجود الفلسطيني وأشكال الثقافة المختلفة عنده تحت الاحتلال، أو في ظلّ الحصار. وكثيرًا ما كان يعود بيرجر إلى محمود درويش، وكتب عنه مرارًا، متسائلًا بنظرة ناقد ومثقف، عمّ يجعل الملايين يحبون شعر درويش.
حتى أن بيرجر ترجم قصيدة “جدارية” لدرويش، بالتعاون مع الأكاديمية الفلسطينية ريما حمامي. ويظهر في إحدى أحاديثه الإذاعية، يقرأ مقاطع من قصيدة “لاعب النرد” للتدليل والإجابة على سؤاله الذي طرحه حول هذا الحب الذي حظى به درويش من قبل قرّائه الكثيرين.
في الفصل الثاني (الربيع) نجد الكثير من الحيوانات الرعوية، ومعها أجزاء من مقال لبيرجر بعنوان “لماذا ننظر إلى الحيوانات؟”، حيث نبدأ في فهم الطريقة التي يرى بها بيرجر الحيوانات. لكن روث (مخرج هذا الجزء) يجعلنا نعرف أثناء السرد أنه شخص نباتي! بالإضافة لبعض مقاطع الفيديوهات التي يظهر فيها دريدا، واقتباسات من هيدجر، وهو ما بدا محاولة لإبراز وجهات نظر حول الموضوع بدا أغلبها مقحمًا في النسيج السردي للفصل.
في الفصل الثالث (أغنية للسياسة)، هو الأقل جودة، حيث يحاول إظهار الميول الأيديولوجية الماركسية، وتوجهات بيرجر السياسية، بالإضافة لمقاطع من برامج قدمها خلال مساره المهني كإعلامي بريطاني في التليفزيون خلال فترة الستينات.
في الفصل الرابع والأخير (الحصاد)، والذي يظهر واضحًا أنه يدور في الصيف، نقضي وقتًا أطول مع إيفز، ابن بيرجر، وزائرين، إلى كوينسي، لايزالا في مرحلة المراهقة. ويظهراستخدام سوينتون لـ “الدرونز” (الطائرات الصغيرة دون طيارة) لتصوير منطقة الجبال المحيطة بكوينسي.
ينتهي العمل بمشهد لبيرجر وهو يقود دراجة نارية ويرتسم عليه ملامح البهجة رغم أنه في الـ 89 من عمره. لكن الفصول الأربعة لم تقدم صورة متماسكة أو متناغمة أو منسجة للمفكر الكبير سواء من الناحية الإنسانية أو الفكرية على اهتماماته شديدة التشعّب. كما أنها افتقدت بشدّة التعريف ببيرجر ولو بشكل بسيط، من أجل مشاهد ربما يكون لا يعرف شيئًا عن هذا الرجل.