لقد قاد تخاذل الحكومات العربية تجاه القضية الفلسطينية الجماهير العربية والفلسطينية إلى موجات عديدة من الغضب والسخط، بدأت منذ بداية تجليات القضية الفلسطينية في العام 1948 والمعروف بعام النكبة، هذه النكبة التي وقعت كالصاعقة على رؤوس آبائنا وأجدادنا على خلفية تقاعس الحكومات والنظم العربية في التصدي للعصابات الصهيونية المنظمة وفقاً لما ادعته الأنظمة العربية، والتي بادرت بتكوين جيش الإنقاذ لهذه المهمة، إلا أن الأيام قد كشفت الحقيقة المؤلمة فلا كان جيشاً ولا عمل للإنقاذ، لتقع الواقعة سيئة الذكر على رؤوس الفلسطينيين والعرب، وليتفجر نهر الغضب العربي على خلفيتها وعلى خلفية جميع الأحداث اللاحقة ضمن مسلسل التخاذل الرسمي العربي، الذي وجد في تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية منفذاً لتفريغ موجات الغضب العربية والفلسطينية، هذه المنظمة التي تشكلت مكبلة وفاقدة لقدرة التصدي لمهمة التحرير، فانتفضت الجموع الفلسطينية ما بعد النكسة العربية في 1967 معلنة انتزاع منظمة التحرير من قبضة الأنظمة العربية المعيقة لمسيرة التحرير ومتسلحة بخطاب المقاومة والتحرير الفلسطيني.
عبر الفلسطينيون بذلك عن أعلى درجات الغضب والسخط وفقدان الثقة بالأنظمة العربية التي أثبتت الوقائع والأحداث المتلاحقة منذ النكبة ومروراً بالنكسة ووصولاً لليوم، عجزها، بل وتواطئها مع قوى الاحتلال الصهيونية، ونتيجة لذلك شهدنا تحولاً في الخطاب والممارسة الفلسطينية قام على اعتبار الصراع مع قوى الاحتلال صراعاً فلسطينياً، مما ساهم في تكريس الانطواء الفلسطيني عن بعده العربي وبشقيه الرسمي والشعبي، وهو ما يتجاهل جملة من العوامل والمرتكزات الحاسمة في عملية التصدي للقوى الصهيونية ومنها تمادي رد الفعل الفلسطيني على تخاذل وتأمر الأنظمة العربية ليطال الشعوب العربية التي أثبتت الأيام والسنوات السابقة اندفاعها وإقدامها في التصدي للمشروع الصهيوني ولأذرعه المحلية. كما يتجاهل رد الفعل الفلسطيني دور الأنظمة العربية في قمع وكبت الشعوب العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والذي أدى إلى ضمور الفعل الشعبي العربي المباشر أو غير المباشر من أجل فرض أجندته الوطنية والقومية على الحكومات العربية الموجودة. مما أدى لخسارة البعد الشعبي العربي اللوجستي والسياسي والمالي والمعنوي.
نضيف إلى ذلك انسجام خطاب الانطواء الفلسطيني مع الخطاب الرسمي العربي، والذي اتخذ من هذا الانكفاء ذريعة من أجل تشييد جدار صلب يعيق ويمنع الشعوب العربية والفلسطينية ضمناً من المساهمة ولو بمقدار قليل في مجرى الصراع. كما بات خطاب “فلسطينية القضية” المدخل الرئيسي لخطاب الخصوصية الوطنية وضرورات الأمن الوطني والتي تتجاهل الخطر الصهيوني، وتستهدف تكبيل وحصار التجمعات الفلسطينية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً تحت حجج وذرائع واهية.
يتجاهل هذا الخطاب الوقائع الديموغرافية الفلسطينية الناجمة عن الطبيعة العدوانية والاقتلاعية والاستيطانية الصهيونية، والتي أدت إلى اقتلاع العديد من الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم ومدنهم ومن ثم جلب مجموعات بشرية جديدة هم المستوطنون، من شتى بقاع العالم وزرعهم عنوة في المدن والبلدات والأراضي المحتلة، الأمر الذي يشكل عائقاً كبيراً أمام أي حركة تحرر وطنية فلسطينية بحتة نتيجة لاستبعاد اللاجئين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً من يتواجد منهم داخل الأراضي العربية للاعتبارات التي ذكرناها سابقاً، كما تم تحييد فلسطينيي الداخل المعروفين بعرب 48 وسكان مدينة القدس من الصراع العسكري المباشر نتيجة للظروف الدولية والداخلية التي تتيح للقوى الصهيونية نفي وطرد وتشريد أي فلسطيني من هذه التجمعات الفلسطينية تحوم الشكوك حول مشاركته أو مساهمته بنشاط عسكري ضد قوى الاحتلال الصهيونية، وهو ما يؤدي إلى خسارة فلسطينية مزدوجة تتمثل الأولى بتقلص القاعدة الجماهيرية المشاركة في الصراع المباشر مع القوى الصهيونية، وتتمثل الخسارة الثانية في مزيد من التراجع الفلسطيني في معركة الوجود البشري والثقافي الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948 أو داخل مدينة القدس.
وأخيراً، من الواضح عدم توافق سياسة الإنكفاء والانطواء الفلسطينية مع طبيعة المشروع الصهيوني وطبيعة الأهداف الدولية من دعمه وزرعه في منطقتنا، والقائمة على ممارسة سياسة استعمارية توسعية بغرض ضرب جميع المحاولات التقدمية والتحررية التي قد تفضي لبناء مشروع نهضوي عربي أو قطري في أي بقعة من بقاع العالم العربي، مع ملاحظة عملية تسويق هذه الهجمات الإجرامية والعدائية تجاه شعوب ودول المنطقة العربية من قبل قوى الاحتلال الصهيونية والقوى الدولية الداعمة له على اعتبارها ضربات استباقية ووقائية تهدف إلى حماية هذا الكيان من محيطه العدائي، كما يتم تبرير الدعم المالي والعسكري واللوجستي اللامحدود الذي يتلقاه هذا الكيان من دول العالم الأول قاطبة ببناء القدرات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية للكيان الصهيوني من أجل المجابهة الشاملة مع الدول العربية مجتمعة، الأمر الذي يخلّ بشكل كبير في ميزان التفوق والقوى الصهيونية عند مقارنته مع قوى وإمكانيات الفلسطينيين فقط.
إذاً، لقد استندت دعوات الانكفاء والانطواء الفلسطينية إلى موجات الغضب والسخط الشعبية على خلفية تخاذل وتآمر الأنظمة العربية على القضية الفلسطينية، ولكن هذا التوجه قد قادنا إلى تقليص القاعدة الجماهيرية المعنية بالمواجهة مع قوى الاحتلال الصهيونية، وتحجيم القدرات والإمكانيات اللوجستية التي تمتلكها أو قد تمتلكها حركة التحرر الفلسطينية، وهو ما قادنا إلى تفوق واضح وساطع للقوى الصهيونية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مما ساهم في ضياع وتهميش مشروع التحرير لصالح مشاريع التنازل والاستسلام العربية والفلسطينية.