المقابلة: سليمان منصور

سليمان منصور ومنحوتة "جمل المحامل"

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

02/05/2017

تصوير: اسماء الغول

أوس يعقوب

كاتب من فلسطين

أوس يعقوب

يعمل كاتباً ومراسلاً صحفياً لعدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منذ العام 1993. صدر له عدة كتب ودراسات في الشؤون الثقافية الفلسطينية والعربية. وله مجموعة دراسات منشورة ضمن موسوعة "أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين"، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في تونس.

سليمان منصور (1947)، أحد أبرز الفنانين التشكليين الفلسطينيين في العقود الأربعة الأخيرة، حيث رسّخ طوال مسيرته الفنية نفسه كفنان معترف به عالمياً يكرّس فنّه للتعبير البصري عن الهوية والتراث الفلسطينيين. 

بدأ اسمه يلمع اوائل سبعينات القرن الماضي، بعد اشتهار عدد من لوحاته وأهمها وأكثرها انتشاراً لوحة “جمل المحامل” التي يكشف لنا في هذا الحوار تفاصيل جديدة عنها. وقد أسست لوحاته التصويرية الزيتية والمائية ومتعددة الخامات والصنائع التقنية، لولادة اتجاه فني تشكيلي داخل فلسطين المحتلة وخارجها. وقد أقام ضيفنا مجموعة من المعارض الفردية الشخصية والجماعية داخل فلسطين وفي عدد من المدن العربية والعالمية، وهو حاصل على جوائز عديدة فلسطينية وعربية ودولية. 

بداية لو نتعرف عن اتجاهك للرسم في مرحلتي الطفولة والمراهقة. ما الذي هداك إلى عالم الألوان؟ وهل توجد حادثة ما في طفولتك، دفعتك لاتخاذ الرسم أداة للتعبير؟ 

قضيت الكثير من فترة الطفولة والمراهقة في مدرسة داخلية في بيت لحم وبيت جالا ولم استفد بالطبع من حصص الفن التي كانت مقررة في المنهاج لعدم وجود الإمكانيات والشروط الأساسية اللازمة. واستلم في تلك الفترة أستاذ ألماني إدارة القسم الداخلي حيث استحدث نواد مختلفة لإشغال الطلاب في فترة ما بعد الدراسة ومن بينها ناد للفن. والتحقت بهذا النادي وانتبه الأستاذ لموهبتي وصار يؤمن لي كل ما يلزم لأطور هذه الموهبة، كما وحثني على المشاركة في مسابقة فنية لأطفال العالم من خلال الأمم المتحدة. وحزت على الجائزة الأولى حيث طبعت لوحتي على غلاف كتالوغ المسابقة بالإضافة إلى مائتي دولار. لقد أثّرت هذه الحادثة في توجهي نحو الفن حيث اكتسبت احترام وتقدير المدرسة وكذلك العائلة وقريتي حيث أن مثل هذا المبلغ في بداية الستينات كان ثروة لا بأس بها كما أن التقدير كذلك أعطاني ثقة بنفسي وتصميماً على متابعة تعلم الفن.

لنتوقف عند أهم مواسم العطاء والمحطات المؤثرة في حياتك إنساناً ورساماً ونحاتاَ مبدعاً ملتزماً، كيف تقدمها للقراء؟

أعتقد أن حرب عام 1967 كانت محطة مهمة بالنسبة لي؛ حيث منعتني هذه الحرب من السفر إلى الولايات المتحدة للدراسة وربما للهجرة وبقيت في البلاد ودرست في كلية فنون في القدس الغربية. إن بقائي في فلسطين أثر كثيراً في توجهي الفني وخياراتي الثقافية والسياسية وحياتي بمجملها. وفي بداية سبعينات القرن الماضي تعرفت على عدد من الفنانين القلائل الذين كانوا يعملون في البلاد من بينهم نبيل عناني وعصام بدر وكامل المغني وفيرا تماري وبشير السنوار وقررنا تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين في الأرض المحتلة. وكانت هذه محطة أخرى مهمة ساهمت في بلورة أسلوبي وتوجهي الفني. لقد أقمنا سلسلة من المعارض التي أتاحت لنا التعرف على شخصيات سياسية ووطنية مثل توفيق زيّاد وبسام الشكعة وكريم خلف بالإضافة إلى شخصيات ثقافية مثل إميل حبيبي وسميح القاسم. والأهم أننا كنا نلتقي مع الجمهور المتعطش للفن والذي كان يناقشنا بحرارة حول الفن ودوره في ظل الاحتلال. لقد أشعرتنا هذه اللقاءات والنقاشات بأهمية الفن في تعبئة الناس وهذا الشعور قادنا إلى التفكير في الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الشعب الفلسطيني خاصة في الريف والمخيمات. وقررنا من أجل الوصول إلى هذا الهدف طباعة أعمالنا الفنية كبوسترات يسهل حملها وتوزيعها في كل مكان. وكانت هذه محطة أخرى هامة؛ إذ أدت إلى تعريف واسع بالفنانين وبإنتاجهم الفني. وكانت لوحة “جمل المحامل” من أول الأعمال التي طبعت وانتشرت بشكل واسع في بيوت الناس. وحولنا هذا النشاط إلى شخصيات ثقافية معروفة ومحبوبة. ولكن من ناحية أخرى لفتت انتباه سلطات الاحتلال إلينا وإلى نشاطنا الفني، وبدأت سلسلة من ردود الفعل كمصادرة البوسترات ومن ثم مصادرة أعمال فنية واعتقال فنانين وإصدار قوانين مختلفة تحرّم العرض الحر، وحتى تمنع استعمال ألوان العلم الفلسطيني (الأحمر والأخضر والأبيض والأسود). وكانت الصحف المحلية وبعض الصحف الأجنبية تنقل أخبار هذه الممارسات، الأمر الذي أدى إلى حملة تضامن من فنانين من دول كثيرة في العالم. هذا الاهتمام الواسع بالإضافة إلى شعورنا بمحبة وتقدير الجمهور الفلسطيني لنا جعلنا نتعامل مع إنتاجنا الفني بجدية عالية ووقار، الأمر الذي أثقل من كاهل الفنان نوعاً ما؛ لأن هذه الصفات تتعارض مع طبيعة الفن التي تتطلب الحرية والانطلاق. وكانت انتفاضة عام 1987 محطة أخرى إذ أعطتني أنا وبعض زملائي الحرية التي كنا نصبو إليها. وبدأنا باستعمال مواد خام من الطبيعة بطريقة لا تخلو من التجريب واللعب والإثارة. والغريب أن الجمهور عندما عرضنا أعمالنا استقبلها بكل إعجاب واهتمام. وبعد اتفاق أوسلو شعرتُ أنا وزملائي في جماعة “نحو التجريب والإبداع” بضرورة تأسيس بنية تحتية للفن، وكانت هذه محطة أخرى مهمة؛ إذ أسسنا عام 1994 مركز الواسطي للفنون في القدس. ومن المشاريع المهمة التي أنجزناها من خلال المركز، كان توثيق الفن الفلسطيني حتى عام 2002 حيث أغلقنا المركز في عام 2003 بسبب الضغوطات التي واجهناها من الاحتلال خلال انتفاضة عام 2000. وافتتحنا بعدها جاليري الحلاج الذي نجحنا من خلاله بتأسيس الأكاديمية الدولية للفنون في رام الله والتي ستنتقل قريباً إلى جامعة بيرزيت لتستمر هناك ككلية فنون معاصرة. إنني أشعر بالرضا عندما أراجع كل هذه الفعاليات لأنني ساهمت وبفعالية فيها وبالتالي خدمت أنا وزملائي وبكل أمانة الفن الفلسطيني في الأرض المحتلة.

تميزت أعمالك باستخدام خامات من البيئة الفلسطينية (طين على خشب، فخّار أثري، حِنّاء، شيد على خشب، طين وحنّاء وألوان مائية، خيش)، والتي استخدمتها بشكل خاص خلال حركة المقاطعة الاقتصادية في انتفاضة العام 1987، يومها شكلت مع مجموعة من الفنانين الفلسطينيين البارزين مجموعة «نحو التجريب والإبداع» لمقاطعة المنتجات الفنية الإسرائيلية والعمل بخامات محلية. حدثنا عن هذه المرحلة الهامة من تاريخ الفن الفلسطيني المقاوم، وأهمية المقاطعة في تلك الفترة الزمنية والتي استمرت لمدة عشر سنوات.

تلخصت انتفاضة عام 1987 بضرورة الاتكال على الذات ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية. وفَهمَ الناس هذا الأمر كلٌ بطريقته الخاصة وكذلك الفنانون الذي توجه قسم منهم إلى استعمال مواد خام من الطبيعة كبديل لمواد الفن التقليدية التي كنا نشتريها من إسرائيل. واستعمل نبيل عناني الجلد والحناء، وفيرا تماري التي استخدمت قطع الفخار الأثري الموجودة بكثرة حول البلدات والقرى في الريف، أما تيسير بركات فقد استعان بالأصباغ الطبيعية ومن ثم الحرق على الخشب، وأنا استعملت الطين والتبن والشيد وألوان ترابية. وقررنا في عام 1990 تشكيل جماعة أسميناها “نحو التجريب والإبداع”. إن توجهي نحو استعمال مادة الطين كان نتيجة ذكريات من الطفولة حيث كنت أساعد جدتي في بناء أواني مختلفة من الطين لاستعمال العائلة مثل بيوت الصيصان والنحل وطابون وموقد وغيرها. كما أن هناك رمزية عالية في استعمال مادة الأرض كوسيط فني خاصة في حالتنا الفلسطينية. وكنتُ في البداية استعمل الطين كبديل للألوان التقليدية وأخلط معه ألوان ترابية أو مواد ذات ألوان مختلفة من العطار واتجه أسلوبي نحو التجريدية. ولكن ومع مرور الوقت قادتني مادة الطين نحو النحت البارز ومن ثم النحت ثلاثي الأبعاد وعدت نوعاً ما إلى الواقعية الرمزية والاعتماد على التشققات الطبيعية العشوائية لمادة الطين لكي أعكس حالة التشظي والتشرذم لوضعنا العربي بعامة والفلسطيني بخاصة. إن استعمال مواد خام من الطبيعة كوسيط فني أمر عادي في تاريخ الفن العالمي، ولكن عملنا لم يكن نتيجة نزهة فنية عابرة بل كضرورة ملحة في الزمن المناسب كأداة مقاومة فعالة ممكن أن تشكل قدوة لكافة مجالات الحياة في الأرض المحتلة. وقد أسست جماعة “نحو التجريب والإبداع” لحركة التجديد والتغيير في الفن الفلسطيني المعاصر واستطاع الفن التشكيلي في رأيي ومن خلال هذه الجماعة أن يعكس روح الانتفاضة الأولى أكثر من كافة مجالات التعبير الفني في الثقافة الفلسطينية.

لوحتك الزيتية “جمل المحامل” التي رسمتها في العام 1973، هي أكثر أعمالك شهرة، وسعة انتشار وتواجد فوق جدران البيوت ومكاتب العمل الوطني الفلسطيني. ما هي قصتها؟ وهل فعلاً اقتناها العقيد معمر القذافي وحرقت في العام 1986جراء القصف الأمريكي على مدينة سرت، وأنك أعدت رسمها مع إجراء عدد من التغييرات عليها. لو تستفيض في هذا الموضوع.

عندما قررنا طباعة هذه اللوحة في عام 1975 بدأنا بالبحث عن اسم مناسب لها، وتدخل الكاتب الكبير إميل حبيبي وأطلق عليها اسم “جمل المحامل”. وفي عام 1976 دُعينا لإقامة معرض مشترك في لندن حيث زار المعرض السفير الليبي واشترى اللوحة ليقدمها هدية إلى العقيد القذافي بمناسبة يوم ميلاده وطلب مني كتابة إهداء على اللوحة نفسها فرفضت وكتبته على خلفها وبعدها لم أعرف مصيرها. وخلال عملية توثيق الفن الفلسطيني عام 2000 اتصلنا بالسفارة الليبية في لندن وقيل لنا أنها ربما دمرت خلال القصف الأمريكي عام 1986 ولكن من دون تأكيد شيء. وفي عام 2005 عملت نسخة عنها ولكن بحجم أكبر ومع بعض الإضافات والتغييرات مثل إضافة كنيسة القيامة وتغيير شكل الحبل من مبروم إلى مبسط. وقد شجعني على القيام بهذا العمل الكثير من الأصدقاء والمبرر أن العديد من الفنانين قاموا بعمل عدة نسخ لأعمالهم المشهورة ومنهم النرويجي “إدفارت مونك” الذي عمل أربع نسخ من لوحته الشهيرة “الصرخة”.

اشتغل النحات العراقي أحمد البحراني مؤخراً على هذه اللوحة، فجعل جمل المحامل يترجل ويقف على قدميه بمنحوتة مجسمة، بالإضافة إلى جدارية أبدعها البحراني بمادة البرونز. كيف تلقيت هذا العمل وماذا عنى لك؟

أحمد البحراني فنان مبدع، وعندما اتصل بي لإنجاز هذا العمل كمنحوتة أعجبتني الفكرة وكذلك أعجبني التعاون مع فنان عربي بقيمة البحراني، وقمت بزيارة مرسمه في الدوحة ووقعنا على العمل سوية. وفي رأيي إن التمثال عملٌ جميل، أما الجدارية فلم أرها كذلك. إن رؤية “جمل المحامل” مجسماً ويقف على رجليه بأدق التفاصيل كان أمراً مبهراً بالنسبة لي خاصة الجهة الخلفية منه والتي كانت إضافة مبدعة من البحراني. ويا ليت هذا العمل ينفذ وبحجم كبير في أحد ساحات رام الله ليظل يذكر الناس الذين أخذتهم المظاهر ومشاغل الحياة عن التفكير في القدس وتحريرها.

ما هي العوامل التي عملت على تشكيل لغتك البصرية وميزة منجزك الفني؟

ذكريات الطفولة والمراهقة التي قضيت جزءاً كبيراً منها في بلدتي بيرزيت وخاصة في الجبال والتلال المحيطة بها وكروم الزيتون والتين والعنب وغيرها، كونت لدي معرفة واسعة بالأرض والقرية وتراثها وحباً عميقاً لها، وخوف لاحق عليها من مخاطر الاحتلال الذي يسعى بشراهة للاستحواذ عليها والقضاء على الذاكرة الفلسطينية فيها. وكذلك حياتي في فترة الشباب ولغاية الآن في القدس والذي كوّن لدي مع السنين حباً كبيراً لهذه المدينة وأهلها وتراثها وعبق تاريخها. كل هذه الأمور تظهر جلياً في عملي الفني وهي من المكونات الأساسية فيه. كما أنني لم أسعَ قط لأخذ الاعتراف من الأجنبي عموماً أو أحلم بأن يكون عملي معلقاً في متاحف مهمة في العالم وهذا الأمر أبقى عملي قريباً من هموم ومشاكل الناس والقضية الفلسطينية على مدى مراحلها المختلفة.

معظم أعمالك اعتمدت فيها على الرمزية والرمزية السريالية ذات القاعدة الواقعية بالإضافة إلى التصوير، هذا الأسلوب والصنائع التقنية متعددة الخامات، أسست لولادة اتجاه فني تشكيلي في صفوف الشباب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة وخارجها منذ سبعينات القرن الماضي، فإلى أيّ مدى يمكننا أن نتحدث الآن عن “مدرسة” سليمان منصور في التشكيل الفلسطيني والعربي؟

ربما كان تأثيري في الفن الفلسطيني، ولكن الفن التشكيلي العربي عالم كبير وواسع ولكل منطقة تأثيراتها الخاصة والمتنوعة. وحتى في الفن الفلسطيني هنالك ميل لدى الشباب للابتعاد عن تأثيرات عملي الفني وعمل غيري من الفنانين الذين عملوا في فترة سبعينات وثمانينات القرن الماضي وهو نوع من “الثورة على الأب” وهذا حقهم الطبيعي. أعتقدُ أن عملي الفني شكّل ظاهرة معينة في الفن الفلسطيني، أما قيمة هذا العمل وأي اسم نطلق عليه فهذه وظيفة النقاد ومؤرخي الفن وليس أنا.

الاحتلال، التهجير القسّري، الاقتلاع من الأرض، الشهيد، الفدائي، المقاومة، والانتفاضة وغيرها، كانت عناوين للكثير من لوحاتك.. فهل يعود ذلك لأن هاجس التوثيق والتسجيل يحضر بقوّة في أعمالك الفنية؟ 

لقد تفاعلت مع هذه الأحداث والمواضيع بكل صدق وحاولت قدر استطاعتي التعبير عنها بالطريقة التي أراها مناسبة. وبالطبع فإن التوثيق جانب مهم من الفن بعامة والفن الفلسطيني بخاصة ولكنني لم أتعامل مع التوثيق بمفهومه الطبيعي حيث أنني لم أوثق حادثة بعينها إلا ما ندر فمثلاً لوحة الشهيد تعبر عن ظاهرة الشهادة وليس إنسان بعينه وكذلك السجين وغيرها.

عملت في مجالات أخرى غير الرسم، منها إقامة نصبين تذكاريين من تصميمك، نفذت الأول بمشاركة الفنان نبيل عناني والثاني في مدينة بيت لحم. هل لك أن تضيء هذه المحطة من مسيرتك الفنية؟

نفذتُ أنا وزميلي نبيل عناني ثلاثة نصب تذكارية أحدها من تصميمي على مدخل جمعية “إنعاش الأسرة” بمادة الألمنيوم المصبوب وبارتفاع حوالي ستة أمتار. والآخر برونزي على دوار ياسر عرفات وهو دوار مركزي في مدينة رام الله. ومؤخراً تمثال بروزني آخر لراشد حدادين وعائلته وهم الذين أسسوا مدينة رام الله الحديثة منذ أكثر من 500 عام، وهو موجود على  مدخل مبنى البلدية. وعملت أربع جداريات من فخار وبرونز وفسيفساء ومينا على نحاس في مدرستي التي تعلمت فيها منذ الطفولة وفي مدرسة أخرى بنفس المدينة. إن الأعمال الجدارية والنصب العامة تشدني من منطلق إيماني بأن الفن يجب أن يكون للناس وليس لفئة ثرية منهم. وكنا ولا نزال نتحمس لمثل هذه المشاريع بالرغم من مشاكلها الكثيرة لعدم توفر التقنيات والمواد اللازمة لعملها في فلسطين، وكذلك لعدم توفر الإمكانيات المادية الكافية لإنجازها بالطريقة اللائقة.

عملت أيضاً مع نبيل عناني، على توثيق الوحدات الزخرفية في التطريز الفلسطيني، وقد صدر هذا الجهد في كتابين عن “جمعية إنعاش الأسرة للفنون الشعبية” بالبيرة، هما «الملابس الشعبية الفلسطينية»، و«دليل التطريز الفلسطيني». ما أهمية مثل هذه الخطوة في توثيق تراثنا ومواجهة محاولات الطمس الصهيونية المتكررة للتراث الشعبي الفلسطيني؟

توثيق التراث الفلسطيني ومن ضمنه الأزياء الشعبية والتطريز من الأمور الهامة للغاية لما يتعرض له هذا التراث من سرقة وتزوير وطمس وكذلك للأسف الإهمال من جانبنا نحن. ومن هذا المنطلق انضممنا أنا والزميل نبيل عناني إلى لجنة التراث الشعبي في جمعية “إنعاش الأسرة” وهي أهم لجنة في فلسطين في هذا المجال. وكان همنا توثيق التراث المادي وبالذات الأزياء الشعبية والتطريز. وبالفعل ساهمنا بصورة فعالة في كتاب «الملابس الشعبية الفلسطينية» وأنجزنا أنا ونبيل كتاباً آخر باسم «دليل التطريز الفلسطيني» يحتوي على أكثر من 600 عرق وتصميم استعملت في التطريز الفلسطيني أخِذت من أثواب قديمة لغاية فترة الستينات من القرن الماضي. ويعتبر هذا الكتاب أكثر كتب الجمعية مبيعاً حيث صدرت مؤخراً الطبعة الخامسة منه. وصممنا وأنجزنا متحفاً صغيراً للجمعية يضم كافة النماذج التراثية ومن بينها مجموعة مهمة من الأزياء التي جمعتها الجمعية خلال عشرات السنوات من نشاطها.

هل تجد في الرسم مناسبة للإعلان عن غضبك من المُحتل، وضيقك بعالم يرى جرائم الاحتلال بحق شعب أعزل ويلتزم الصمت؟ وهل الرسم بالنسبة لك مختبر لأرواح أبناء شعبك المعذبة؟

إن أعمالي الفنية كما أراها تحتوي على مزيجٍ من المشاعر كالغضب والحزن والأمل والانتظار والضياع. إنني أحاول أن أنجز أعمالاً جميلة في ظاهرها ولكنها توصل رسائل ممزوجة بجزء أو كل المشاعر التي ذكرتها وهي كلها مشاعر تختلج في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. 

مع كل عمل فني جديد لا يكرر سليمان منصور نفسه، إنما يقدم اقتراحات جديدة دوماً، هل ثمة تخطيط عند اختيار موضوع اللوحة، وإلهام عند اختيار اللون.. وبالتالي، من أين تستمد أفكار ومواضيع لوحاتك؟

اختيار الموضوع هو الشيء الصعب في إنتاج العمل الفني خاصة إذا أراد الفنان أن يتجنب التكرار. إن الاحتلال وممارساته هي هي، ولم تتغير منذ عشرات السنين. والتعبير عن هذه الممارسات يدخل الفنان أحياناً كثيرة في فخ التكرار، وعلى الفنان أن يجد دائماً طريقة مبتكرة وموضوعاً جديداً للتعبير عنها. وهذا ليس بالأمر الهين إذ يأخذ غالبية وقت الفنان أما التنفيذ الفعلي فهو في الغالب ممتع وسريع. إنني أعمل عشرات التخطيطات قبل أن أبدأ العمل ولكنني ألاحظ أنني دائماً أعود إلى التخطيط الأول لأنه على ما يبدو هو الأصدق.

أقمت مجموعة من المعارض الفردية الشخصية والجماعية داخل فلسطين والمدن العربية والعالمية الشرقية منها والغربية، هل تعمد من معرض إلى آخر إلى إحداث تغيير في الأسلوب أو في “التقنية”، أو في أي شيء، سمه ما تشاء؟

المشكلة في أسلوبي الفني أنني أتعامل مع كل عمل فني كمشروع بحد ذاته وهذا يأخذ وقتاً وجهداً كبيرين ولكن المحصلة النهائية تكون مؤثرة وتترك انطباعاً يعلق في ذهن المشاهد. ولكن في الوقت ذاته، تجعلني هذه الطريقة مُقلاً في الإنتاج خاصةً بالنسبة للمعارض الفردية، أما المشاركات فهي كثيرة ويصعب حصرها. وبطبيعة الحال، إذا لم يقدم الفنان تجربة جديدة في المعرض الفردي فسيكون الهدف من إقامة المعرض التسويق فقط وهذا النمط هو من أسوأ أنواع المعارض.

ما الذي يمنحك طاقة إضافية على التجدد والتأمل والرسم والإبداع وإغناء التجربة وتوسيع رقعتها والأخذ بيدها إلى مناطق نائية، وبعيدة، غير مطروقة؟

أعتقد أن كافة الفنانين يمتازون بالعناد والصبر والمثابرة وهذه الطبيعة تجعلني أعمل باستمرار، أما ما يعطيني الطاقة فهو شعوري الدائم بأنني لم أعمل ما فيه الكفاية وأنني مقصر. وأعتقد كذلك أن الاطلاع على تجارب الغير والقراءة تفتح دائماً نوافذ واسعة للفنان وتؤشر له ولو من بعيد بمسالك جديدة في الفن.

كيف ترى المشهد التشكيلي الفلسطيني في الشتات والمنافي البعيدة وأنت تعيش في رام الله؟ وهل يمكن إجراء مقارنة بين المشهدين (في الداخل والخارج). من حيث الأسلوب والمضامين الفنية؟ وهل بالإمكان الحديث عن خصوصية تميز الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر؟

أنا لست على اطلاع كامل بما يجري عند الفنانين في الخارج وبالذات في الغرب حيث يبرز فنانون شباب جدد سنوياً في الكثير من بلدان الغرب وبالذات في أمريكا الشمالية والجنوبية. ولكن أعرف أن غالبيتهم يتأثرون بالمشهد الفني في البلدان التي يعيشون فيها ويستعملون وسائط وتقنيات معاصرة أكثر من فناني الداخل وهذا أمر طبيعي. ولذا فإن أعمالهم تمتاز بالغموض وبتأثرها بفلسفات وأفكار معاصرة مقارنة مع فناني الأرض المحتلة. ويوجد ميل لدى كل من فناني الداخل والخارج على حد سواء لمعالجة قضايا وحالات جمالية أو إنسانية عامة مع وجود حالات استثنائية بالطبع، وليس التركيز على قضية الشعب الفلسطيني بشكل خاص. لقد امتاز الفن الفلسطيني في الماضي بأنه يعالج قضايا شعبه وبأسلوب واقعي رمزي أو تعبيري أو شبه واقعي (مع بعض الاستثناءات)، أما اليوم وفي ظل الأجواء الراهنة فإنه يصعب الحديث عن خصوصية تميز الفن الفلسطيني المعاصر وأتمنى أن أكون مخطئاً.

برأيك ما هو تأثير الحداثة على الفن التشكيلي العربي عامة والفلسطيني على وجه الخصوص؟

أعتقد أن الحداثة ترهب الجمهور العريض من الفن بصفته شيء غريب وغير مفهوم وتفقده تأثيره في الناس. إن الفنان يتعمق بتطوير تقنياته ومعارفه وفلسفاته الفنية بصفته متخصص في هذا الحقل، بينما قلما يعترض الجمهور لأي ثقافة فنية، الأمر الذي يخلق هوة كبيرة بين الجانبين ويجعل من الفن وحتى الفنانين أموراً غريبة في المجتمع. ومما يزيد من الطين بلة أن الكثير من الفنانين العرب وكذلك الفلسطينيين يسعون إلى أخذ الاعتراف بهم من الغرب ومؤسساته أو من أسواق عربية يديرها الغرب وهذا يجعل الفن مفرطاً في النخبوية. كما أن الفن اليوم أو الحداثة تعتمد على نصوص يكتبها الفنان لتفسير رؤيته للعمل الفني وفلسفته في الفن والحياة وغالباً ما تزيد هذه النصوص من غربة المشاهد. أنا بالطبع لا أقول أن المذنب هنا هو الحداثة أو الجمهور العريض وإنما الأنظمة السياسية التي تهمل الفن ولا تعطيه أي أهمية إن كان في المدارس أو في الحياة العامة ككل.

في عالمنا المعاصر لم تعد اللوحة وحدها وسيطاً تعبيرياً فنياً، ثمة وسائط أخرى، مثل التجهيز والفيديو آرت والبيرفورمانس وما إلى ذلك. وهذه الوسائط لها جانب نقدي سياسي واجتماعي كما تعلم، ضمن هذا المنظور أين اللوحة؟

اللوحة دائماً لها دور ووجود ومنذ سبعينات القرن الماضي وأنا أسمع وأقرأ أن اللوحة انتهت وأن عصرها ولّى ولكنني لم ألاحظ أنها انتهت أو خف وجودها. الفن المعاصر بكافة أساليبه وتقنياته يعالج أفكاراً اجتماعية وسياسية وإنسانية عامة وكل هذه الأساليب هي أدوات لإيصال مثل هذا النقد المجتمعي. ولا أعرف لماذا لا تكون اللوحة من ضمن هذه الوسائل التي تعالج أفكاراً وفلسفات معاصرة بطريقتها الخاصة.

هل تشعر بالرضا عما أنجزت حتى الآن؟ وما الذي تطمح إليه وتتمناه حالياً؟

أشعر بالرضا لما قمت به بالنسبة للفن الفلسطيني ابتداءً من تأسيس رابطة التشكيليين عام 1974 وحتى تأسيس أكاديمية الفنون في رام الله عام 2006 وكل ما حصل خلال هذا الوقت الذي كنت فيه مساهماً فعالاً في تأسيس حركة فنية نشيطة وفعالة. ولكنني في الوقت ذاته أشعر الآن بأنني أضعت الكثير من وقتي الذي كان من الممكن أن أقضيه في مرسمي وفي التركيز على عملي الفني. إنني عندما أراجع ما استطعت توثيقه من أعمالي أشعر بأني لم أعمل بما فيه الكفاية وكان من الممكن أن يكون هذا الأرشيف أكبر وأغنى بكثير. أنا الآن أطمح وبعد أن تنتقل الأكاديمية إلى جامعة بيرزيت أن أتفرغ بالكامل لعملي الفني وأبتعد عن كل الأمور الأخرى التي قد تأخذ ما تبقى لي من وقت، لأن العمل الفني هو الشيء الوحيد الذي يحسب للفنان وليس عدد المراكز التي أسسها أو وصل إليها.

سأذكر ثلاثة أسماء تاركاً لك التعليق: الراحل إسماعيل شموط، الفنان كمال بلاطة، ورفيق العمر والدرب نبيل عناني.

إسماعيل شموط عكس بفنه مرحلة مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني وتأثر بفنه الكثير من الفنانين الفلسطينيين ومن بينهم أنا. وأي دارس للفن الفلسطيني قبل عام 1948 يلاحظ النقلة الهامة التي قام بها إسماعيل شموط. وفي رأيي فإنه أسس وبجدارة للفن الفلسطيني في النصف الأخير من القرن العشرين. أما كمال بلاطة فهو مثال للفنان المثقف والذي أرّخ الفن الفلسطيني بصورة عميقة وبأسلوب شيق. وبالرغم من أن أعماله الفنية قلما تتعاطى مع القضية الفلسطينية إلا أنها ذات طابع أصيل ومتميز وساحر ببنائها الهندسي النظيف وألوانها الرائعة. أما نبيل عناني فهو في رأيي أفضل فنان فلسطيني مثّل المشهد الطبيعي والقرية وعمرانها وقد ساعده على ذلك معرفته الواسعة بالقرية والريف وتراثه حيث قضى فترة مهمة من حياته في قريته حلحول التي لا يزال ولغاية اليوم يتحدث عنها بحنين وشوق.

من لوحاته:
 

سليمان منصور وأحمد البحراني

 

خلال الأيام القادمة سننشر مع مواد المجلة المزيد من لوحات منصور التي خصّنا بها.

الكاتب: أوس يعقوب

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع